زياد عبد الله: سِفر الخروج في 44 مئوية

المدينة مخدّرة بالقيظ.

الشوارع جثة هامدة.

وحدها السيارات على قيد الحياة ولا جديد في ذلك.

لا بد لي من كتابة سِفر الخروج من مكيّف الهواء!

لم يعد عنوان كتاب ميللر “كابوس مكيّف هواء” مغرياً كما في السابق! بات المكيّف فردوساً في المقهى الذي أمضيت فيه حتى الآن نصف ساعة وأنا أتجرع القهوة من دون رفيقتها البديعة السيجارة، كما لو أنني “أشرب دموع كلب” وهذه العبارة اقتبستها من قصة دنيس جونسون “عرس قذر” التي كنت أقرأها أثناء مجابهتي محنة انخفاض منسوب النيكوتين في دمي… يا لها من عبارة، يا لها من قصة!

لو أنني قصدت حانة لما دخلت بمعادلة الفردوسي واللا فردوسي، كنت تجرعت ما أشاء من بيرة مع عشرات السجائر والسلام، لكنها معدتي اللعينة منعتني من ذلك، وبدت في لحظة متآمرة مع المعادلة الفردوسية جراء كميات التكيلا التي تجرعتها ليلة أمس.

وها قد خرجت كما خرج آدم من الفردوس لأدخن… التدخين سببٌ وجودي للتضحية بنعيم الفردوس، ولأكتشف أنني لم أفقده كاملاً، بل نصفه ربما، وقد بتُ نصف آدم وباب المقهى مفتوح وهو يهبني نسائم المكيف الفردوسية، متقاسماً الجو مع نفحات القيظ الجهنمية… درجة الحرارة في دبي: 44 درجة مئوية، اللهم إني قد بلغت.

المدخنون متوزعون على الطاولات المهجورة في الخارج، فجلست إلى واحدة منها ورحت أدخن بلذة عظيمة ونصفي بارد ونصفي ملتهب، وفي سيجارتي الثانية جاءت امرأة جمالها يسبقها ومن ثم يلحقها، وأنا عايشته – أي جمالها – وهو يسبقها ويلحقها، قلت لابد أنها حواء آسيا، لكن مع تعديل طفيف على قصة آدم معها، لكونها جاءت بعد خروجي من الفردوس ولم تخلق من ضلعي (مع أنني أتوق لأن تكون خارجة من ضلوعي) ونحو ذلك مما أحيطت به حواء من أساطير ولعنات صدقها 99% من البشر! 

الأهم من كل ما تقدّم أنها جلست إلى الطاولة المجاورة في كرسي مقابل، ثم بدّلت هذا الكرسي فأمست إلى جواري فقلت: لابد أنها قررت تنشق دخان سجائري.

لم تدخن على عكس كل الجالسين في الخارج! ثم إن حمامة مسكينة حطت من غائب علمه أمامنا وراحت تمد يدها إليها و”تبسبس” أو هكذا شبّه لي، فقلت لها أغبى عبارة نطقتها في حياتي: هذه ليست قطة Cat، طبعاً بالإنجليزية…

تجاهلتني تماماً! وهذا طبيعي، فلو كنت مكانها لفعلت الشيء ذاته، لكنني حفاظاً على كرامتي توصلت إلى أنها لا تعرف الإنجليزية، رغم يقيني أن 99% من البشر يعرفون ما تعنيه Cat، ورحت أتحذر من أي بلد هي، وقد اجتمعت ملامحها الآسيوية مع جمال نساء متحدرات من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، ومع وصولي إلى تلك البلدان كنت سأقول لها “بوشكا” إمعاناً في أغبى عبارة نطقتها أو لأنها “بوشكا” بحق، أي قطة بالروسية، وللأمانة فإن قطة بالروسية كنت قد تعلمتها منذ يومين أو ثلاثة، أي بعد مشاهدتي فيلم “المقصورة رقم 6″[1] وتحديداً حين تمضي الفلندية لورا مع لوخا في رحلة عجائبية لزيارة امرأة عجوز لديها قطة ولا شيء سوى ذلك.

وبينما كنت في خضم الفيلم و”بوشكا” جاء صاحبها أو حبيبها أو زوجها أو نحو ذلك والتحق بها، وقد كان انغلوساكسونياً على مشارف الستين أكثر أو أقل بقليل، وكاد أن يهرق القهوة لولا أنها أنقذت الموقف، ورحت بيني وبين نفسي أردد: أمممم… أو شيء من هذا القبيل أمام معرفتي العيانية والعميقة بعلاقة العجائز الأنغلوساكسونيين والآسيويات في مقتبل العمر أو من لفّ لفهن، وقد تنامى ذلك لدي من كونهما لم يتقاسما شيئاً من الحديث هي في جوالها وهو في جواله، اللهم أنه تلقى مكالمة من مصلّح مكيّف الهواء في بيته أو بيتهما، وأمضى أكثر من عشر دقائق في شرح أسباب العطل في مكيف شقته التي على ما يبدو خرجت من الفردوس وحواء معه وحياله، يا له من ناكر للنعمة يستحق مصيراً مماثلاً لآدم لا بل وأشد!

على كلٍّ عدت إلى غرفتي، وما إن وصلتها حتى أوقفت معدتي إضرابها عن الكحول فشربت جن Gin إيرلندي عظيم وتوصلت إلى أن الإيرلنديين مجانين، جنهم (أي الجن الخاص بهم) لا يُشرب إلا صافياً، من دون أي إضافات: لا تونيك ولا ليمون ولا أي شيء من هذا القبيل! وأمام هذه الحقيقة أقدمت على تجرعه وأنا أفكّر بتأليف كتاب عن علاقة العجائز البيض الأنغلوساكسيين بالشابات اليانعات الآسيويات أو من لفّ لفهن، أليس هذا إرثاً استعمارياً أيضاً، ما بعد استعماري للدقة؟

*اوكسجين