اسماعيل غزالي: ذبابة التحرّي الزرقاء

في موروثنا الشعبي عن مملكة الحشرات، نفصل بمقت جنس الذباب جانبا، بالنظر إليه كمخلوقات جرثومية تتنزه طوال برهة حياتها بين قمامة وأخرى، قبل أن تتسلل إلى فضاء السكن الإنساني، لترسخ نشاز إزعاجها أولا، وتفشي عدوى أمراضها المستشرية ثانيا. هذا عن فصيلة الذباب العادي، أما الفصيلة الأشد مقتا، فهي الزرقاء منها، لارتباطها الوثيق بالموت.

في المعتقد الشعبي دائما، ينظر إلى الذباب الأزرق بارتياب، بذعر وهلع، بقلق وسوداوية، فهو إما علامة شؤم تنذر بالموت الوشيك، أو هو دليل إلى تحلل جثة في الجوار، فقد يكون احتمال مجيئه الموسمي من مقبرة في المحاذاة، أو الراجح أن يكون آتيا من مكان مشبوه مأهول بالموت الطارئ، سواء تعلق الأمر بنفوق حيوان أو إنسان، الشيء الذي جعل توصيف هذا النوع من الذباب المرعب بـ”ذباب الموت”.

وجرى مجرى التمثيل له في مأثورات الجريمة بمقولات لاذعة مثل: “لن يعرف الذباب الأزرق مكانك”، وهو مثل نضربه لتأكيد نفي شخص بالقتل وجعل مكان جثته مجهولا مستعصيا على الاكتشاف إلى الأبد.

لم يجانب المعتقد الشعبي حقيقة متلازمة الذباب الأزرق والموت، إذ استأثر سلوك هذه الحشرة الغريبة باهتمام الطب والعلم معا، وعبر دراسة وتتبع بزوغها وتناسلها وتكاثرها، نشأ علم الحشرات الجنائي، واستخدمت في التحقيقات الجنائية للكشف عن ملابسات القضايا الشائكة ذات العلاقة بجرائم القتل والاغتصاب.

وفق تاريخ الانتباه إلى جدوى الحشرات وفاعليتها في الكشف عن قضايا غموض القتل التي حيرت كبار المحققين وسادة التحري، ترجع أول حادثة إلى الصين كما أدرجها المحامي ورجل التحري الصيني سونغ تسو في كتابه “غسل الحياة” The washing way of lifeضمن معرض حالات الجرائم الغامضة أو الوفيات المبهمة والطريفة التي أشرف على التحقيق فيها أو عمل عليها بشكل أو بآخر، مسجلا ملاحظات فارقة حولها. موجز الحادثة، مقتل مزارع بأداة منجل. إثر ذلك احتُكم إلى شيخ القرية الذي لم يتردد في طلب إحضار جميع مناجل المزارعين، وما أن وضعوها بتباعد على الأرضية حتى احتشد الذباب على أحد هذه المناجل، وقد جذبته بصمة الدم وإن حاول صاحبه تنظيفه بعناية، وكان دليلا دامغا على مقترف الجريمة.

لقد اعتمدتْ ملاحظات سونغ الدقيقة في تجاربه التشريحية للجثث قبل الدفن وبعده، وشكلت مستندا صلبا في بدايات علم الحشرات الجنائي، خاصة في تعداد الطرائق العلمية التي تفضي إلى حقيقة أسباب الموت.

سيشهد هذا العلم طفرة نوعية مع الطبيب والشاعر الإيطالي فرانشيسكو إل ريدي، صاحب ديوان “باخوس في توسكانا”، وهو مؤسس “علم الأحياء التجريبي”، الشهير بنفيه المطلق لفرضية التوالد الذاتي لليرقات من اللحوم المتعفنة بشكل عام، فاللحوم المتعفنة غير المعرضة للهواء لا تنشأ فيها اليرقات، في حين تنشأ في اللحوم المتعفنة المعرضة للهواء، وبذا غير الطريقة التقليدية التي كان ينظر بها العلماء إلى تحلل الكائنات الحية.  

