عبد اللطيف الوراري: من القصيدة إلى الكتاب: السيرة الشعرية بوصفها مغامرة الذّات

مشروع تحويلي

صار المشروع السيرذاتي داخل الشعر تحويليّا، فهو محض مغامرة تستدعي من الشاعر أن يكتب سيرته الذاتية بيد ويمحوها بيده الأخرى، وأن يحيل على وقائع من محكيّ حياته سرعان ما يفسخها خارج كلِّ ميثاق إلى حدّ أنه يصعب استجلاؤها، ولاسيما عندما ينتقل ذلك المشروع من فضاء القصيدة باعتبارها شذرات واستدعاءات مقطعيّة يُميّزها استعمال «أنا» سيرذاتي رمزي مرتبط بالقناع، أو «أنا» مرجعي مرتبط بالاسم الشخصي للشاعر، إلى فضاء الكتاب بما هو مجال حيوي ومُفكّر فيه، يعيد بناء السيرة وتخييلها من منظور جديد؛ أي أن موضوع السيرة الذاتية في شعرنا المعاصر لم يعد يُشكِّل عنصرا عابرا أو مُكوِّنا كغيره من المكونات الأخرى المتجاورة وحسب، بل غدا خصيصة بنائية أو بؤرة أساسية داخل البنية العامة للنص الشعري ككلّ.
يسند هذه الخلفية ويتجاوب معها في آن، ما صرنا نتعرّف عليه من نشاط الخطاب السيرذاتي، وتجدُّد سيرورته داخل متون الشعر العربي المعاصر، بحيث لم يعد هذا الخطاب يتعلّق بتوظيف نصوص، وإنما صار الأنا نفسه كنسقٍ في الخطاب، ناظمٍ لأصوات مُتشظّية، نلتقي به في أكثر من وضع تلفُّظي. يُصطلح على هذا الخطاب بـ(القصيدة السيرذاتية) بما أنَّه خطابٌ شعريٌّ يُداخِل بنيته السرد بشكلٍ يسمح لذات الكتابة أن تستدعي جزءا أو ملامح دالة من سيرتها الذاتية، وتعيد بناء طابعها البيوغرافي والمرجعي تخييليّا، إمّا بضمير الأنا أو بضمائر أخرى، حسب ما تقتضيه سيرورة البناء وإيقاع الدوال (اللسانية، البلاغية..) ومعمار التشكيل النصي، سواء كان النصُّ قصيرا، أو مُتوسّطا، وقد يطول إلى حدّ أن يستغرق مجموعة شعرية واحدة بكاملها، تحت أيِّ شكلٍ من أشكال الشعر (تفعيلي، نثري، مُهجّن أو مركَّب إيقاعيّا) ومصدرٍ من مصادره الكتابية: غنائي، صوفي، سريالي، شذري، حكائي وأليغوري.

