مصطفى تاج الدين الموسى: إلياس حكيم: ذاكرة الشيوعيين في إدلب

في السنوات الأخيرة، صرتُ أفكر كثيراً بما يلي: إن كل واحدٍ منا، وبعد أن عاش زمناً لا بأس به من العمر، يوجد في حياته بعض الشخصيات، على قلتها، لا يمكن أن ينساها أبداً، وتظل ــ حتى في أدق تفاصيلها ــ واقفة في زاوية رئيسية من الذاكرة، ولا تغادرها، حتى ولو كانت هذه الشخصيات من الذين عبروا حياتنا في وقتٍ مبكر من العمر، على الرغم من هذا تبقى صورهم في الذاكرة متوهجة وناصعة، وكأننا قد شاهدناهم للمرة الأخيرة، منذ دقائق قليلة أو ساعات فقط، وليس منذ سنوات أو عقود، هذا بالنسبة لكل واحدٍ منا، فماذا لو كان الأمر كذلك بالنسبة لفئة سياسية/اجتماعية كاملة، أو بالنسبة لأبناء محافظة في تاريخها الحديث؟

   لكل أبناء منطقة ما في هذه الجغرافيا ذاكرة مشتركة، تتقاسم مع بعضها ذكريات حميمية لشخصيات، ومواقف لا تُنسى، وهنا تحديداً أقصد شخصيات لها مكانتها الاجتماعية، والسياسية، والإنسانية أيضاً، وبإمكاني القول: إن هذا النوع من الشخصيات لا يمكن للظروف، بما في ذلك الموت، أن يزيحها من تلك الزاوية المهمة والنبيلة من الذاكرة الجماعية…

من يقرأ هذه الكلمات الآن، من سكان محافظة إدلب وريفها، بل وحتى سكان الشمال السوري برمته، بالتأكيد سوف يتذكر معي رفيقنا النبيل الراحل، المهندس “إلياس حكيم” والذي أعتقد أنه من أكثر الشخصيات المحلية ذات الشهرة الواسعة، والأثر الاجتماعي الطيب، وقد تعرضت مؤخراً لإهمال غير مقصود أحياناً، وأحياناً مقصود، بعد أن ابتليت الجغرافيا بأناسٍ شبه لهم بالثورة، فبدؤوا بكتابة تاريخ يناسبهم، غير التاريخ الحقيقي، مستغلين ذروة نزوحنا، ولجوئنا ومآسينا، وتفرقنا، ووفاة بعضنا، وضياع الكثيرين منذ “2011”.

ولكن، لا أظن أحداً بإمكانه نسيان “أبو نجيب إلياس حكيم”، ولعلي مثل الكثير من الناس غيري، لا يمكن أن ينسوه، من الذين عاشوا في هذه الجغرافيا، على امتداد ثلاثة أجيال تقريباً، منذ ستينات القرن الماضي.

على مدار عقود شكّل لنا “إلياس حكيم” جزءاً إنسانياً هاماً من حياتنا، وكان بحد ذاته حالة نضالية واجتماعية، لعلها الأهم والأجمل في ذاكرتنا الإدلبية، أو ما تبقى منها، بعد أهوال سنوات الحرب التي لا يمكن للزمن أن يمحوها.

ولد “أبو نجيب” في أسرة متواضعة بإدلب في عام “1940”، وانتسب في وقت مبكر من حياته إلى الحزب الشيوعي السوري، خلال مرحلة الانقلابات العسكرية في خمسينات القرن الماضي، وتابع دراسته الجامعية في جامعة حلب، بكلية الهندسة المدنية، وشارك، ونشط فيه لأكثر من ستة عقود، معاصراً للكثير من الانقلابات والتغيرات الكبيرة.

في إدلب، وسياسياً، نستطيع القول: إن “إلياس حكيم” عاصر على مدار هذه العقود تقريباً، ثلاثة أجيال شيوعية متتالية، وبالنسبة لها كان “حرفياً” قائداً، وأخاً كبيراً، وصديقاً حميمياً، ورفيقاً لا يتكرر…

 كنتُ مع مجموعة من الفتيان، من الجيل الثالث الذي جاء في أوائل التسعينات، ليضمنا مكتب “أبو نجيب” بحنان رفاقي عذب، مكتبه الشهير وسط البلد في شارع الجلاء، والمبني منذ مرحلة الاستعمار الفرنسي تقريباً، وتعقيباً أود هنا القول: إنني أعتقد أنه لن يأتي من بعد هذا الجيل، جيل يساري جديد، “بمعنى الجيل لا الأفراد” لا في إدلب ولا سوريا، وأظن حتى في العالم، مع ازدياد التراجع الأخلاقي لهذا الكوكب، وازدياد توحش الرأسمالية وإنجازاتها السوداء التي تجرد الإنسان، مما تبقى له من إنسانية…

