عن المثقف والسياسي والثوري… والسوريين

موفق نيربية (سياسي وكاتب سوري، رئيس المنتدى الأوروبي السوري الديمقراطي.)

حين كان جورج أورويل يحاول إقناع ناشره بكتابه الشهير حالياً “1984”، وجّه إليه رسالة قال فيها: هذا الكتاب محاكاة ساخرة لـ “العواقب الثقافية للشمولية”. وباعتبار أن الثقافة السورية تعاني من مثل تلك العواقب منذ زمن طويل، فإن من الضروري تناولها وتناول المثقفين عموماً، والسوريين منهم خصوصاً، في علاقتهم مع السياسة والثورة والناس، وهذا موضوع هذه المقالة.

أولاً- العداء للثقافة:

هنالك شعبويّون شعبيون معادون للثقافة أحياناً، ويتعاملون معها ومع ممثّليها بحذر أو رهبة أو احترام أحياناً أخرى. لكنّ هنالك مثقفين شعبويين أيضاً، يحاربون الثقافة و”النخبة المثقفة” بما يستحقان، وبما لا يستحقان. أشكال الشعبوية الدينية والقومية والطائفية والعشائرية والمناطقية كلّها تتبرّم بالثقافة والفكر والتفكير عموماً.

قام نظام الخمير الحمر في كمبوديا بين عام 1975 و1979، بإزالة وقتل كلّ المتعلّمين الكمبوديين في مجزرته الشهيرة ابتداءً من “العام صفر- 1975” كما سمّاه، ورأى فيه فجر عصر لا توجد فيه أسرة، ولا مشاعر، ولا تعبيرات عن الحب أو الحزن، ولا أدوية، ولا مستشفيات، ولا مدارس، ولا كتب، ولا تعلم، لا عطلات ولا موسيقى ولا أغنية ولا وظيفة ولا مال – فقط العمل والموت، والعمل في الزراعة والريف حصراً. كان نوعاً متطرّفاً من الهندسة الاجتماعية، قتلت سلطة بول بوت فيه بشكل استباقي المعارضين المحتملين، خصوصاً في فئة المثقفين، وألغت التصنيع، والمهنيين الحضريين من أهل المدن، ومن له صلة- أي صلة- بالخارج.

ولتلك الآليات ما يماثلها ويشبهها كثيراً أو قليلاً في العالم، من الاتّحاد السوفييتي حيث حورب جماعة “الثقافة البروليتارية” و”المستقبلية” منذ السنوات الأولى لثورة أكتوبر التي كان هؤلاء من أخلص الناس لها بجوهرها، وألمانيا الهتلريّة التي أنذرت الفكر والثقافة وأهلهما منذ صعود هتلر بليالي حرق الكتب واحتفالاتها الهمجية، أو من خلال أمثولة غوبلز الذي قال إنه يفكّر بسحب مسدّسه كلّما سمع كلمة “ثقافة”، إلى إسبانيا فرانكو والأرجنتين التي قام البوليس فيها بتطهير الأكاديميين الخطرين في “ليلة الهراوات الطويلة” عام 1966…

خلاف ذلك الشغل المباشر القمعي، كان ولا زال هنالك جهد “مثقف” يخالط “الشعبوي”، للحدّ من تأثير المثقفين والمفكّرين، وكان لهذا الجهد بعض ما يبرّره بالطبع حتى لا نغالي. في كتابه المعروف “المثقفون- من ماركس وتولستوي إلى سارتر وتشومسكي” ذكر بول جونسون صفات المثقف على الشكل التالي:

“الغضب والعدوانية والعنف. الجبن. القسوة. الخداع والغشّ. الإيغو النامية والتمحور على الذات. النفاق. الجحود والفظاظة. التعصب وكراهية البشر. حب السلطة والسعي للنفوذ. التلاعب والاستغلال. المناكدة والمناكفة. خداع الذات، القناعة المباشرة بإيجابية أو سلبية الآخرين. الأنانية والقسوة. المظلومية وتطلّب الشفقة. هو على حق دائماً. هو ثابت واسفنجي. متغطرس. مغرور”.

هذا نموذج نادر ولكننا نراه أحياناً: أن يكون هنالك مثقّف- أو مفكّر- مضاد للثقافة والمثقفين، ويحاول أن يجعلهم سبباً للانتكاسات وأشكال الفشل المختلفة. واحد من هذين الطرفين يخدم السلطة المستبدّة بالأمر. هذا نوع آخر من “السلطة” يناهض الثقافة والمثقفين والمفكّرين وينبذهم ويسخر منهم ويدعو إلى الاستخفاف بهم. هو يرى فيهم دوافع سياسية مناهضة للسائد والقديم حتى وهم صامتون، لذلك يربّي بدوره نوعاً من “الزلم” المروّجين للشعبوية المحتقرة للثقافة، وللمثقفّين خصوصاً: “تسقط النخبة” انطلاقاِ من “تسقط النخبوية”، التي تسببت بالفقر والاستعمار… والمعارضة، والثورات. أولئك المروّجون للعداء للفكر- اقرأ: الوعي- يصوّرون أنفسهم كأبطال، ثوريين، بل “ثورجيين” حين تُعجزهم اللغة السليمة.

في القرن الأخير خصوصاً، ذلك النوع من السلطات المستبدّة حارب المثقفين ليس لثقافتهم، بل لأنه يرى بحسّه الحربي البدائي فيهم بؤرة للمناهضة السياسية له، خطراً وجوديّا عليه. وإلّا فلماذا أبعدت السلطات التشيكية فاتسلاف هافل ونبذته لسنوات طوال، حتّى استعادته الثورة المخملية رئيساً للبلاد لعشر سنوات؟!

ثانياً- المثقف وعلاقته بالنقد والسياسة:

لو لم يرَ بول جونسون بعض الظواهر لدى بعض المثقفين والمفكّرين لما جرؤ على إعداد تلك القائمة التي كادت أن تكون فجوراً. وإحدى أقلّ تلك الخصائص فجوراً تهمته الجاهزة لهؤلاء بحبّ السلطة والسعي للنفوذ، وربّما أيضاً فرحهم كأطفال يستحوذون على أشيائهم، حين يتاح لهم ممارسة السلطة: سلطة السلطة أو سلطة المعارضة، لا فرق.