شعر سير ذاتي

بيد أنّ هذه القصيدة أصبح يستوعبها مشروع الكتاب ويتجاوزها في آن، وهو ما يجعلنا نُؤْثر مصطلح «الشعر السيرذاتي» بدلا من مصطلح «القصيدة السيرذاتية» أو «قصيدة السيرة الذاتية» أو «قصيدة السيرة»؛ وذلك لاعتبارين،
شكليّا؛ لأنّ الأول يستوعب الثاني كخيارٍ كتابيٍّ محدَّد، مثلما يظلُّ متجاوبا مع ما طرحنا بخصوص اشتغالات السيرذاتي من منظور الكتابة وإعادة الكتابة؛ وهو المنظور الذي ساد الممارسة الشعرية اليوم بشكل أثّر على السيرذاتي وطريقة عمله ومداه الذي استغرق فضاء الكتاب ككُلّ.
ونوعيّا؛ لأنّ الكتابة نفسها تتمُّ كعلاقات حادّة في اللغة وعبرها، إذ ليس ما يُكْتب هو ما يهمّ داخل فضاء الصفحة، بل ما يُشكَّل ويُعاد توزيعه خطّيا ومقطعيّا، مُتوتّرا في البياض والفراغات؛ وهو ما يجعل الأنا السيرذاتي للشاعر يكتب سيرة ذاته الأخرى التي تستعيد ماضيها بقدر ما محتملها الكتابيّ، فيما هو يكتب ويمحو في آن. فالشاعر لا تعنيه فقط استعادة شذراتٍ ومقاطعَ من ماضيه وحياته الشخصية، بل كذلك بات يرسل عبر هذه الاستعادة مقاصد تداولية ضمن خطابه الخاص والمفرد، الذي يستمدُّ قوّته الأنواعية من نمط الفعل الذي يفترض أنه يحيل عليها، ومن السياق الذي يحيط به ضمنيّا، ثُمّ من طبيعة العناصر التي تساهم في نقله وتحويله، وبالتالي، فالسيرة الذاتية تستجيب لمختلف أنماط النشاط التكلُّمي، وتصير فعلا يبني في ذاته اللحظة السيرية الأهمّ في حياة المؤلف/ الشاعر. وعدا عن مفهوم الحقيقة الذي تلحُّ عليه في تحليل سير ذاتية نوعية، إلا أنّه يهمُّنا إلحاحها على الوعي بالقيمة التكلُّمية للسيرة الذاتية كفعلٍ لغويٍّ. وتتجلّى هذه القيمة في إنجاز ما يقوم به أنا الشاعر أثناء تلفُّظه بشيء ما، وعبر ضمائره الشخصية الممكنة. من هنا، يغدو حضور السيرذاتي في الشعر، أو في الخطاب الموازي له، تحقيقا لوضعية تواصلية تحتوي – نمطيّا- على متكلم ومخاطب، أنا وآخر عبر فعل الغيرية. فداخل النص توجد سماتٌ لسانيّةٌ وبلاغية ترشدنا إلى طبيعة هذه العلاقة: قصد المتكلم، وحجاجه، وردُّ الفعل الذي يرغب في إثارته لدى مخاطبه، وسياق السرد، وكيف يتموضع الفعل ذاته في علاقته بالفضاء والزمن، وغيرها من السمات التي تكشف عن هُويّة الأنا السيرذاتي وطبيعة حضوره شعريّا: حدوسات، رموز، أساطير، مناصّات، صيغ تركيبية وجمالية، إلخ.