في أواخر ثمانينات القرن الماضي كنتُ ما أزال طفلاً صغيراً، أعيش مع أمي في بيت جدي بإدلب، بينما أبي “الكاتب الراحل تاج الدين الموسى” يعيش في حمص موظفاً في المصفاة، بعد تخرجه من معهد النفط، وتعرضه لعدة اعتقالات؛ بسبب نشاطه السياسي الشيوعي آنذاك، من جماعة “خالد بكداش”، إلى جماعة “رياض الترك”، حتى جماعة “يوسف الفيصل”، وكان “أبو نجيب” من الرفاق الذين رافقوا أبي في هذه الانتقالات اليسارية المتعددة بكل مراحلها، وخيباتها، وهزائمها، وآلامها.

  كان أبي آنذاك يأتي من حمص لزيارتنا بشكلٍ شبه شهري في إدلب، زيارة سريعة تستمر من مساء يوم الخميس حتى مساء يوم الجمعة، آنذاك كان الطريق بين إدلب، وحمص يستغرق بالحافلة ساعات من السفر؛ بسبب الحواجز الأمنية التي وضعها النظام بين المدن السورية، خلال حربه آنذاك على عصابة الإخوان، كما ادعى، لكنها في جوهرها كانت حرباً على كل فئات المجتمع السوري، أما اليوم، فإن طريق إدلب حمص مغلق، حتى إشعار آخر؛ بسبب سوء التفاهم بين الإخوة الأعداء، وهم ذاتهم تقريباً “النظام، والفصائل المتطرفة التي كانت مجرد إخوان، فصارت مليون إخوان”.

أتذكر آنذاك، أن صباح يوم الجمعة من زيارة والدي لإدلب، كانت مخصصة لزيارة مكتب “أبو نجيب”، حيث يجتمعان مع عدد جيد من رفاقهم الآخرين، يتبادلون الكتب، والجرائد والسجائر، وكؤوس الشاي، وفناجين القهوة، والحوارات الصاخبة، وكان أبي يصحبني معه إلى هذه الاجتماعات غير المنتظمة، والتي أحياناً تُعقد بمناسبة مجيء أبي.

كانت الاجتماعات تستمر لساعات من صباح الجمعة حتى الظهر، وكنتُ أجلس بينهم، أراقبهم وأسمعهم، أو أتسلى بكتب مكتبة “أبي نجيب”، والتي كانت على شكل شبابيك في الجدار، كما هي طبيعة الخزائن في البيوت القديمة، وأحياناً أخرج لألهو قليلاً في الفسحة بين غرف المكتب، وأكثر ما أذكره من تلك الأيام القديمة، هو تأملي الدائم، وأنا مسحور، بلوحة كبيرة وجميلة، كان “أبو نجيب” يعلقها على الجدار، فيها شباب وفتاة أنيقون، جالسون على ضفة نهر في غابة كبيرة، وأظن أنني بحسب ما فهمت، أن اللوحة هي صورة مكبرة لمصور بلغاري، هذه اللوحة نفسها التي سوف يهديني إياها “أبو نجيب” ذاته، ولكن بعد عشرين عاماً تقريباً…

عندما صرتُ طالباً في الإعدادية، أواسط التسعينات، رتب “أبو نجيب” اجتماعاً أولياً في مكتبه لمجموعة فتيان، وكنتُ أحدهم، وأغلبنا كنا نعرف بعضنا، لأننا قبل هذا الاجتماع نحن أبناء عائلات صديقة… ومنذ ذلك الاجتماع الأول القديم، صرنا رفاقاً رسميين في الحزب، وصار “أبو نجيب” أباً روحياً لنا، ومع مرور السنوات، وإقامتنا شبه اليومية، بين غرف مكتبه الذي لا يستخدمه، إلا لساعات قليلة لعمله الهندسي نهاراً، والمعروف بأنه المكتب غير الرسمي، أو المعلن للشيوعيين في إدلب، المكتب الذي يزوره عدد من الرفاق يومياً، سواء من المدينة أو القادمين من الأرياف؛ لقضاء عملٍ ما في المدينة، فانتهزوا الفرصة، ومروا بالمكتب.

