سعاد العنزي: أدبُ ما بعد النكبة الفلسطينية: تعبيرٌ عن الحبِّ

بينما قيل الكثير عن الأدب بوصفه فعلاً من أفعال المقاومة، فإنَّ من المفيد هنا حسبان الأدب تعبيراً عن الحبِّ أيضاً، إذ إنَّ أسلوب تمثيل الوطن من خلال استخدام رموز الأنوثة تمَّ اللجوءُ إليه على نطاق واسع في الأدب المكتوب باللُّغة العربيَّة، ولا سيَّما ما كتبه الفلسطينيُّون.
كثيراً ما جسَّد الكتَّاب العرب الوطن بأنَّه أنثى، معبِّرينَ عن وطنيَّتهم من خلال استخدام الخصائص الأنثويَّة للجمال من أجل وصف وطنهم. غالباً ما يوصف إخلاصهم لبلدهم الأصليِّ بلغة وصور توحي بعلاقة حميمة مع المحبوب. لقد اختار درويش وشعراء عرب آخرون، مثل نزار قباني، تمثيل وطنهم بامرأة على نحو رمزيٍّ. وفقاً لمحمَّد ناصر، فقد خاطب الشعراء العربُ تاريخيّاً الوطنَ مباشرةً في كتاباتهم باستخدام ضمير المخاطب الثاني (أنتَ). إنَّما، في الشِّعر الأكثر حداثةً تمَّ استبدال هذه الممارسة التقليديَّة بالميل إلى وصف الوطن باستخدام صفات مرتبطة عادةً بالمرأة في الثقافة العربيَّة. قد تكون لهذه الممارسة أصول لغويَّة، إذ إنَّ الكلمة التي تستخدم على نحو شائع في الشِّعر للإشارة إلى الوطن تعني حرفيّاً الأرض، وتصنَّف بأنَّها اسم مؤنَّث. إذن، من الناحية اللغويَّة، ليس أمام الشعراء الذين يكتبون باللُّغة العربيَّة خيار سوى توظيف أشكال أنثويَّة في الإشارة إلى هذه الكلمات. ويشير أحمد حيدروش إلى الممارسة المتَّبعة في مختلف الحضارات القديمة، والمتمثِّلة في تسمية المدن بأسماء الإناث، مثل أثينا، أو الحديث عنها باستخدام الصيغة الأنثويَّة. يناقش حيدروش في أنَّ هذا يوضِّح علاقة رمزيَّة بين الأرض والأنوثة، مع وجود العديد من الثقافات التي توظِّف مفهومَ الوطن الأمِّ.
استخدم بعض الكاتبات، بمن في ذلك سعاد الصباح ولميعة عبَّاس عمارة ونازك الملائكة، الاسم المذكَّر «الوطن» حين التعبير عن مفهوم الديار لأنَّ هذا يتيح لهنَّ ربط هذا الحبِّ بعلاقة حميمة بين الحبيب والمحبوب. وعلى الرَّغم من ذلك، لا يبدو أنَّ هناك أيَّ دليل ملموس على وجود اختلاف جنسانيٍّ ثابت في استخدام المصطلحات في الإشارة إلى الوطن في العالم العربيِّ، كما يوضِّح شعر درويش. حين معالجة هذه القضيَّة من منظور الاستعمار، عادةً ما يُشار إلى المستعمر بصفات ذكوريَّة، في حين تُوصَف الأرضُ المستعمرَة بمصطلحات أنثويَّة، الأمر الذي ينتج عنه ارتباط رمزيٌّ بين الوطن والمرأة. كما لاحظ أشكروفت وغريفيثس وتيفين Ashcroft, Griffiths and Tiffin ، فإنَّ النسويَّة تعدُّ ذات أهميَّة حاسمة لخطاب ما بعد الاستعمار على أساس:

«يمكن النظر إلى كلٍّ من النظام الأبويِّ والإمبرياليَّة بأنَّهما يمارسان أشكالاً مماثلة من السيطرة على أولئك الذين يظهرون الخضوع لهما. وعليه، فإنَّ تجربة النساء في النظام الأبويِّ، وتلك الخاصَّة بالرعايا الخاضعين للاستعمار، يمكن أن تحمل أوجه تشابه في عدد من النواحي، ويعارض كلٌّ من السياسات النسويَّة وما بعد الاستعمار على حدٍّ سواء هذه الهيمنة». ثمَّ، فإنَّ كلا ممَّا بعد الاستعمار والنسويَّة يشارك الآخر الهدف عينه، والمتمثّل في تقديم نقد لهيمنة السلطة، بالإضافة إلى تفكيك خطابها. لقد قيل إنَّ الصلة التكافليَّة بين الوطن والجنس الأنثويِّ ترتبط إلى حدٍّ كبير بما يسمِّيه روبرت يونغ Robert Young «الرغبة الاستعماريَّة». يشرح مؤلِّفو كتاب «دراسات ما بعد الاستعمار» Post-Colonial Studies كيف توصَّل يونغ إلى هذا الاستنتاج:
«إنَّ فكرة الاستعمار في حدِّ ذاتها ترتكز على خطاب جنسيٍّ عن الاغتصاب والإقحام والتلقيح، في حين أنَّ العلاقة اللاحقة بين المستعمِر والمستعمَر غالباً ما يتمُّ تقديمها في خطاب تفوح منه رائحة الغرابة الـمـُجنَّسة. وتالياً، فإنَّه حتَّى السِّمات الإيجابيَّة للمواقف الاستعماريَّة في الخطاب، مثل الاستشراق، تعكس رؤيةً ذات طابع جنسيٍّ مختزلة على نحو أساس». يفسِّر هذا سبب مقارنة الوطن المستعمَر أحياناً بالمرأة التي جرى انتهاكها، إذ يرى المستعمِر أنَّ المستعمرات مصدر متعة وإثارة جنسيَّة. لا يقتصر استخدام هذا النوع من التعبيرات على الكتَّاب الفلسطينيِّين فحسب، بل من قِبل العرب عموماً، الذين يعدُّون بلادَهم نساءً محبوبات تعرَّضنَ للإساءة من قبل حكوماتهم الديكتاتوريَّة، وهو موضوع شائع في العديد من قصائد نزار قبَّاني.