التعريفات مزعجة حتماً، ومدرسية أو أكاديمية، ولكن لا يُستغنى عن التذكير بها كما هي، أو كما يراها الكاتب ويلوي عنقها أيضاً، مستغلّاً كثرتها وتنوّعها. لذلك لا بأس- غالباً- بالمرور على مفاهيم “المثقف” و”المفكّر” والفرق بينهما؛ و”السياسة” وآليات التفاعل بين تلك المفاهيم أو تجلّياتها الواقعية.

مصطلح “المثقف” حديث كاسم حتى في الغرب، وليس كصفة. لكنه ليس عديم الجذور، بل يجد مترادفات مستخدمة في الهند والصين القديمتين، وفي الفكر والأدب العربي أيضاً: رجال القلم، أهل الحَرف الجميل، الأدباء، الكتّاب… وأشياء من هذا القبيل.

في أوروبا، ربّما كان أول من استخدم ذلك التعبير بهيبته كاسم، الشاعر الإنكليزي العظيم اللورد بايرون في عام 1813، حين قال ذات مرة: “كم أتمنى لوكنت أصلح لاستيعاب ما يقوله أولئك المثقفون!”. لكن المصطلح لم يأخذ مكانه المعاصر إلّا في أواخر القرن التاسع عشر.

قالوا إنه شخص رفيع الذكاء، يعطي قيمة أعلى للأشياء المتعلّقة بالعقل أو لأشكال المعرفة وحقولها الأشدّ تعقيداً مثل الجمال والفلسفة، وأيضاً في حقل تجريدي وعام. بطبيعته لا يستطيع المثقف الاستمرار بالتعالي أو التسامي عن الواقع الموضوعي، لأنّه يعيش فيه. وتبقى علاقته بنقد العالم من حوله وعموماً متردّدة بين يوم ويوم، ولحظة تاريخية وأخرى. في زمن الهزّات الاجتماعية الكبيرة ينغمس مرغماً أو مختاراً، لأنه يرى ويرى الناس في “نقده” قدرات أكبر من غيره. عندئذٍ يصبح أكثر دقة القول إن المثقف هو من ينخرط في التفكير الناقد والبحث في واقع الحال، بل يقترح أيضاً حلولاً لما يُشكل في حركة المجتمع، ولما يُشكل في سكونه وخموله أيضاً.

هنا يقترب المثقف من مفهوم “المفكّر”، الذي يتمتّع بعلاقة أكثر أصالة بالواقع والموضوعي ووعيه ونقده. المفكّر رغم اسمه وسمعته أكثر علاقة بالمعلومات والإحصاءات وبالمنطق والمحاكمة والقدرة على حلّ الإشكالات المعضلة، بعد إعمال التحليل والتركيب فيها.

يحاول أندرو سويني المقارنة بشكل أقرب إلى اللعب والتبسيط، لكنه مفيد، فيقول في المقارنة ما بين المثقّف والمفكّر، إن الأول “يرى العالم من خلال التجريد، بينما يحاول المفكّر تحرير ذلك العالم من التجريد”، وأن المثقف “يسعى إلى ألعاب الصالونات الذكية المأمونة، في حين لا يأبه المفكّر بالأخطار ويقتحمها”، ويعطي المثقف للمعادلات حياة في الفكر، بينما “يغوص المفكّر حتى قلبها العميق”. يتشكّك المثقف بالحواس ولا يثق إلّا بعالمه الفكري الخاص، لكن فكر المفكّر يتمتّع بشعور أكثر حدّة يكشف النقاب عن عالم حسيّ أعمق. ويضيف سويني بأناقة إن المثقّف يزدهر ويبدع في إطار مؤسّسي، بينا يفعل المفكّر ذلك في الحقول والغابات والجبال السامقة. وللمثقف ميل إلى الزخرفة والأناقة الذهنية، بينما يميل المفكّر إلى البساطة. يبحث الأول عن الانتصارات والثاني عن العزلة وجمالاتها، ولكن أيضاً عن التطبيق العملي والممارسة، ليعود إلى” فَكْرِها”(كما أحب الياس مرقص ذات مرة أن يعبّر) … وعلى هذا المنوال.

يشيطن البيوريتاني واللاهوتي من القرن السابع عشر جون كوتون المثقفين والمثقفات بقوله: “كلما زادت معرفتك وذكاؤك، كلما كنت أكثر ملاءمة للعمل من أجل الشيطان” … هل تسمع هنا أصداءً، دعوات وأقوال لأندادٍ وطنيين؟!

لم يأتِ ذلك العداء للثقافة والفكر وأهلهما لو لم يكن” النقد” في قلب تعريفهما. ملازماً لهما في معظم الأوقات والأحوال. لو كان المثقف المعتزل لهموم مجتمعه والإنسانية يمثّل أغلبية بين المثقفين لما حدث ذلك دائماً. ولما رأيت أيضاً ذلك المثقف التابع للسائد يسهم بدوره مباشرة بحملة العداء والتشهير بالمثقفين.

نحن والثورات الثقافية الحديثة:

كتبت مؤخّراً مقالة صغيرة عن تلك الثورات، وتناولت الثورة الثقافية في الصين 1966- 1976، وتلك في الولايات المتحدة (وبريطانيا عملياً) في الفترة نفسها، والثورة في أوروبا الغربية 1968. ولم أتناول الثورة المخملية في أوروبا الشرقية تشيكوسلوفاكيا خصوصا)، ولا انتفاضة شباب اليابان. ولكن هذا لن يمنعني من الإشارة هنا أيضاً إلى تلك الثورات بما يخدم هذه المقالة.

