نجم الدين سمان: من ثقافة الدكاكين.. إلى ثقافة العمل الجماعي/ المؤسساتي

كتبتُ كثيراً عن ثقافة الدكاكين الضاربة جذورها في مجتمعنا السوري.. منذ آلاف السنين؛ ففي رَقيمٍ من عمريت “لم تُنشر ترجمته حفاظاً على البروبُغاندا الوطنية” أن سادِنَ ميناء “عمريت” اقترح على التجار ” أجدادنا الفينيقيين.. آنذاك” أن يذهبوا بقوافل بَحريةٍ جماعيةٍ إلى موانئ الشاطئ الآخر من المتوسط؛ مُقترحاً أن ينطلقوا فجراً بشكلٍ جماعي؛ وعندما وصل إلى الميناء فجراً وَجَدَ 3 سفنٍ راسيةٍ فقط من أصل 14 سفينة.. اتجهت كلّ واحدة منها فردياً إلى جهة مُختلفة.

قياساً على القول المصري الشائع: “اللّي بنى مصر كان في الأصل حلواني” صرتُ أقول: “اللّي بنى سوريا كان في الأصل دكنجي”. وشعار ثقافة الدكاكين هذه: أنا في دكانتي.. ما حدا بمكانتي؛ وليس لدينا فرع آخر.. على طريقة دكاكين “الصفوري” مطهر الأولاد في سائر دمشق وغوطتيها.

وحتى في المدينة التجارية/ الصناعية الأهمّ في سوريا: حلب؛ فإنّ أغلبَ نشاطها يعتمد على الفردانية؛ أو.. على الروابط العائلية؛ ومنها توريث الدكان لأبنائه.. وصولاً إلى توريث حافظ الوحش لدُكانة الرئاسة؛ أمّا المحاولات الجماعية الأهلية: تجربة الترومواي الأهلية المُساهمة؛ وشركة الكهرباء الأهلية؛ والشركة الأهلية المُساهمة للنسيج؛ والشركة الخماسية للنسيج.. الخ؛ ومثلها في دمشق: “شركة عين الفيجة الأهلية؛ والتروماي أيضاً.. الخ؛ فقد أجهض البعث نضوجَها بتأميمها.. دون أن تتحول إلى مؤسساتٍ حقيقية بعد التأميم؛ وهذا حال مُؤسسات النظام الأسديّ أيضاً.. لأنها دكاكينُ فسادٍ وإفسادِ؛ وتعيينٌ بالواسطة؛ وبالولاء الحزبي والأمني والعقائدي والمافيوي “التشبيحي”.. الخ.

تأملنا مع ثورة 2011 أن ننتقل إلى صفحةٍ جديدة ومُختلفة؛ تقطع مع إرث الاستبداد والفساد؛ والنتيجة.. أن مؤسسات المعارضة كانت دكانَ وكالةٍ لدول كثيرة تضمّ دكاكينَ مُتباينة في كلّ شيء؛ تتصارع على السلطة والنفوذ حتى قبل أن تُسقط سُلطة المُستبد؛ بل.. تنهش بعضها البعض.

ولأننا ثُرنا على الاستبداد دونَ توأمِهِ: الفساد.. استشرى الفساد في مؤسسات المُعارضة وصولاً إلى منظمات “المجتمع المدني” المُمولة من سوانا.. وهي على هيئة الدكاكين ذاتها؛ ومثلها دكاكينُ سماسرة الدعم والإغاثة؛ وليس انتهاءً بما يُسمى “الإعلام البديل” حتى نهشها الفساد؛ وكفنتها الفردانية؛ ودفنها الصراع على المناصب الزائلة؛ والمكاسب المادية الآنية؛ والمحسوبيات والواسطة.. الخ.