فيما يتعلَّق بصورة النساء في أعمال درويش وسعيد، يلاحظ عبد الهادي أنَّ العديدَ من الإشارات تشير إلى النساء في شِعر درويش، بما في ذلك الأمّ، الحبيبة، الجدَّة والأخوات. كانت العشيقة سمة مهمَّة في شعر درويش، حيث ينعكس فيه موقفه تجاه النساء. يلاحظ كريسويل أنَّ اسمَ امرأة على وجه الخصوص يتكرَّر في قصائد الحبِّ خاصَّته: «على مرِّ السنين، أصبحت ريتا فكرة مهيمنة متكرِّرة في شعر درويش. تعود مراراً وتكراراً، مثل … هوس». يجادل كريسويل Creswell في أنَّه حينما يصف درويش ريتّا، وهي امرأة يهوديَّة من أصل بولنديٍّ روسيٍّ، فإنَّه يستخدم النوع عينه من السمات التي تُستخدم عادةً للإشارة إلى الحبيبة في الشعر العربيِّ: «عيناها بلون العسل، وتنام كثيراً (لأنَّ الكسل مثير) شعرها كثيف وثقيل مثل ذيل الحصان، وهي دائماً في مكان آخر». هذه السِّمات لا تسمح للقرَّاء بتعرُّف ريتّا أنَّها امرأة غير عربيَّة، حتَّى يعمد درويش إلى هذا التمييز بنفسه من خلال الإشارة إليها بأنَّها مقاتلة في الجيش الإسرائيليِّ. صوَّر درويش ريتّا، إذن، في كلِّ النواحي، بأنَّها الأخرى. ربَّما يكون من الممكن التحدُّث عن شخصيَّتين باسم ريتّا: إحداهما رمزٌ شعريٌّ والأخرى امرأة حقيقيَّة. في الحالة الأولى، حينما يصف درويش ريتّا، فكثيراً ما يتمُّ استحضارها من حيث الخصائص الجسديَّة للجمال المنسوب تقليديّاً إلى المرأة العربيَّة في الأدب العربيِّ والثقافة العربيَّة. إنَّها بناءٌ أدبيٌّ جُعل مثاليّاً. وعلى الرَّغم من ذلك، حينما يصوِّر ريتّا في مكان آخرَ بأنَّها «أخرى» فهذا يشير إلى هويَّتها الحقيقيَّة حسبانها امرأةً يهوديَّةً ذاتَ سمات ثقافيَّة مختلفة، وقد كانت عشيقته و«الأخرى».