هنا لا بدّ من الإشارة إلى بعض الفروق بين مفهومي الثقافة والمثقف، كما نستعملهما في العربية. فالأولى جاءت من الفرنسية، ومنها انتقلت إلى غيرها، وكان معناها الأصلي على علاقة بالحراثة والزراعة بالتوازي مع معنى آخر قريب من التعلّم والتعليم، وذلك مدعاة للتأمّل جيداً في تلك العلاقة بين المعنيين التي جاءت بالناقل إلى استخدامها المستحدث (وتناولت هذال الأمر في مقالة لي قديمة- 2008- بعنوان “المثقفون السوريون: فلاحون أم كهنة؟!”). الكلمة ذاتها تستخدم بمعنى “الحضارة”، التي هي مجمل الفنون والآداب والعادات والتقاليد والأخلاق والمعارف والأديان وحتى المطبخ واللباس وما شابهه.

هذا ما ثار عليه شبّان العالم في “سنوات الجمر” تلك، مع فروق تتعلّق بكلّ “ثقافة”، كأن تثور على البرجوازيين والبيروقراطيين في الصين مثلاً، وعلى قمع الحريات وحقوق الإنسان في أوروبا الشرقية، وعلى حرب فييتنام في أمريكا والغرب، وعلى كلّ قديم في الثقافة السائدة من حيث الحرية والجنس والموسيقى ونمط التعليم القمعي في الجامعات وفي الأدب والمسرح… وعلى العائلة والأبوية والذكورية. كانت ثورة على النمط السائد والمعتاد واليومي: على التقاليد وكلّ القيود. ثورة اجتماعية، وثورة جيل على الأجيال التي سبقته.

في أيار 1968، زار الفيلسوف الماركسي الجديد هربرت ماركوز باريس وبرلين في ذروة الثورات الطلابية. وتعرّف مباشرة على الانتفاضة وعايشها. غالبا ما يُنسب إلى ماركوز كونه مصدر إلهام كبير للحركات الطلابية الأوروبية لعام 1968. تقدم تلك المحاضرة نظرة ثاقبة فريدة على رؤية ماركوز للثورات أثناء حدوثها- خضراء-. ألقى ماركوز في 23 أيار 1968، بعد وقت قصير من عودته إلى الولايات المتحدة، عندما كانت نتائج أيار باريس لا تزال غير مؤكدة.

في وصفه الحيّ للانتفاضة الباريسية، قال لمستمعيه الأمريكيين:

“بناء المتاريس:

 تجمّع الطلاب أمام السوربون، وعندما علموا أن الشرطة كانت على وشك إخلاء المنطقة بالقوة مرة أخرى، بدأوا في إقامة الحواجز. لقد كان عملاً عفويا حقا: قام الطلاب، دون أدنى اعتبار للممتلكات الخاصة، بالإطاحة بالعديد من السيارات ومنعها – كما هو معتاد في باريس – ليس فقط في الشوارع ولكن أيضا على الأرصفة والممرات. ليس في الشوارع الواسعة – كان ذلك مستحيلا – ولكن في الشوارع الضيقة القديمة خلف السوربون.

لقد كدسوا الخشب والقمامة والكرتون وعلب القمامة – كل ما وجدوه – فوق السيارات. ثم مزقوا لافتات الشوارع – “شارع ذو اتجاه واحد” و “توقف” وما إلى ذلك – واستخدموها لتفكيك الرصيف. أنا لا أخبركم بهذا لأعلمكم كيف تصنعون ثورة – هذا لن ينجح هنا- في الولايات المتحدة- على أي حال، الجص صعب للغاية. بلافتات الطرقات تلك، قاموا الآن بحلحلة الأحجار المرصوفة بالحصى الباريسية القديمة الجيدة، والتي أثبتت بالفعل فائدتها في ثورتي 1948 و1870.

“تبع ذلك مظاهرات أكبر وأكبر. بدأوا في الأجزاء النائية من باريس وتلاقوا جميعا في الحي اللاتيني. تم إغلاق جامعة السوربون الآن وسيطرت الشرطة على المنطقة المحيطة بالجامعة بالكامل وأغلقتها. كان الطلاب يطالبون الآن بإعادة فتح جامعتهم لهم، وإطلاق سراح الحي اللاتيني، الذي اعتبروه حيهم الخاص، من قبل الشرطة حتى يمكن أن يكون حيهم حقا مرة أخرى.”

من هذا النص يمكن فهم تلك الحيوية التي جعلت من ماركوزه نبياً لطلاب ذلك الزمان، ومن أقربهم إليه أنجيلا ديفيس القائدة الأمريكية ورودي دوتشكه القائد الألماني/البرليني (كما ماركوزه بالأصل)… أذكر جيداً كيف غنّينا في ذلك الزمان نحن- في حمص- للمطالبة بتحرير أنجيلا ديفيس من السجن.

درج- عندنا أيضاً- وقتها مفهوم “صراع الأجيال” بديلاً عن الصراع الطبقي في صيغته الماركسية التي اعتُبرت ملائمة للقرن التاسع عشر وليس للثلث الأخير من القرن العشرين. وتُرجم بسرعة كتاب ماركوزه الأشهر “الإنسان ذو البعد الواحد إلى العربية”، ودخل في لغتنا اليومية تعبير “مدرسة فرانكفورت النقدية” التي ينتمي إليها، وجدّدت الماركسية وحدّثتها بعد تجاربها الفاشلة بطريقة نقدية.

ما يهمّ في ذلك المثال هو اجتماعية التغيير وشموليّته، وهي ثورات “ثقافية” من ذلك الباب. حتى تلك التي حدثت في الصين وكان لها ظروفها المختلفة وانعكست غضباً ربما كان أكبر من غضب شباب وطلاب الغرب واليابان، حيث انفجرت في- وعلى- ظرفٍ اجتماعيٍ من الفاقة والقمع والإقصاء أشدّ صعوبة بما لا يُقاس.

أضُيف التأثير الجذري لثورات العالم يومذاك، إلى تأثير فضيحة هزيمة العام 1967، لتخلقا دينامية جديدة ومختلفة في الحياة الثقافية والفنية السورية في الفترة ذاتها وحتى

النصف الثاني من السبعينات، كان أهمّ ما ميّزها كونها شابةً، وحتّى طلابية أيضاً.

