الثقافة والأدب في زمن التحولات الكبرى وعلاقتهما بالحريات وحقوق الإنسان

أنور بدر (رئيس التحرير)

في الحديث عن الثقافة والأدب وعلاقتهما بالحريات عموماً وحقوق الإنسان يبرز السؤال حول الدور الوظيفي وفق تعبير غرامشي لتلك الشريحة من المثقفين والكتّاب، والتي ربطها سارتر بتعريف المثقف باعتباره: “صاحب الموقف الملتزم والمنحاز إلى القيم والعدل والحق والنيات الحسنة، قبل أن يكون تقنياً ومتخصّصاً بأحد فروع العلم أو فناناً”[1].

بينما يرى إدوارد سعيد أن “دور المثقف عموماً جدلي ومتناقض وهو أن يكشف ويوضح الصراع، وأن يقهر الصمت المفروض بالقوة والهدوء المطيع للسلطة الخفية أينما كانت وكلما كان ذلك ممكناً”.[2]

فماذا عن المثقف أو المثقفين السوريين؟ ولماذا تلكأ بعضهم في الانضمام إلى ركب المحتجين في ساحات المدن والأرياف، أو حتى في التعبير عن التضامن مع المحتجين ضد نظام الاستبداد والفساد وللمطالبة بالحرية والعدالة الاجتماعية؟

هذا السؤال يُعيدنا بالضرورة إلى طبيعة الأنظمة الشمولية التي صادرت كل الحريات والحقوق في بلدانها وبشكل خاص ما يتعلق منها بالعمل السياسي ومنظمات المجتمع المدني كالنقابات والجمعيات والنوادي العامة، تلك البنى التي تشكل شرايين الحياة لأي مجتمع حي، فلا نقابات حرة أو مستقلة ولا اتحادات مهنية في سوريا، حتى النوادي الثقافية والرياضية أتبعت لسلطة وهيمنة الحزب الواحد القائد للدولة والمجتمع، كما جرّمت هذه السلطة كل من يجرؤ على المطالبة بالتغيير أو حقوق التعبير وحقوق الإنسان عموماً، باعتبار ذلك تجاوزاً لخصوصيتنا الثقافية والحضارية، وإعاقة لأهداف الثورة وفق نص المرسوم 6 من قانون العقوبات.

نقول ذلك ليس من باب التنديد ببعض المثقفين الذين تلكأوا بالانحياز لقضايا شعبهم، بل لنُشير إلى أهمية تلك الأصوات المبكرة التي أعلنت موقفها كتحدٍ لسلطة الاستبداد في سوريا، حين وقّعوا على بيان “الحليب لأطفال درعا”، أو دَعوا أو شاركوا في تظاهرة المثقفين في حي الميدان بدمشق، خلال الأشهر الأولى من عمر الانتفاضة، لكن الخطوة الأهم بدأت مع مطلع عام 2012، وقبل أن تُكمل انتفاضة السوريين عامها الأول، بالإعلان عن ثلاث مبادرات رائدة لتشكيل “رابطة الكتّاب السوريين”، تلاها الإعلان عن “تجمع التشكيليين السوريين المستقلين”، ومن ثُمّ أعلن عن تأسيس “رابطة الصحافيين السوريين”، وأهمية هذه المبادرات أنها مستقلة وشكّلت تحدٍ لسلطة الحزب الواحد وتمثيله لكل السوريين ومثقفيهم تحديداً.

ولن يتسع المجال في هذا التقديم للحديث عن المنجز الإبداعي شعراَ ونثراً، أو تشكيلاً وموسيقا وغناءً، ومطبوعات ومواقع إعلامية، والذي سبقت الإشارة إليه في أغلب أعداد أوراق تقريباً، بل سنكتفي الآن بالتوقف مع الجانب المتعلق بمأسسة العمل الثقافي بشكل مستقل عن سلطة البعث ودولته الشمولية، فنقتبس من البيان التأسيسي لرابطة الكتّاب السوريين والذي أعلن في النصف الأول من كانون الثاني/ يناير 2012:

“نحن مثقفو سوريا المتنوعو الأصول والمشارب، نعتزم تأسيس رابطة للكتّاب السوريين الأحرار، تُعبّر عن مشاركتنا في الثورة السورية، وعن شعورنا بالحاجة إلى إطار ديمقراطي ومستقل لعموم الكتّاب السوريين، يُعبّر عن الواقع الجديد لسوريا التي تولد الآن في شوارع الحرية، عبر تأسيس الرابطة اليوم نعمل على أن تستعيد الثقافة دورها التغييري والنقدي والمحرر، ويستعيد المثقفون استقلالهم وقدرتهم على المبادرة والتجديد الفكري والجمالي والأخلاقي، وأن نضع أنفسنا في صف شعبنا والدفاع عن حريات مواطنينا وحقوقهم ووحدتهم”[3].

