ميسون محمّد: “بيت خالتي”..مشكلات مجتمعيّة وآثار نفسيّة

لو أن رواية الكاتب أحمد خيري العمري ” بيت خالتي ” وقعت بين يدي قبل سنوات ربما لم أكن لأكملها ..

فالراوي “يزن” رمادي .. رمادي يصرّح برماديّته ..!!!

وأنا صاحبة المقولة الشهيرة : “الرمادي إما أبيض متسخ أو أسود متسخ ، بالنتيجة هو متّسخ “

لكنّني في السّنوات الأخيرة ومن خلال حوارات لي مع بعض شخصيات رمادية كان يمكن أن تكون مؤثرة لو انحازت بوضوح أكثر لثورة شعبها؛ وجدت فارقًا بين من يغلب عليه البياض ومن يغلب عليه السّواد ..

وتابعت ورأيت بعضا ممن “ساهمت” مجتمعاتنا في تغليب سوادهم ، أو في عدم قدرتهم على اتخاذ موقف واضح تجاه كثير من الأمور سواء فيما يتصل بالثورة أو بغيرها ! فمجتمعاتنا بلا أدنى شك مجتمعات ظالمة ومجهلة بنسبة كبيرة .. وكثيرون ممّن يعانون من ظلمها يصعب أن يكون لهم موقف واضح ضدّ من سُلّطوا عليها، ولو كانوا أظلم من عليها ..

هذا إن لم يستغلّ بعض أصحاب المعاناة المجتمعية كل فرصة للانتقام من مجتمعاتهم عبر الاصطفاف مع جلّاديها ..

وهذا أمر عايناه وعايشناه في بداية الثورة وفي الحرب التي نشأت على هامشها ! وقلّة ممن تعرضوا لظلم بيّن من مجتمعاتهم يتجرّدون ويترفعون على معاناتهم ويثورون على جلاديهم جميعا؛ أملًا منهم في إمكانية تغيير مجتمعاتهم ، لقناعتهم بأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن …

وأحسب أنّ العمري كان بارعًا في تسليط الضّوء على مشكلاتنا المجتمعيّة وما ترتّب عليها من آثار نفسيّة ساهمت في تكوين شخصية “اللاموقف ” أو الشخصية الرّماديّة الممثلة بيزن، وغيرها …

فاستطاع أن يمنح القارئ قدرة على التفكير والتأمل ؛ من خلال رؤيةٍ تحليلية أكثر شمولية وعمقا لواقعنا ولملابسات الأحداث فيه ، وبأسلوب سلس وجذاب ..

كما كان بارعًا في سبر أغوار النّفس الإنسانية للشخصيات، عبر حوارات أخاذة لها مع النفس والآخر ..

مما جعلنا نشعر بعلاقة وثيقة معها ، ولذلك حين كانت هذه الشخصيات تتألم كنا نتألم معها، وأحيانا حقيقة لا مجازًا ، وحين كانت هذه الشخصيات تحاول أن تقتنص لحظات حياة من بين فكي القيامة التي تعيشها كنا نشعر وكأن روحا من أمل سرت فينا…

وهذا ما أحاول فعله دوما في حياتي، وحاولت فعله تماما وأنا أقرأ الرواية …

أن أقتنص لحظات الحب والفرح والأمل والجمال فيها، والتي أحسب أنّها وزّعت عليها بشكل بارع حاذق؛ لتكون كلّ لحظة منها بمثابة استراحة قارئ محارب .. لذلك وجدت أنّه من الظلم تصنيف الرواية على أنها أدب سجون …

واختزال المشاعر التي نخرج بها منها بمشاعر سلبية ليست هي الهدف من الرواية حتمًا…

إنها وثيقة وشهادة صادقة للتاريخ عن قصة قيامتنا بكل أبعادها الاجتماعية والنفسية والإنسانية والثّورية والسّياسية …

والتي لم تكن بدعا من قيامات لشعوب أخرى سبقتها … وإن كانت قيامتنا السورية باعتقادي وكما جاء في الرواية هي الأعتى أهوالا لكونها نتاج التحديث الأسوأ لطغيان الوحش في الإنسان حين يملك ويتحكم !!

ولا زلت ورغم كل المراجعات التي لم تر من الرّواية سوى الزاوية الأشدّ عتمة أصرّ على ما رأيته فيها عند مراجعتي الأولى لها …من أنّ رواية “بيت خالتي” للكاتب العمري عبارة عن قطعة موزاييك دمشقي عريقة صاغها قلم مشحون بثقافة الفزع من الفراغ …فكلّ فراغ يحدثه حفره الموجع في الفكر والوجدان تراه يحشوه بأصداف من جليل المواقف ، ونبيل المشاعر ، ونقي الذكريات ، وجميل الخواطر ، وبديع الصّور ، وجديد المفاهيم ، وزاخر المعارف ..

ليخبرنا أن :

ما بين مساحات اليأس ..

لا بد من فسحة لأمل !

وما بين مساحات القبح ..

لا بدّ من فسحة لجمال !

وما بين مساحات الحزن ..

لا بد من فسحة لابتسام !

وما بين مساحات الخواء ..

لا بد من فسحة لروح !

وما بين مساحات الجفاء والحرب ..

لا بد من فسحة لتواصل في الخير وحبّ !

وما بين مساحات الغضب وردود الفعل ..

لا بد من فسحة لفكر ومبادرة !

وما بين مساحات الجهل ..

لا بد من فسحة لعلم !

وما بين مساحات الدمار ..

لا بد من فسحة لبناء !

وما بين مساحات التقليد ..

لا بدّ من فسحة لإبداع !

وما بين مساحات الغياب ..

لا بد من فسحة لحضور !

وما بين مساحات النسيان ..

لا بد من فسحة لذكرى !

وما بين مساحات الجحود والنكران ..

لا بد من فسحة لوفاء وشكران !

فطوبى للعمري ولكلّ الذين ينصرون في أنفسهم والآخرين معاني الحق والخير والجمال ويدرؤون بها في أنفسهم والآخرين خلافها ..

أرى أن هذه الرواية مما لا يسع سوريًّا أن يجهله…

وأتمنى أن تتحول إلى فيلم وأحسب أن في شبابنا السوري مبدعون قادرون على ذلك!