امتلأت الجامعات بخلايا كخلايا النحل تئزّ وتتناقش وتتجادل، وظهرت مجموعات منظمة ومتفاعلة على شكل حلقات أو في إطار طلبة بعض الأحزاب، وكلّها في جوّ تغلب عليه الثقافة اليسارية المختلفة عن السائد المعتاد. كانت جامعتا دمشق وحلب مركزي ذلك الحراك وتلك الدينامية.

لم تكن الحوارات فكرية وسياسية وحسب، بل امتزجت مع أخرى فنية وأدبية: من السينما إلى الشعر. ومن استطاع من عالم الثقافة السائد وقتها أن يتمثّل ضرورة التغيير بدوره، كان جزءاً من ذلك الموج الموّار. ابتدأت- كمثال- ظاهرة السينما السورية الجديدة، وبرز شعراء جدد من غير بحور الشعر وأنهاره السائدة، وروائيون وقصّاصون، وموسيقيون… وامتلأت الأجواء بمفاهيم فكرية غير مألوف أخذت تتردّد وتُسمع.

لم تستطع موجات القمع المتلاحقة بعد ذلك أن تطفئ تلك النيران، وبقيت السينما السورية تنتج الجديد ولو في فترات متباعدة، وبقيت الثقافة السورية تنبض بالدماء التي اكتسبتها من تلك الأيام.

المثقفون السوريون والسياسة في عهد الأسد:

كان دخول حافظ الأسد وطغمته على السلطة والقبض عليها، لكنه كان أيضاً عاصفاً، استطاع فيه تحشيد قوى هائلة ومتنوّعة حوله، مستنداِ إلى حزب البعث أيضاً، الذي قام بتجويفه والاستحواذ على معظم جسمه من دون رأسه. ومن أهم مظاهر الاستمرارية والتمدّد كان عزل المجتمع عن السياسة، وتطوير هذا العزل عن طريق الاحتواء المنظّم وتأسيس الجبهة التقدمية. إضافةً إلى ذلك استثمر الأسد في قضية الجولان، ليبني جيشاً مختلفاً كثيراً عن الماضي بحجمه وسلاحه وتدريبه، وليبني كذلك إلى جانبه مجموعة أجهزة أمنية عملاقة. حرب تشرين كانت ذروة ذلك الخط، مع نصف أو ربع انتصار شكلي.

هذا لأقول إن هنالك مدّاً معاكساً لا يساعد كثيراً على حشد عمل معارض منتج، على الرغم من وجود قوى وتجمعات لديها الإرادة لذلك. استغلّ بعض القوى يومذاك دخول حافظ الأسد بعسكره إلى لبنان وأخرج بياناً رافضاً يدين الاجتياح، سبقه- وهذا ماله علاقة بموضوعنا- بينان لعدد من المثقفين السوريين بالاتّجاه ذات. شكّل هذان البيانان اجتيازاً للجدار السميك، وفتح باباً للمعارضة السياسية، معاكسٍ لتيار الاضمحلال تنظيمياً وعملياً.

كان لدى المثقفين السوريين في أواسط تلك السبعينات، أو لتيار وازن بينهم، رؤية مستقبلية ترى نفقاً مظلماً ينتظر السوريين. تجمّعوا حول بؤر هنا وهناك، وكان لميشيل كيلو- في بيته غالباً- دور في ذلك التجمّع والحراك.

عندما هاجمت القوى الإسلامية المتطرفة النظام وابتدأت بمناوشات متفرقة وعمليات اغتيال، كانت ذروتها مجزرة مدرسة المدفعية، التي نفّذتها “الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين”، وقتلت- على الهوية الطائفية، العشرات من طلاب الضباط. على إثر ذلك، أحسّ النظام بضرورة محاولة تحييد القوى الديموقراطية- غير الإسلامية هنا-، ولكنّ أراد أولاً تحييد المثقفين والقيام بخطوة إيجابية نحوهم، بالحوار معهم، عن طريق الجبهة الوطنية التقدمية.

دعا إلى لقاء كبير، أو إلى حوار مفتوح معهم، حضره عدد مهم من ممثّليهم، في دمشق. وكان لافتاً أن يتحوّل اللقاء إلى هجومٍ ذكيّ ومباشر من قبل أولئك المثقفين، شارك به- لغلبته وبديهيته- بعض المثقفين من وسط النظام ذاته.

(في نهاية هذه المادة، نضع ثبتا توثيقيا يضمُّ ملخّصاً لبعض ما قيل في ذلك اللقاء، إضافة إلى نصوص بيان الـ 99 وبيان الألف).

ربيع دمشق:

غفت سوريا في الثمانينات تحت تأثير الهجمة الأمنية الكاسحة التي كانت ذروتها مجزرة حماة في شباط 1982. انضمت إلى تلك الهجمة تأثيرات أزمة اقتصادية كبرى، وتحوّل اجتماعي مهم باتّجاه الفاقة والعوز. تحرّك الوضع بحذر شديد في التسعينات بعد إسهام النظام مع الأمريكيين في حرب الكويت، ثمّ مع وفاة الوريث السابق باسل بن حافظ، والانشغال بتحضير بشار الأشدّ ضعفاً والأقلّ كفاءة وقبولاً، لكن مواصفاته بقيت تحت سطوة الهراوة الغليظة… حتّى أدرك الأسد الأب نهايته القادمة وابتدأ بتكليف الوريث بمهام كبيرة في عام 1998. ارتخت القبضة قليلاً بشكل إضافي، وأخذ المارد يتململ في رقدته، وأحسّ المثقفون السوريون قبل غيرهم بذلك. في مطلع عام 2000 ابتدأوا بحراكهم بهدوء.

كان أوّل الغيث، أن أخذ عشرات السينمائيين السوريين- كلّهم تقريباً- بحركة مطلبية منظمة وضعت مذكّرة لإصلاح عمل مؤسسة السينما عموماً، تستبطن عميقاً عملية جسّ نبض سياسية. ومع الربيع ابتدأت اجتماعات عدد من المثقفين البارزين شركاء من المجتمع المدني أو من يهدفون بقوة لإيجاد حراك يعيد بناء المجتمع المدني السوري… حدث ذلك قبل وفاة الديكتاتور الأب بعدة أسابيع، وتفتّح بشكل أكبر مع موت الأب ووراثة الابن، وبدئه بحملته التي عنونها بالتطوير والتحديث، وكلامه عن حرية الرأي والشفافية في خطاب تنصيبه الأول.