الآن وبعد مضي أكثر من 11 عاماً على صدور هذا البيان، وبغض النظر عن مآلات الأحداث في سوريا، وعما عاشته الرابطة من صعوبات أيضاً، نستطيع القول أنّ رابطة الكتّاب السوريين شكّلت إطاراً حراً ومنصة للشعراء والكتّاب والمفكرين والأدباء والفنانين السوريين الأحرار الطامحين إلى سوريا جديدة، وإلى نظام ديمقراطي مدني تعددي، يتيح أوسع الفرص للطاقات الإبداعية الأدبية والفكرية في سوريا.

واليوم مع إصدار العدد 21 من مجلة “أوراق” نؤكد على استمرارية مأسسة وتطوير رابطة الكتاب السوريين، إثر الانتخابات الأخيرة التي أفرزت أمانة عامة جديدة ومكتباً تنفيذياً جديداً للرابطة، وأنهت تشكيل اللجان الفرعية، بما فيها هيئة تحرير أوراق التي ما زالت تعمل هي وهيئات الرابطة الأخرى بشكل تطوعي، مما يؤكد أهمية دور هذه الشريحة من المثقفين والكتّاب السوريين، والذين يعطون من جهدهم ووقتهم رغم صعوبات الحياة في سوريا ورغم تراكم الخيبات في المنطقة، مما يجعلنا نكرر أنّ “السوريين ما زالوا بخير” وما زالوا قادرين على فتح طاقة للأمل باتجاه غدٍ أفضل.

وقد حرصنا في هذا العدد الجديد على التذكير بمواقف مبكرة للمثقفين السوريين تعود إلى سبعينات وثمانينات القرن الماضي، حيث كتب الصديق موفق نيربية دراسة مهمة بعنوان “عن المثقف والسياسي والثوري… والسوريين” استقصت ذلك الدور الريادي قبل اندلاع احتجاجات الربيع العربي، واستطعنا منح هذا الموضوع حيزاً أكبر لتوثيق تلك المرحلة التي لم يعشها أو يواكب مجرياتها جيل مهم من السوريين، كذلك الأمر أشير إلى مادة د. جمال الشوفي بعنوان “الكتابة والحرية: سيميائيات المفارقة المغايرة”، وكذلك مادة د. عبد الله تركماني بعنوان “إشكالية الثقافة العربية المعاصرة وآفاقها المستقبلية”، وهناك مادة مترجمة مع تقديم للصديق إبراهيم محمود بعنوان “مادتان عن الحرب” مقارنة بين ما جرى في الحرب الأهلية اللبنانية وما جرى في سوريا، إضافة لكمٍّ من المواد الإبداعية المميزة في الشعر والقصة والنصوص وفي النقد الأدبي وفي المسرح والغناء البديل أيضاً، كما نشير إلى أهمية الحوار مع الفنان التشكيلي والنحات الأكاديمي عمر إبراهيم ابن مجدل شمس المحتلة والمقيم حالياً في بايون/ فرنسا.

كما نستمر بإمكانيات مجلة أوراق على إصدار ملاحق كتب في الإبداع الأدبي، فإننا في هذا العدد، نضيف ملحقاً مميزاً، وهو ديوان شعر جميل للصديق الشاعر فواز قادري بعنوان “اغتصاب… أتون الجحيم”.

وبالعودة إلى علاقة الثقافة بحقل الحريات العامة وحقوق الإنسان، نؤكد أنه كان موجوداً بشكل مستمر في عملنا ضمن رابطة الكتّاب السوريين وضمن اهتماماتنا في مجلة أوراق، لكننا نبدأ مع هذا العدد الجديد بمنح حيّز مهم ومستقل في مجلة أوراق لهذا الموضوع، بدأته زميلتنا ناهد بدوية ببحث جميل بعنوان “نقد وتطوير فكر عصر التنوير”، على أن يكون لنا في كل الأعداد القادمة باب مستقل لأوراق حقوق الإنسان، أسوة بباقي ملفات أوراق البحثية والإبداعية، مع اهتمام مستمر لتطوير الجانب الفني والرؤية البصرية لمجلة “أوراق” ضمن حدود إمكانياتنا، بهدف تحقيق وصول “أوراق” لأكبر شريحة ممكنة من القراء.

ونذكّر كالعادة بأن كل المساهمات التي في هذا العدد هي تطوعية، لغياب أي تمويل لمجلة أوراق ومن أي جهة كانت، لذلك نحن ندين بالشكر والعرفان لجميع الزملاء المشاركين في هذا العدد تقديراً لجهودهم، وننوه بشكر إضافي للأصدقاء والزملاء الذين يُصرّون رغم صعوبة الظرف العامة، على المشاركة بشكل مستمر. لأننا ندين لهؤلاء المبدعين والمثقفين في نجاح مجلة “أوراق” وفي استمراريتها.


[1] – جان بول سارتر، دفاع عن المثقفين، ترجمة جورج طرابيشي، بيروت: دار الآداب، 1973، ص 58.

[2] – إدوارد سعيد، خيانة المثقفين، النصوص الأخيرة، ص297.

[3]https://www.syrianwa.net/2012/01/17/%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%8A%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A3%D8%B3%D9%8A%D8%B3%D9%8A