عودة الذات: أنا لست أنا

يمثل ديوان محمود درويش «لماذا تركت الحصان وحيدا؟» ذروة العمل الشعري الذي تَحقّق فيه شرط الكتاب السيرذاتي؛ فقد نضج هذا الشرط وتضامّتْ فيه العناصر البنائية مع بعضها بعض، بشكلٍ أتاح لأنا الشاعر أن يكتب سيرته بوعي وقصديّة بارزين. والشاعر نفسه صرّح في أحد حواراته بما يشبه ميثاقا مرجعيّا، بأنَّ الديوان «يمثّل عودة إلى ماض ذاتي. ماضيّ في الكتابة. ذاتي الشعرية» بل إنّه يكشف عن خصوصية هذا الوعي الكتابي الذي يذهب بالشعر إلى السيرة ويحتضنها ضمن خواصّه، فيشير إلى «ما يشبه السيرة» التي تستدعي ما هو شخصي بقدر ما هي «تحمل تاريخا عامّا» من جهة، أو هي تستوعب «تفاصيل يومية» بقدر ما هي تطلق الغنائي «في فضاء أسطوري أو حتى ملحمي» يناجز سيرة الطفولة والمكان والأشياء في حساسيّتها الأولى واتصالها البدئي بالعالم.
يتأكد التعالق النصي بين الشعر والسيرة الذاتية في متواليات الديوان: افتتاحية وستة أطوار من سيرة الذات، ابتداء من ولادة الشاعر، مرورا بنزوحه من قريته، ثم انشغاله بمفردات الصراع الوجودي على المكان والهوية والإبداع. فالديوان له هندسة الكتاب الذي استقرّ موضوعه الرئيس على كتابة الذات، ومن ثمّ ينبغي أن تُقرأ النصوص كلا واحدا. فالشرط السيرذاتي ضمن النوع الشعري يعود إلى المرجع، ثُمّ سرعان ما ينفكُّ عنه؛ بحيث إنّ انفتاح السيرة على زمن البدايات الأولى للرؤية والإحساس التي خبرتها ذات الشاعر في اتِّصالها بالعالم، يوازيه الانفتاح على أنماط تعبيرية تستوعب ارتجاعات هذا الزمن العالق بالذاكرة والحلم والخيال، وهذا ما يقودها إلى تجاوز ما هو واقعي إلى ما هو أسطوري، وما هو غنائي إلى ما هو ملحمي، بكيفية نوعية تؤثر على تشكُّلات الذات والهوية وإيقاع الكتابة. لذلك، ليس مهمّا بالنسبة إلى السيرة المرجع فقط، بل كذلك بسبب ما يمارسه أنا الشاعر من «تخييليّة» على السيرة وعلى المرجع معا. يقول الشاعر في (حيرة العائد): «لا أحد يعود. لا أحد يعود تماما إلى مَنْ كانه وإلى ما كان فيه. لا أحد يعود إلا جماعة أو مجازا. ومجازا عدنا.. فما من شيء غير الخيال بقادرٍ على إعادة تركيب الزمن المنكسر».