تنامى ذلك الحراك المتداخل ثقافياً- سياسياً، حتى قفز خطوة مهمة إلى الأمام مع صدور بيان الـ 99 في أواخر أيلول 2000، الذي وضع مطالب الشعب الأولية برشاقة أمام النظام ورئيسه، وحمل تواقيع تسعة وتسعين شخصية عامة وفكرية وأدبية وفنية شاملة لتلك الفئة من الشعب، ومن أهمّ ممثليها. تجلّت تلك المطالب بما يلي:

“أولاً: إلغاء حالة الطوارئ والأحكام العرفية المطبقة في سورية منذ العام 1963.

ثانياً: إصدار عفو عام عن جميع المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي والضمير والملاحقين لأسباب سياسية، والسماح بعودة المشردين والمنفيين السياسيين جميعاً.

ثالثاً: إرساء دولة القانون، وإطلاق الحريات العامة، والاعتراف بالتعددية السياسية والفكرية وحرية الاجتماع والصحافة والتعبير عن الرأي، وتحرير الحياة العامة من القوانين والقيود وأشكال الرقابة المفروضة عليها، بما يسمح للمواطنين بالتعبير عن مصالحهم المختلفة في إطار توافق اجتماعي وتنافس سلمي وبناء مؤسساتي يتيح للجميع المشاركة في تطوير البلاد وازدهارها.

إن أي إصلاح سواء كان اقتصادياً أم إداريا أم قانونياً، لن يحقق الطمأنينة والاستقرار في البلاد، ما لم يواكبه في شكل كامل، وجنباً إلى جنب الإصلاح السياسي المنشود، فهو الوحيد القادر على إيصال مجتمعنا شيئاً فشيئاً إلى بر الأمان.”

من اجتماعات تلك النخبة برز اتّجاهان لاحقان، أحدهما نحو تأسيس المنتديات والحوار، وثانيهما نحو تنظيم الصفوف فيما أصبح اسمه “لجان إحياء المجتمع المدني”، وازدهر ربيع دمشق آنئذٍ بالجهد المشترك المتداخل للخطين، مع خط آخر تمثل بقوى سياسية معارضة.

في ربيع 2001، أطلقت لجان إحياء المجتمع المدني وثيقتها الأساسية في صيغة بيان أخذ اسم “بيان الألف” نسبةً إلى أعداد موقّعيه من نشطاء ومثقفين وفنانين أيضاً، وتضمّن بدوره مطالب متقدّمة لهم، تركّزت فيما يلي:

“1-وقف العمل بقانون الطوارئ والغاء الاحكام العرفية والمحاكم الاستثنائية وجميع القوانين ذات العلاقة، وتدارك ما نجم عنها من ظلم وحيف. وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين وتسوية اوضاع المحرومين من الحقوق المدنية وحق العمل بموجب القوانين والاحكام الاستثنائية، والسماح بعودة المبعدين الى الوطن.

2-إطلاق الحريات السياسية ولا سيما حرية الرأي والتعبير، وقوننة الحياة المدنية والسياسية بإصدار قانون ديموقراطي لتنظيم عمل الاحزاب والجمعيات والنوادي والمنظمات غير الحكومية، وخاصة النقابات التي حولت الى مؤسسات دولتية، ففقدت كلياً او جزئياً الوظائف التي انشئت من أجلها.

3-إعادة العمل بقانون المطبوعات الذي يكفل حرية الصحافة والنشر والذي تم تعطيله بموجب الاحكام العرفية.

4-اصدار قانون انتخاب ديموقراطي لتنظيم الانتخابات في جميع المستويات، بما يضمن تمثيل فئات الشعب كافة تمثيلاً فعلياً، وجعل العملية الانتخابية برمتها تحت اشراف قضاء مستقل، ليكون البرلمان مؤسسة تشريعية ورقابية حقاً تمثل إرادة الشعب ومرجعاً اعلى لجميع السلطات وتعبيراً عن عضوية المواطنين في الدولة ومشاركتهم الايجابية في تحديد النظام العام. فان عمومية الدولة وكليتها لا تتجليان في شيء أكثر مما تتجليان في المؤسسة التشريعية وفي استقلال القضاء ونزاهته.

5-استقلال القضاء ونزاهته وبسط سيادة القانون على الحاكم والمحكوم.

6-إحقاق حقوق المواطن الاقتصادية المنصوص على معظمها في الدستور الدائم للبلاد ومن اهمها حق المواطن في نصيب عادل من الثروة الوطنية ومن الدخل القومي، وفي العمل المناسب والحياة الكريمة، وحماية حقوق الاجيال القادمة في الثروة الوطنية والبيئة النظيفة. فانه لا معنى لتنمية اقتصادية واجتماعية ان لم تؤد الى رفع الظلم الاجتماعي وأنسنة شروط الحياة والعمل ومكافحة البطالة والفقر.

7-ان الاصرار على ان “احزاب الجبهة الوطنية التقدمية” تمثل القوى الحية في المجتمع السوري وتستنفد حركته السياسية وان البلاد لا تحتاج الى أكثر من تفعيل هذه الجبهة، سيؤدي الى ادامة الركود الاجتماعي والاقتصادي والشلل السياسي فلا بد من اعادة النظر في علاقتها بالسلطة وفي مبدأ الحزب القائد للدولة والمجتمع واي مبدأ يقصي الشعب عن الحياة السياسية.

8-إلغاء اي تمييز ضد المرأة امام القانون.”