*- من الدكان.. إلى المؤسسة

لن أتحدث هاهنا عن دكاكين المُعارضة السياسية؛ ولا عن دكاكين الأحزاب والتيارات السياسية التي أنشأت بعد 2011؛ ولا عن دكاكين منظمات المجتمع المدني؛ ولا عن دكاكين سماسرة الإغاثة والمساعدات.. الخ؛ فقد بريت أقلامنا ونحن نناقش وننتقد ونقترح؛ لهذا سأقتصر على المجالين الثقافي والإعلامي وهما ما نشأت فيهما وبادرتُ وأخطاتُ وتعلمت وراكمتُ التجارب المُتعددة؛ مع الإشادة ببوادر المنظمات الحقوقية السورية في المنفى وملاحقتها لجرائم النظام الأسديّ الاستبدادي في المحاكم الأوربية وسواها. مع التذكير.. بأن السكوت قانونياً عن جرائم هذا النظام منذ مجازر الثمانينات هو الذي جعلة يتمادى في جرائمة ضد السوريين بعد 2011؛ ولم يحدث أن قام المُتضررون منها “أقصد: الإخوان المسلمين” برفع دعوى ضد رفعت الأسد مثلاً في فرنسا وسواها.. بل إنهم قد تحالفوا معه؛ ثم مع عبد الحليم خدام؛ ولم بحدث حتى الآن.. أن قام المتضررون السوريون برفع دعوى ضد رموز النظام الأسدي أمام محكمة الجنايات الدولية حتى الآن؛ ولم أجد تفسيراً لعدم رغبة المظلومين في مُحاكمة ظالميهم.. سوى أنهم مُصَابون بمرض نقص المبادرة المُكتسب من عصور الاستبداد والفساد؛ أما اغلب مُبادراتهم فتصبُّ في الخلاص الفرديّ فقط.. وليس في الجماعي؛ بل.. على حساب الخلاص الجماعي غالباً.

*- ما بين رابطتين

كتبتُ سابقاً عن تجربة هاتين الرابطتين؛ وإحداها أثناء الخلاف “غير العقائدي والشخصي جدا والشللي أيضاً” على أحقية رئاسة رابطة الكتاب السوريين قبل سنوات؛ وخروج مجموعة أعضاء “بينهم مُؤسسون لها” من عضويتها “انشقاق داخلي” على غرار انشقاقات الأحزاب في سوريا البائدة؛ ولم تُجدِ كلّ مُحاولات المُصالحة؛ كما أن الانتخابات التي جرت فيما بعد لم يُشارك فيها سوى 94 من أعضائها الذين يتخطون 300 عضو؛ بمعنى أن الثلث فقط قد انتخب وقرر.. بينما يغط الثلثان في “سُباتٍ شتوي” لا يهمهم سوى أن يذكروا في سيرتهم الشخصية أو المِهنية هذه الجملة “عضو رابطة الكتاب السوريين” أو “عضو رابطة الصحفيين السوريين” بينما لا يُبادرون بشيء؛ كما أن أغلبهم لا يدخلون إلى موقع رابطتهم الالكتروني إلّا صدفةً؛ أو.. بسبب مادةٍ نُشِرَت لهم ذاتَ يوم؛ كما لا يتفاعلون مع صفحتها الفيسبوكية إلا نادراً.. الخ.

وكنت أتندر بهذه المُفارقة.. إذ لم يدعوني أحدٌ للمشاركة في تأسيس هاتين الرابطتين؛ بينما تجاوز عمري المِهنيّ في هذين المَجالين أكثر من 40 عاماً؛ فتجاوزت هذا بحلمنتشيةٍ ساخرة كتبتها آنذاك: “بينما تعتبرني رابطة الكتاب صحفياً؛ تعتبرني رابطة الصحفيين كاتباً فقط.. وكلاهما على حق؛ وأشكرهما على إنقاذي من ورطتين معاً”. وللأمانة فقد دعاني الصديق علي سفر لتقديم أوراق اعتمادي كاتباً في الرابط حين صار ضمن “هيئة الإرشاد” فيها؛ أقصد بعد المزاح: الهيئة الإدارية؛ فاعتذرت.. لأنيّ لا أجدها رابطة فاعلة؛ بل إنها في مراحل مُتعددة قد أغلقت فضائها حِكراً على بعض الأعضاء؛ وتقوم بأعمال روتينية دورية تستطيعها أيّة مجموعةٍ من بعض أفرادٍ فقط؛ ويُعاني ثلثا أعضائها على الأقل من مرض نقص المبادرة المُكتسَب ومن مُتلازمة “السبات الشتوي: التي تمتد هاهنا على كلّ الفصول.