يشير كلٌّ من درويش وسعيد إلى حبِّهما الشديد لأُمَّيهما. ذكرها درويش في عدد من أبياته مثل «أحنُّ إلى خبز أمّي». وحسب جبران، فإنَّ علاقة الشاعر بوالدته، كما صُوّرت في عمله، عكست تلك التي كانت تربطه بها في الحياة الواقعيَّة: «لم تتغيَّر صورة والدته على مرِّ السنين، وظلَّت إلى حدٍّ ما الشخصيَّة الأنثويَّة الجميلة والمحبِّة عينها التي كانت تمتلكها دائماً».
يناقش سعيد أيضاً العلاقة المحبِّة التي تجمعه بوالدته في «خارج المكان» مؤطِّراً إيَّاها على نحو صريح من حيث الارتباط الروحيُّ بينهما، حيث يعلن: «كانت أوَّل شخص أحتاج إلى أن أحكي له قصَّتي. إنَّ الشعور الذي كان ينتابني في البداية، ومع والدتي، بوجودها الدائم، وكما أتخيَّل، فإنَّ قدرتها غير النهائيَّة على الاعتزاز بي، بهدوء، وبصورة غير محسوسة، قد وجَّهت حياتي لسنوات عدَّة».
في المقابل، أعرب كلا الكاتبين عن مشاعر سلبيَّة تجاه فكرة الأبوَّة. ينتقد سعيد صراحة والده الحقيقيَّ كونه شخصاً مارس سلطة أبويَّة على أسرته، وعلَّق قائلاً: «قد يكون هذا رمزيّاً للتشابه الرابط بين خطاب الاستعمار والنظام الأبويِّ». إنَّ تمثيل درويش للأبوَّة في شعره ليس ثابتاً تماماً، كما يبدو أنَّ علاقته بوالده تغيَّرت على مرِّ الزمن.
لاحظ الناقدان عبد الهادي وخالد مطاوع، أنَّ درويش يتنقَّل باستمرار بين صور المرأة التي يحبُّها ووطنه بطريقة تجعل من الصعب على القرَّاء التفريق بينهما بوضوح. في سبيل المثال، في قصيدته «النزول من الكرمل» يخلط بحريَّة بين أوصاف الإناث اللاتي أحبَّهنَّ، وأوصاف البلدان التي عرفها. إنَّ ترك الكرمل (منزله) والعيش بعد ذلك كغريب في المنفى الدائم قد عنى أنَّه التقى العديدَ من النساء والبلدان، ومُنع من الاستقرار في منزل واحد. يوضِّح درويش في عمله أنَّه، وعلى الرَّغم من حبِّه كلَّ أولئك النساء والأماكن، إلَّا أنَّ أيّاً منهنَّ لم تقترب من أن تجلب إليه المتعةَ التي اختبرها حين العيش في الكرمل. وهكذا، من الواضح أنَّ حبَّه لفلسطين سيظلُّ دائماً أعظم حبٍّ في الإطلاق.
يُظهر تحليل «النزول من الكرمل» أنَّها تفتقر إلى العديد من السمات الأسلوبيَّة للُّغة الأدبيَّة التي يشيع وجودها في شعره الآخر، ويستخدم الاستعارة على نحو ضئيل نسبيّاً. وعلى الرَّغم من ذلك، فهو يستخدم التكرار في هذه القصيدة على نحو فعَّال، كما يوضِّح المثال التالي:
تركتُ الحبيبة لم أنسَها
تركتُ الحبيبة
تركت
إنَّ هذا التكرار لجملة (تركت) يجسِّد بإيجاز عمليَّة انفصاله عن الحبيبة وعن الكرمل (وطنه). في البداية، ينصبُّ التركيز على متعة تذكُّر الحبيبة، ثمَّ على عذاب ترك الحبيبة، وفي النهاية يتحوَّل التركيز كلُّه على ألم إدراك أنَّه منفيٌّ. في نهاية القصيدة، يستخدم التكرار مرَّة أخرى مستخدماً جملة (خذيني) أربع مرَّات، إذ يتوسَّل إلى وطنه كما يتوسَّل المرء إلى الحبيب أن يستعيده:
خُذيني تحتَ عينيكِ
خذيني لوحةً زيتيّةً في كوخ حسراتِ
خذيني آيةً من سفر مأساتي
خذيني لعبةً… حجراً من البيت.
يجسِّد هذا التكرار توقه إلى أن يكونَ في فلسطين، دون أن يهتمَّ بالمصير الذي ينتظره هناك. وحسب ريغلوث Reigeluth، فإنَّ التكرار سمة مشتركة في الأدب الفلسطينيِّ على نحو عامّ، وفي أعمال درويش يكرِّر الشاعر الأفكارَ والرموزَ والمعاني بغية الدلالة على مشاعره العميقة بالحنين إلى الماضي. كما هو متوقَّع، نادراً ما يلجأ سعيد في نصوصه الأكاديميَّة إلى مخاطبة وطنه على نحو رمزيٍّ، بطريقة تراعي الجنسانيَّة عن قصد، هذا إن فعل ذلك. وعلى الرَّغم من ذلك، في سيرته الذاتيَّة والكتابات الأكثر شخصانيَّة، التي تحرَّرت من القيود الشكليَّة التي يفرضها الخطابان النقديُّ والنظريُّ، يشرح سعيد كيف ساعدت شخصيَّة خالته نبيهة، التي لا تُنسى، في خلق وعيه بوطنه، وساعدته في تعزيز علاقته بفلسطين. في «بعد السَّماء الأخيرة» يتحدَّث سعيد عن دور نبيهة في المجتمع الفلسطينيِّ المقيم في المنفى «لقد تذكَّروا عمَّتي، والدة فلسطين، وقد تمَّ استدعاؤها، أكثر من شقيقها، على الرَّغم من أنَّ والدي لم يتخلَّ قطُّ، حسب علمي، بسبب أيِّ شيء».
من خلال استخدام الاستعارة القويَّة، وهي «أمّ فلسطين» يشير سعيد إلى جهودها في تقديم مساعدات سخيَّة من مختلف الأنواع لإخوانها الفلسطينيِّين الذين يعيشون في مصرَ، ومساعدتهم في المشكلات التي واجهوها، في سبيل المثال، فيما يتعلَّق بتكاليف التعليم والعلاج الصحيِّ. في «خارج المكان» يعترف بأنَّ وعيه السياسيَّ، فيما يتعلَّق بمحنة اللاجئين الفلسطينيِّين، جاء في الأصل من معرفة المساعدة التي قدَّمتها لمواطنيها.

*القدس العربي