إضافة إلى ذلك، وكمقدمة طويلة له، جاء في البيان تحليل معمّق لأسباب الحال التي وصلنا إليها من الاستبداد والفساد، الأمر الذي أطار صواب النظام، على الرغم من صدور “توافقات” لاحقة حاولت تخفيف ذلك الغضب. وبدأت حملات النظام في أواخر صيف ذلك العام، باعتقالات انتقائية وهادفة لشلّ ذلك الحراك وإجباره على التراجع. كانت الحملة المضادّة بقيادة عبد الحليم خدّام- نفسه- الذي ألقى خطابات نارية وتحريضية في عدة مواقع تكلّم فيها عن أن ذلك الحراك يهدف إلى “جزأرة” البلاد ويعني إغراقها بالدماء ووقوعها في قبضة التطرّف الديني والطائفي.

رغم ذلك كله، كان للجان إحياء المجتمع المدني أيضاً دور هام في تأسيس ائتلاف “إعلان دمشق” الشامل، في خريف 2005، مع القوى والشخصيات الوطنية المعارضة الأخرى. لعب ميشيل كيلو وحسين العودات وعلي العبدالله- وآخرون طبعاً- على سبيل المثال دوراً كبيراً في ذلك. وفي العام التالي، تصدّى أولئك المثقفون والفنانون لمهمة لطالما كانت معقدّة ومحرّمة هي العلاقات السورية اللبنانية، وخرجوا ببيان مشترك مع النخبة اللبنانية أسموه” إعلان بيروت- دمشق، إعلان دمشق- بيروت”، احتوى بدوره موقفاً متقدّماً قادراً بنقاطه على إعادة بناء العلاقة بين الدولتين بما يخدم مصالح شعبيهما… وبالطبع لحق بذلك البيان أيضاً اعتقالات طالت بعض أبرز موقّعيه.

كان للمثقفين السوريين دور هام أيضاً في عقد اجتماع حاشد للمجلس الوطني لإعلان دمشق، ضمّ 167 شخصية تمثّل كلّ سوريا ونخبها المختلفة، وخرج ببيان ختامي هام… كان لذلك الاجتماع الذي عقد في وسط دمشق على غفلة من النظام صدى كبير أثبت قدرة السوريين على توفير البديل، لولا ما طرأ فوراً علي النخبة السياسية من انقسامات أصبحت من صفاتهم الثابتة، ما زال تأثيرها فاعلاً حتى الآن. وبالطبع أيضاً لحق ذلك الاجتماع وبيانه حملة اعتقالات ومحاكمات صورية عاصفة، شملت، من بين من شملت، بعض مثقفي ربيع دمشق أنفسهم.

كان من ربيع دمشق أيضاً أن يحيي ويبلور نخبة شابة جديدة للثقافة السورية، شكّلت نواة في أيّ حراك قادم. بما في ذلك، ثورة 2011، التي اعتمدت أساساً على الشباب وروح الإبداع لديهم. كان أولئك أحد أسباب كون الثورة على تلك الروعة في عامها الأول.

المثقفون السوريون والثورة:

في العام 2010، خيّمت على أجواء المثقفين السوريين غيوم التراجع الذي استطاع النظام بديكتاتوره الثاني أن يفرضه بحملاته المستمرة. لكنهم لم يستكينوا وأخذوا يتباحثون في تأسيس حراك جديد، ربّما يبدأ هذه المرة من الثقافة والفنون بذاتهما، لينقل الحالة إلى نهضة جديدة أكثر قدرة على النجاح.

ولم يطل الأمر حتى جاءت أواخر ذلك العام ببشائر نهوض عربي ابتداءً من بو عزيزي تونس، ثم لحاق مصر فليبيا بذلك الربيع العربي؛ وامتلأت أجواء دمشق وسوريا بالآمال العريضة من جديد. فابتدأ الحراك معتمداً أيضاً على المثقفين والفنانين وطلاب الجامعات خصوصاً- ولم يكونوا وحدهم بالطبع-، من خلال مهرجانات السينما، ومنها تلك الوثائقية التي خرج من ناشطيها الكثير من أعضاء تنسيقيات الثورة، ولن أذكر الآن منها إلّا باسل شحادة- الشهيد على أرض حمص فيما بعد- وكثيرون غيره ممن أصبحوا مُوَثّقي الثورة ومنظّميها.

كان للتجمعات الرمزية والهادئة قرب السفارات المعنية دور بإثارة روح التضامن مع ذلك الربيع الوليد، وثوراته في تونس ومصر وليبيا، دور في نضج الثورة على نار هادئة في الأسابيع القليلة السابقة على مواعيدها.

وذلك كان تدريبياً ميدانياً أوليّاً على الحراك الكبير، بل الانتفاضة، بل الثورة التي انتقلت إلى سوريا هكذا من مظاهرة بسيطة وذات معنى في دمشق في 15/3/2011، ومظاهرة أمام وزارة الداخلية في اليوم التالي، ثمْ انطلاقة راسخة من درعا، حيث حرّكت اعتقالات أجهزة الأمن للأطفال وتعذيبهم ثم إهانة أهاليهم الحراكَ الذي أشعل السهل كلّه.

عجزت النخبة السياسية عن أن تنظّم قيادة موحّدة للمسار الثوري، ولم تتطوّر النخبة الشابّة الثورية إلى حدٍّ يستطيع التعويض عن الفراغ تماماً، وانقسمت النخبة الثقافية بين الطرفين: قسم منها أقرب إلى التقليدية، وقسم كان أقرب إلى الثوّار…

وبالطبع كان هنالك قسم لا يُستهان به ممّن عطّل مفاعيلهم قلقهم من وقوع الثورة في إسار الثورة المضادّة مسبقاً، وفي الخوف من طغيان الموجة الإسلاموية والمسلّحة وما تنذر بوقوعه، الأمر الذي لم تتأخّر مسارات الثورة في أن تقدّم لهؤلاء دليلاً على صحّة تشاؤمهم وسلبيّتهم.