ولهذا كتبت وسأكتب.. بعينِ من يرى خارج الغرف المُغلقة على ساكنيها؛ ومن تمنياتي بترسيخ فكر مؤسساتي جماعي لكلّ تجلياتنا كسوريين في تغريبتنا؛ ولكن ليس القائم على ثقافة الدكاكين؛ أو على تلك الثقافة المستحدثة لجماعة “حكيني على الخاص”؛ أو لجماعة “الله يطفيها بنوره”!!.

*- رابطة الكتاب السوريين.. نموذجاً لمؤسسةٍ مُفترضة.

حصلت الرابطة على ترخيصٍ لها في بريطانيا وهذا جيد؛ ولها موقع الكتروني شِبهُ فاعلٍ؛ وقد تعرض مؤخراً للاختراق أو للتبليغ عن مواده؛ فصارت تأتيني منذ 3 أشهر تبليغات شبه يومية على صفحتي الفيسبوكية تحذف الروابط التي شاركتها من موقع الرابطة؛ ولم تُفدني الاعتراضات التي سجلتها؛ كما لم يستطع أحد في الرابطة مُعالجة هذا الأمر حتى الآن.

كما أن للرابطة مجلة الكترونية شهرية؛ تحتوي ملفاً خاصاً بكلّ عدد.. تُعلن عنه ليشارك فيه أعضاؤها ومن غير أعضائها؛ لكن الإعلان لا يكفي وحده؛ وينبغي أن تتصل على الدوام هيئةُ التحرير بالباحثين والكتاب المُؤهلين لمِثلِ هذه الملفات وبتحريضهم على المشاركة؛ في تواصلٍ معهم لا ينقطع؛ حتى لا تتحول المجلة إلى صندوق بريدٍ حديدي أو الكتروني.. يتلقى فقط.

لا يدفع الأعضاء اشتراكاتٍ مالية لرابطتهم؛ ولهذا فهي مُفلِسَة على الدوام.. بل مُقيدة أعمالها؛ وليس ضرورياً أن تفعل مثلَ سواها لهاثاً وراء التمويل غير السوري؛ والاشتراك المالي حتى لو كان رمزياً ضروري؛ بل إنه تنبيهٌ لثلثي أعضائها النائمين عن أيّ نشاطٍ أو مُبادرة؛ ولن أتحدث عن مُحددات الانتساب إلى الرابطة؛ فقد لاحظت بأن الهمّ المشترك لكل هيئاتها الإدارية المتوالية هو زيادة عدد الأعضاء حتى لو تمّ قبولُ أحدٍ بسبب بوستات “على شكلِ خواطر” نشرها على صفحته الفيسبوكية!.

*- فلاش باك: حين تجاوز عدد أعضاء اتحاد الكتاب في سوريا حائط الثلاثة آلاف؛ بفضل سياسة علي عقلة عرسان في استقطاب أرباع الكتبة؛ وبينهم بالطبع كتاب تقارير أمنية؛ وإبعادِهِ لأسماءَ مُؤسِسَةٍ فيه مثل حسيب كيالي وسواه؛ أو.. لفصل أعضاء منه تعسفياً؛ نشرتُ زاوية ساخرة على هيئة حزورة غير رمضانية؛ بأن عدد أعضاء الكتاب الصينين لا يتجاوز 5 آلاف في بلد المليار و 300 مليون؛ فإذا طبقنا هذه النسبة الصينية على سوريا.. كم سيبلغ عدد أعضاء اتحاد كتابها؟.