 كنا مجموعة رائعة من الشباب، قد لا أتذكر جميع الأسماء الآن: فارس، حسان، يمان، شادي، ثائر، ياسر، وغيرهم… من أولئك الذين سنمضي معاً سنوات لا تُنسى يومياً في المكتب، نهاراً مع “أبي نجيب”، وبعض الزوار من الرفاق من الجيلين السابقين، ومساءً مع الجرائد، والسجائر، والكتب، وأغاني “مارسيل خليفة”، وذلك بعد ذهاب “أبو نجيب” إلى بيته.

مكتبه كان مكتبنا أكثر، مما هو مكتبه، قرأنا وسهرنا، وأكلنا، وشربنا، ونمنا فيه، نحن وغيرنا من قبلنا، لسنوات وسنوات، عشنا مع بعضنا أكثر، مما عشنا وقتها مع أهلينا.

مع مرور السنوات ازدادت المهام التي كنتُ أقوم بها، بجانب “أبو نجيب” في المكتب، من تنظيم الاجتماعات الصغيرة، أو الكبيرة، أو توزيع الجريدة، أو إقامة بعض النشاطات المميزة، الثقافية أو السينمائية مثلاً…

وهكذا، وكما كان بالنسبة لجيلين من الشيوعين السابقين على جيلي، صار “أبو نجيب” جزءاً لا يتجزأ من عائلاتنا مع مرور السنوات.

أحياناً كنتُ أتمشى معه في شوارع السوق حول المكتب، لقضاء أمرٍ ما، من المستحيل أن نمر من أمام باب محل، أو دكان، أو مكتب، إلا ويخرج صاحبه؛ ليسلّم على “أبي نجيب”، أو يلوح له، لا أذكر أن شخصاً مثله كان يتمتع بمثل هذه المحبة بين الناس على اختلافهم، من الطبيب، والمهندس، والمعلم، حتى الحداد، والميكانيكي، والنجار…

لا يغيب اليوم صوت الحكيم عن صدى ذكرياتي، ولا النقاشات، والحوارات معه، ولا حتى زياراته الدائمة إلى بيت أهلي محاولاً حل مشاكل مراهقتي مع والديّ آنذاك، بوصفه الصديق الأول لعائلتي، وهو حاله ذاته مع عائلات الكثيرين من الشباب آنذاك…

من ذكرياتي معه، والتي لا تُنسى، كنا ذات مساء صيفي جميل جالسين في فسحة المكتب، أحد الرفاق الشباب نقد الدين بشكلٍ انفعالي، وسخر من الجوامع، عندئذٍ هب “أبو نجيب” واقفاً غاضباً، وصرخ في وجه الشاب: لن تكون شيوعياً حقيقياً، إلا إذا كنت مع الناس، ومع ثقافتهم وتراثهم وإيمانهم، أنت تسيء بمثل هذا النقد الأهوج للشيوعيين، وكفاحهم من أجل الناس…

ومرت أجمل سنوات عمرنا في ذلك المكتب العتيق، بجانب العجوز الطيب “أبو نجيب”، مع شباب لا أعتقد أنني سأعرف في حياتي من هو أجمل منهم، تقاسمنا معاً ذكريات الزمن الجميل، وسرعان ما كبرنا وغادرنا تباعاً؛ بسبب الحرب، كلٌّ في جهة، حتى “أبو نجيب” غادر مع عائلته إلى “الكفرون”، وخلال سنوات الحرب، انقطع التواصل بين الجميع، بعد أن ابتعدنا في جهات الأرض الأربع.

فجأةً، وفي الخامس من شباط 2023 رحل إلياس حكيم، انتشر الخبر بيننا على اختلاف أراضي لجوئنا، أو نزوحنا، كانت صدمة كبيرة لذاكرتنا، وكنا على وشك أن ننعيه، ولو على وسائل التواصل الاجتماعي، بما يليق به، بما يليق بتاريخه وتاريخ مكتبه، بما يليق بذكرياتنا، وذاكرتنا المشتركة، التي ما نزال نحتمي بها، حتى الآن من هذا الخراب الداخلي والخارجي، إلا أن الأقدار لم تمنحنا الفرصة، فقبل أن ينقضي يوم على رحيله، هزنا زلزال “كهرمان مرعش” في صباح السادس من شباط.

في ذلك اليوم هجم علينا زلزالان…

زلزال عام أصاب البشر كلهم في إدلب، وقبله بساعات زلزال أصاب الذاكرة الشيوعية في إدلب، برحيل “أبو نجيب”.

*العربي القديم