حين تأسّس المجلس الوطني السوري كان لأكاديميين سوريين في المنافي دور هام في ذلك، إضافة إلى مثقفين كانوا في قيادته مثل برهان غليون وبسمة القضماني وعبد الباسط سيدا وغيرهم. كذلك عندما تأسّست هيئة التنسيق الوطنية- رغم الفرقة مع المجلس الوطني- فقد ضمّت كثيراً من المثقفّين في صفوفها، وخصوصاً لأنّها راعت في إطارها وقيادتها بعض مخاوف القسم الثالث أعلاه من التدخّل الخارجي والعنف والطائفية. وحين حدثت محاولة جدّية لتوحيد الطرفين في نهايات العام 2011، كان يقودها مثقفّون/ سياسيون من الطرفين: برهان غليون وهيثم منّاع!

ثمّ شهد تشكيل الائتلاف الوطني الذي ورث المجلس الوطني تراجعاً أكبر لدور المثقفين وشمولهم، كان طبيعياً أن تؤدّي إليه محاولات أسلمة الثورة وتسليحها، إضافة إلى ذلك الدور غير المباشر لضعف تمثيل الجانب الديموقراطي (الراديكاليّ بمعنى ما) في الائتلاف وظروف قيامه، ثمّ استمرار ذلك رغم بعض الخطى (الناقصة)، وحتى استقالة الكثيرين من ذلك اللون الديموقراطي/ الثقافي وخيبتهم من أحوال المعارضة.

وها نحن الآن بحاجة إلى ثقافة جديدة ومثقفين جدد، يتلاءمان مع ما وصلنا إليه، باختراقهما للجدار الفكري والموضوعي الذي انتصب في وجوهنا، ويعيد البناء بشكل جذري، بوعي مختلف يتناسب مع تغيّر معطيات الواقع الاجتماعي الجديد ويتطابق معها، ومع المقدّمات الجديدة لثورة أكثر شمولاً وجذرية…

ولعلّ أفضل وأهمّ ما بقي من الثورة ولم تستطع الثورة المضادّة النيل منه، هو ما ردّته للثقافة السورية، والشابة منها أولّاً، من الجميل أضعافاً، إذ أحيت جيلاً جديداً وكونيّاً تبرز فيه بشكل واضح نسبة شابة وأخرى نسوية، لا يمكن أن يزول تأثيرها وإبداعها حتى ولو تفرّقت في أركان الدنيا الأربعة.

******

بعض التوثيق لمسار المثقفين وفاعليّتهم السياسية مع نظام الأسدين في سوريا:

1-“لقاء الكتاب والصحفيين مع الجبهة الوطنية التقدمية”

(ملاحظة: تمّت المحافظة على تلقائية اللغة وعاميّتها في بعض الأماكن للحفاظ على حرارتها).

“بعد تردي الأوضاع الأمنية في النصف الثاني من السبعينات، وخصوصاً في صيف 1979، جرت محاولة من النظام للالتفاف على المطالب الشعبية وإرخاء نسبي لقبضة الأمن. ومن ذلك كان لقاء للجبهة التقدمية مع عدد كبير من المثقفين والكتاب والإعلاميين وبينهم عدد من البعثيين، بل بعض المشكوك بارتباطاتهم الأمنية أيضاً، جرى به تشجيعهم على الكلام بجرأة، لم تكن تنقصهم أساساً.

 فيما يلي بعض النماذج مما قيل يومذاك، مع تدخّل خفيف جداً وحسب في النصوص الشفوية:

عادل محمود:

“…على مستوى الأراضي المحتلة ما استرجعنا ولا شبر من الأرض بالعكس رجعنا الى الوراء … على مستوى القضية الفلسطينية الكل يعرف ان الفلسطينيين أكلوا ضربة بلبنان بمساعدة أو بتغاضي القوات السورية … القضية الاجتماعية بالبلد تبدأ من قصة الخبز وتنتهي بمشكلة الحرية فلا مشكلة الخبز انحلت ولا مشكلة الحرية انحلت ولا ما بينهما انحل… بالنسبة لمشكلة الحريات، الحقيقة ليس هناك داعي نحكي عنها طالما حكى كل الزملاء عنها وهي قضية واضحة جدا، أن الحريات تمارس فقط بمفهوم الدولة، بمفهوم النظام وضمن اطر محدودة جدا”.

ميشيل كيلو:

“الحقيقة أن الاستاذ عادل محمود صادر شيئا مما أريد الحديث عنه… أنا أريد الكلام عن موضوع الجبهة تحديداً وما أعتقد انه يتفرع عن الجبهة. كما طرح الاستاذ محمود الأيوبي أنه “هل يجب ان نعيد النظر في ميثاقها؟ أم يجب ان نعيد النظر في صلاحياتها؟ أم نعيد النظر في أسلوب عملها؟” (الأيوبي مردفاً: أو في تكوينها؟) .. أو في تكوينها. أنا في تقديري ان المسألة ليست الا بمعنى ما مسألة الجبهة… وصف الجبهة هي المآل الأخير الذي يجب ان ينصب نحوه تطور كبير يجب ان تشهده البلد.