وهكذا في رابطة الصحفيين السوريين أيضاً.. فقد تمّ قبول كثيرين بسبب خبرٍ غير عاجل “وغير مُؤكد غالباً” كانوا قد نشروه على صفحتهم الفيسبوكية؛ وبينهم مُتسلقون على مهنة الصحافة قبل وبعد 2011.. حتى أنّي كتبتُ مرةً: ” ثُلثُ السوريين صاروا صحفيين؛ وثلثُ يرغبون أن يصيروا؛ وثلثهًم الثالث ينتظر.. وما بدلوا تبديلاً”. وكان هذا قبل أن تنهار من داخلها ومن خارجها.. تجربةُ ما يُسمى “الإعلام الثوري” أو “الإعلام البديل”.

*- من أسم الرابطة.. إلى تفعيل روابطها.

هذه مقترحات لتفعيل عمل هذه الرابطة نموذجاً.. لكلّ تجمعاتنا الافتراضية السورية بعد 2011:

إعادة النظر في متطلبات العضوية ضمن نظامها الداخلي.

تثبيت مبدأ “الاشتراك السنوي” و”قبول التبرعات من السورين فقط” وربط دوام العضوية بالمشاركة: مالياً عبر الاشتراك السنوي وبالتصويت خلال الانتخابات؛ وبالمشاركة الطوعية في عمل الرابطة الإداري وفي فعالياتها وانشطتها.

تحويل الرابطة من صندوق بريد يتلقى.. إلى مؤسسة إنتاجية إبداعية سورية تضم: دار نشر الكتروني وورقي فيما بعد.

إنشاء فروع لها في بلدان التغريبة مع إقامة أسابيع ثقافية سورية داخل اوروربا حيث يُمكن إقامتها.

ومن الأحلام.. توسيع فضاء رابطة للكتاب السوريين إلى رابطة للمبدعين السوريين في مختلف أنواع الإبداع الفني والأدبي والفكري؛ بحيث تضمّ مؤسستها الإنتاجية أيضاً.. أقساماً للإنتاج المرئي والمسموع: اسطوانات موسيقية غنائية وأفلام تسجيلية وقصيرة وروائية؛ مسرحيات وبرامج بودكاست ومسلسلات؛ منصة الكترونية لتسويق اللوحات والتماثيل والاسطوانات والكتب.. الخ؛ بينالي للفن التشكيلي السوري يُقام كل عامِ في بلد أوروبي. وغير ذلك من الفعاليات.

أعرف بان هذا حلم صعب.. ولكن يُمكننا إنجازُه على مراحل وليس دفعة واحدة؛ وبشكل تطوعي وتضامني؛ حيث يستضيف أعضاء الرابطة في ألمانيا في بيوتهم زملائهم المشاركين في الفعاليات الآتين من مدن أو من دول مُتعددة؛ وهذا شكل من أشكال العمل التضامني التطوعي يكفي في حالة فقر الموارد.. قبل أن تستطيع هذه المؤسسة التطوعية دفع نفقاتها؛ والانتقال الى مرحلة جني الأرباح من كونها مِنصةَ انتاجٍ وتوزيع للمواد الإبداعية تحصل على نسبة رمزية من المبيعات.

أعرف بأنّ كثيرين من زملائي سيقولون: “كبرت الحجر كتير.” ولكني أعرف بأن أيَّ حلمٍ يبدأ من فعلٍ صغير يُمكن إنجازه؛ ثم يتراكم بعدَهُ فعلٌ آخر.. وهكذا؛ وبأنّي وبعضاً من أصدقائي وزملائي قد تشاركنا سابقاً في تجارب جماعية؛ بدأنا بها من تحت الصفر.. وأغلبها نجح؛ بل إن بعضَها قد صار ظاهرة ثقافية سورية مُتفردة.

فمتى تصبح لدينا رابطة إبداعٍ سوري مُتفردة.. لا يُمكن تجاهلها أو نسيانها؟!.