مثل هذه العودة/ الاستعادة نجدها في شعر أدونيس، بل تواترت تجلّياتها على نحو يبرز افتتان الشاعر الشخصي بذاته منعكسة على مرايا التاريخ السياسي والثقافي في تعدد أصواته وتياراته الداخلية، متوحدا بأقنعته ورموزه وتمثيلاته؛ من مهيار الديلمي إلى أبي الطيب المتنبي، على نحو تغدو فيه العودة بمثابة سيرورة، وشبكة تخييل وتأويل، وبالتالي فهي «فعل اختيار للذات». وفي هذا السياق، يمثل «الكتاب، أمس المكان الآن» بأجزائه الثلاثة، مشروع الكتاب السيرذاتي، حين يجعل الشاعر من شخصيّة المتنبي ليس قناعا له يحيل على هوية مرجعية لرمزٍ تمَّ في سياق تاريخي مُحدّد، بل بالأحرى مرآة كثيفة تتكاثر أمامها صور أنا الشاعر في شتّى تجلياته وأبعاده التي يتجاور فيها السيرذاتي مع البيوغرافي، ويلتبس الواقعي بالخيالي، ويلتقي الديني والدنيوي، وعبر كُلّ ذلك بالشعر خطابات السلطة والتاريخ والفلسفة والفنّ، بشكْلٍ يثبت بأنّنا أمام «سيرة مُتخيّلة» يبتكرها الشاعر المعاصر بحدسه وبحثه وقلقه، ويبنيها من مجموع الشظايا التي تتلامح في «مرآة» ذاته، كما في «مرآة» المتنبي، ليس بوصفه شاعرا فحسب، بل «ثقافة عصر بكامله، وعصرا لثقافة مختصرة ومُكثّفة بشخص المتنبي وبشعره» كما يقول أدونيس.
ويعود قاسم حداد في ديوانه المُسمّى «أخبار مجنون ليلى» إلى قيس بن الملوح، إلى أخباره الأخرى غير التي عبث بها الرواة وأصحاب الكدية؛ أخبار شاعر عن شاعر بوسيط الاستعارة، داخل لعبة تتبادل الأدوار والرموز والأقنعة، فلا يبقى من قيس إلا مُدوّنته الشعرية التي أودعها حُبّه لليلى في متاهات الكتابة والحياة، أما مُدوّنة «الأخبار» التقليدية فلا معنى لها إلا في سياقات تنتظمها الكتابة من جديد، عبر استراتيجية مخاتلة تمارِس الإزاحة والنقض والتكثيف بين طرفي الخبر والنص، الرواية والشعر. إننا، والحال، بصدد سيرة تخييلية مُفجَّرة من الداخل، تستعيد المُدوَّنة من قبضة اللسان، وتعيد اللعب عليها من خلال لعبة المحو والتشكيل، بحيث لن تعود «أخبارا» تتضمن معلومات كيفما اتفق، بل مقاطع أو عناصر جديدة في نص جديد كُتبتْ بلغة استعارية- تصويرية تلازم معناها ولا تتعدّاهُ إلى غيره. تستضيف «الأخبار» منطقا جديدا ضمن لعبة الانعكاس المرآوي: كتابة داخل كِتابة، وسيرة داخل سيرة، بالمعنى التخييلي الذي يحتفي بالذات في خطابها، لا الأجناسي الذي يضع حدودا بين شكل وشكل. هكذا تخرج «الأخبار» من وظيفتها الإخبارية والتواصلية إلى وظيفتها التخييلية أو المرجعية الذاتية، حيث تتشكل ـ عموديّا- داخل شرطها الكتابي بعد أن تُصْهر عناصرها وموادّها وشذراتها بِشَكْلٍ فنّي يقلب تراتبيّة العلاقة بين المتن والهامش، الذي يصير هو جوهر العمل الشعري، بقدر ما يفتحها عَلى أُفق كتابي يحتفي بالتباساته المتولدة من سلسلة الألاعيب الخيالية التي لا تكُفّ عن إغواء الشاعر قاسم حداد المسكون أصلا بهاجس التجريب في كتابته الشّعرية، ورهانه الأساسي أن تصير «الأخبار» أخباره هو- ذاته عبر فعل الغيرية: تحلّ ذات قاسم في ذات قيس على نحو يسمح له في حاضر الكتابة باكتشافها، بل اختراعها: «مجنون ليلى هو أنا»!
وفي عمله السيرذاتي «البحث عن الزمن الحاضر: ديوان السيرة الذاتية» لا يعود هاشم شفيق إلى حياته الماضية وحسب: سيرة الطفولة، سيرة الصبا، سيرة الشباب في بغداد في مطلع السبعينيات، قبل أن يستقرّ به المقام في قبرص أواسط الثمانينيات؛ وإنما يعود معها إلى الحياة الكأداء في شرطها الأخلاقي والإنساني المنذور لحالات الفرح الشجن والمنفى والتشرد، التي اختبرتها الذات ولا تزال، فيما هو يستعيد كذلك سلسلة أحداث فتح عينيه عليها في بلده العراق وتأثر بها، ومعجما لغويّا- إثنوغرافيّا كثيفا من الوجوه والأمكنة والمآثر والعوائد المحلية والحيوانات والأطعمة والأشربة والطيور والنباتات والروائح، التي تصير في مجموعها قوى فاعلة لتحريك خيال الكتابة، بل تصير في منظور الذات الكاتبة «مطهرا» تريد أن تغتسل به وتوقظ أو تصل ما انقطع عنها في «الزمن الحاضر». وعبر إيقاع شذراته الكرونولوجية التي يُعاد تخييلها في حاضر الكتابة؛ ضمن سياق الشعر وما تتطلبه بنيته المخصوصة استعاريّا من أفعال التحويل والتكثيف والمحو، تتوتر الذات إيقاعيّا بين السطر والكتلة تبعا لتطور متواليات المحكي الشعري وكثافته السردية، كما لو أنّها تجتاز صراطا وتُمتحن بين لعبتي «المكتوب» بين مأهول وفارغ، وحظّ وعدمه. وإذا كانت جملة المؤشرات المرجعية والواقعية التي يجري استشفافها، تحيل على ماضي طفولته وحياته الشخصية، فهي بمثابة «محطّات توقف» تستثير لاوعي النص وتنتج دوالّه، بقدر ما تصير في تعالقها السيري- الشعري وسيطا بين العالم الحسي والشعوري الزائل للحدث والوجدان، وبين الحيز المتحول للأسلوب والدلالة.