ويعد الطبيب الفرنسي بيرجيري داربوا أول من طبق علم الحشرات الجنائي على قضية جثة طفل عام 1850. فيما وضع مواطنه جان بيار ميجنين أسس علم الحشرات الشرعي في نهاية القرن التاسع عشر.

 ثم تعاقبت في القرن العشرين الدراسات التي دققت في عمر الجثث وأسباب وفياتها بالاحتكام إلى تطور أنواع الحشرات، وفي مقدمتها الذباب الأزرق الذي يحظى بتقدير علماء التحقيقات الجنائية. فبفضل نشاط الحشرات، وضمنها الذباب الأزرق، أصبح في إمكان التطبيقات الجنائية تحديد توقيت الوفاة في قضايا العثور على الجثث، وتحديد الظرف الزمني لحدوثها ليلا أو نهارا. كذلك تحديد المكان الفعلي للوفاة، إذا ما نقلت الجثة إلى مكان مغاير، من أجل طمس معالم الجريمة على سبيل التمويه.

أكثر من ذلك، تحديد الجاني المسؤول على القتل، وهذا أوفى وأمثل ما تسديه الحشرات من خدمة جليلة للمحققين، زد على ذلك، فرز حالات الوفاة الشائكة، إذ في إمكان هذا التطبيق الجنائي أن يفصل بين حوادث الانتحار ووقائع الموت المفاجئ. ففي حوادث الانتحار، يكون مكان الجرح الذي تحتشد فيه الحشرات دليلا على معرفة نوع الانتحار، وفي وقائع الموت المفاجئ يُفحص غذاء الحشرة للكشف عن المواد السامة لمعرفة السبب. ويشمل علم الحشرات الجنائي جرائم الاغتصاب أيضا، مع تحليل الحمض النووي الذي اقتاتت منه الحشرة كدليل على هوية الجثة من ناحية، وهوية الجاني من ناحية ثانية، كما تمتد هذه التطبيقات الجنائية إلى حقول أخرى، منها تحديد مصدر تهريب المخدرات وتحديد المسار الجغرافي لتهريبها في وسائل النقل وغيرها، وكذلك حوادث سقوط الطائرات وعمليات التجسس.

قياسا إلى الحقل العلمي والجنائي، نادرة هي العناوين الأدبية والفنية التي استأثرت بوسم الذباب الأزرق، وإن كانت متون العديد من الروايات والقصص القصيرة والقصائد والأفلام السينمائية قد تضمنت حضوره، إما بشكل عابر أو بشكل مركزي، ويمكن التلميح إلى نماذج، منها قصيدة “الذبابة الزرقاء” للشاعرة الأميركية إيميلي ديكنسون، وأخرى للشاعر البريطاني روبرت غريفز، ومسرحية “الذباب الأزرق” للأديب المصري نجيب سرور، وقصة “الذبابة الزرقاء” للكاتب التشيلياني إرنستو مونتينيغرو، وفيلم الرعب “الذبابة الزرقاء” للمخرج الأميركي سبنسر هاكيت، ثم اللوحة البديعة للفنان التشكيلي الألماني المعاصر رودولف كوسو التي توجز غرابة هذه الحشرة البوليسية ورعبها، في مشهد لأربعة رجال يحتشدون في طريق برية، يتفرد أحدهم وهو يرتدي قبعة، بحمل أوراق هي في غالب الظن ملف جنائي، في حين يستغرقون في تأمل أفق تتسيد فيه ذبابة زرقاء بحجم كوكب هي دليلهم نحو فك غموض جريمة عصر بأكمله.

خلاصة القول: الذبابة الزرقاء، خيط أريانا نحو جثة منسية في أدغال المتاهة.

*المجلة