ميثاق تخييلي

يتخذ صلاح بوسريف من العودة إلى السيرة «فعل اختيار» لأسلوب الكتابة التي يريدها ويحلم بها؛ فهي تتيح له شعريا أن يوسع دوالّ النص، وتجعل من الشّعر بالنسبة إليه أفقا للكتابة. صنع ذلك في معظم أعماله، مثل: «حامل المرآة» و»شرفة يتيمة» بأجزائها الثلاثة، و»رفات جلجامش» حيث العودة إلى الذات في حيواتها الماضية تتخذ شكل «كوجيطو تخييلي» يستنفر مغامرة الكتابة ومعمارها المادّي في ما هي ذاهبة إليه للبحث في جينيالوجيا المخبوء والعاري وغير المكتمل، والعمل على تدوينه بالرسم والخطّ وباللغة حمّالة الأوجه والمسارات. ويمكن أن نُمثّل بعمله الشعري ذي النفس الملحمي: «يااااا هذا، تكلم لأراك» الذي يعود فيه إلى جلال الدين الرومي ليس بوصفه قناعا يخترعه للتماهي معه، ولا قرينا مُحايثا لتجربة الذات في شرطه الأرضي والدنيوي وحسب، بل بوصفه أثرا «مُشظّى» يعيد اكتشاف تجلّياته الممكنة داخل محتمل الكتابة وبنائها التلفُّظي داخل ما يمليه عمل الصفحة كدالّ شعري وتوقيع بصري أو كتعبير سيميائي (علامات الحذف، النقاط والفواصل، توزيع الأسطر، الشكل الطباعي، الفراغ، الهوامش والإحالات) ومسعاها الشاقّ للمؤالفة بين المتقطع واللامرئي، والعابر والأزلي؛ وهذا الأثر الذي يمتدّ في صيرروة لا نهائية وأحيانا مستعصية، لا يكون له من معنى إلا عبر رغبة الذات الكاتبة في الكشف عنه من جديد، بعد تحريره من «خارجيّته» أو سلطة احتكاره، ومن ثمة يتكشف مسعى هذه الذات في أن تستدخله، وتراه، وتكلمه، لأنه موجود داخل ما يدلّ عليه من رغائب ونواقص وانشغالات خاصة. يقول صلاح بوسريف: «ثمة سيرة تُـرْوَى، وهي سيرة بحث، وتَـقَـصٍّ، واكتشاف، بل واسْـتِـشْـفَاف. وهي في النهاية، سيرة وجود قائم على القلق والمُساءلة، وعلى اختيار المعنى الأنطولوجي للكائن، بأي معنى يوجد، من هو؟ ما الحاجة لوجوده؟ بأي شكل أو صيغة يُـقِـيم في الأرض (وليس على الأرض)؟ وكيف ينظر إلى نفسه، بالمعنى الذي كُـتِـبَ على مدخل معبد دِلْـفِي «اعرِفْ نَـفْسَـك بنفْسِك».
إنّ المبدأ الحواري السيرذاتي الذي يحكم مثل هذه الأعمال في شعرنا المعاصر وغيرها، مثل: «سماء باسمي» لأحمد الشهاوي، و«قيافة الأثر» لشربل داغر، و«أتبع خطو ظلّي… لأغتسل بالحلم» لأحمد بلحاج آية وارهام، يكمن في أنّه يجعل من ذات الشاعر ذاتا مُتخيّلة لا تملك وعيها إلا في اللحظة الحاضرة، وإذا عادت إلى ماضيها الشخصي فلكي تصير السيرة مبدأ ابتكارها الخاصّ. يستعمل الشاعر وجوده أو مَقْطعا من حياته، ولا يسرد سيرته إلا بقدر ما يُغيِّر فيها حَشْدا من العناصر لدواعٍ شخصية أو جمالية. ويظهر محتوى السيرة، ترتيبا عليه، تَخْييليّا حيث لا يستعير أنا الشاعر أي قناع، ولا يدّعي امتلاكه لحقيقة شخصية. فسيرة الأنا أكثر من كونها قناعا أو تنكُّرا، وإنّما هي تحويل ولعب حُرّ لقوى تخيُّلية.

*القدس العربي