لو أخذنا ميثاق الجبهة القديم إننا نجد أن فيه مجموعة ملاحظات أساسية: أول هذه الملاحظة أن هذه الجبهة هي جبهة قوى تلزم نفسها في رسم سياستها المختصة بالجبهة بالمنهاج المرحلي لحزب البعث العربي الاشتراكي وبمقررات مؤتمراته القطرية، وان هذه الجبهة باسم الحفاظ على الوحدة الوطنية يمنع على أربع من أحزابها ان تعمل في قطاعي الجيش والطلاب. هذا الأساس ينسف الجبهة ويمنع قيام جبهة. لا يجوز ان يكون هناك نظام مبني على التعددية السياسية ويشترك أعضاؤه وقياداته في تقرير مصير البلد الاستراتيجي ثم لا يؤتمن على الوحدة الوطنية. لا يؤتمن على العمل في القطاعات الشعبية. لأن هذا الموقف الذي هو في صميم الميثاق يلغي عمليا أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية التي ليست أحزابا عمالية وفلاحية وكلنا نعرف ذلك، انما هي أحزاب تتمركز أساسا في أوساط مثقفين وموظفين، فان منع عليها العمل بين الطلاب والشبيبة ثم في الجيش، وهي بالأصل ليست أحزابا عمالية وفلاحية فإنها تتطور نحو التلاشي وهذا ما يحصل لأحزاب ال(جوت) في هذا القطر بدرجات متفاوتة، انها أحزاب تتطور نحو اللافاعلية لأنه في صميم عملها في صميم الميثاق الذي وافقت عليه فكرة تقييدها والغائها ومنع نشاطها. هذا أولاً. ثانيا هناك أسس للعمل رسمها ميثاق الجبهة: اجتماعات دورية، مناقشة القضايا الكبرى. رسم الخط السياسي للبلد، البت في القضايا الكبرى للبلد الخ الخ، الجبهة تستطيع ان تتبرأ من قسم كبير من القرارات، وأعتقد ان أربعة من ممثلي الجبهة يجلسون هنا ‒ التي اتخذت في السنوات السبع الماضية… الجبهة لم اسمع انها ناقشت الخطط الاقتصادية، لم نسمع انها ناقشت الاصلاح الإداري، لم نسمع انها تكلمت عن تطوير عملها ككيان سياسي يقود البلد، لم نسمع انها تقدمت باقتراحات أو قدمت لها اقتراحات. هذه الجبهة مشكلتها الأساسية كانت ليس مع الجمهور الشعبي وانما مع النظام السياسي التي تدار بها الدولة في البلد. الآن تأتون الينا كلجنة جبهة كي تطوروا عمل الجبهة عبر حوار مع القواعد، انا أرجو الا أكون” بجح” وأود ان أقول لكم، يجب ان تبدأوا بالنقاش حول صيغة الجبهة المستقبلية مع القيادة وليس مع القواعد، قواعد الشعب، الجمهور الشعبي، ليست هي التي وضعت صيغة الميثاق وليست هي التي طبقته وليست هي التي قادت الجبهة نحو هذه الحالة من اللافاعلية وليست هي المسؤولة عما حدث في أحزاب الجبهة جميعا، فكلها تعرضت للتفكك والتمزق الداخلي وسارت شيئا فشيئا في سياسة افقدتها الى حد كبير منابع قوتها التنظيمية والعددية.

هذه الجبهة “المتطورة” لن تعطي شيئا جديداً إذا لم تُدرس علاقتها بالنظام السياسي وبالدولة وبالطريقة التي تتخذ فيها القرارات. في هذه الدولة نحن جميعا شهود وقائع لا أستطيع الآن ان أصفها وصفا اخلاقيا لأنه سيكون وصفا غير مهذب. كانت تتخذ القرارات ثم تجتمع الجبهة ويجتمع مجلس الشعب ويجتمع لست أدري من ليوافق عليها، المسألة ليست معنا نحن، مع الناس العاديين، ليست مع المنظمات، المسألة هي علاقة هذه الجبهة بالبنية التي يقوم عليها النظام السياسي وبالطريقة التي يتخذ فيها القرار السياسي في هذا البلد وأنا أعتقد بأنكم تستطيعون ان تناقشوا كل فرد في هذا الوطن في النهاية إذا لم تتحدد هذه المسألة بوضوح ودقة فان النقاشات هذه ستكون مفيدة كسجال، كحوار مع الناس، بالاستماع الى آرائهم، لكنها لن تكون مفيدة اذا حصرنا كلامنا مرة أخرى بالجبهة، فاني أجد ان ميثاق الجبهة كميثاق كان يضع قيودا على القوى السياسية ويمنع عملها كقوى سياسية. أي كشرائح سياسية لها وجهة نظر ايديولوجية مستقلة نسبيا تعبر عن استقلالية مصالح مجموعة من الشرائح الاجتماعية ‒ حتى لا أقول طبقة لأنها كلمة غير محبوبة في القاموس السياسي في دولتنا ‒ شرائح اجتماعية وهي مستقلة في وجهة نظرها ومستقلة في تنظيمها، حتى ولو اقتضت المرحلة ان تجد تقاطعا أو خطوط تقاطع مع الخط السياسي السائد.

هذه القوى التي تجلس في الجبهة لم تعد كذلك، انها في نظر الشعب لم تعد أحزاباً، إنها تجمعات حول شخص أو حول خط يمكن ان تروي عنه الأساطير والحكايات، في الخمسينات والستينات والأربعينات، لكنها لم تعد تعبر عن مصالح شرائح شعبية، مصالح اقتصادية اجتماعية سياسية متبلورة في خط له استقلالية نسبية، أصبحت توابع تدور في الفلك الأكبر، الذي هو فلك لست أدري من، هذا يجب على الجبهة ان تحدد، هذه المسألة الأساسية التي على الجبهة ان تقررها “نحن نتعاطى مع من؟” إذا “كنا نتعاطى مع تحت” فقد سمعتم الى حد كبير الآن شريحة ليست مفرحة كثيرا عن رأي تحت، إذا كنتم تريدون أن تتعاملوا كقوة سياسية هي قاعدة وقيادة هذه الدولة مع قضايا البلد… فيجب في البداية ان تتحدد علاقتكم تماما بالدولة القائمة في هذا البلد وأنا أخشى ان تطرح عليكم الآن أسئلة كقيادة مركزية ل(جوت) حول هذه العلاقة، أعتقد أنها محرجة الى حد ما.

النقطة الثانية التي أود ان أتحدث بها: تحدثنا كثيرا عن “خلل”، “أخطاء”، “تقصير”، “إهمال” الخ الخ ضمن إطار توجه عام صحيح عريض مضبوط هو توجه القيادة السياسية في سوريا”. أنا بتقديري أن بيان ال(جوت) الذي صدر قبل أيام قليلة كتب بهذه العقلية: “هناك مسيرة صحيحة تشوبها أخطاء قليلة. هذه الأخطاء نابعة جزئيا عن عمل الجهاز الإداري، نابعة كثيرا عن المؤامرات الخارجية، وإذا اتخذنا تدابير تقنية بحتة فإننا يمكن ان نصلح هذه الأخطاء”. أنا أعتقد ان هناك مؤامرة كبيرة على سوريا ليست ابنة 1976- 1977 المؤامرة على سوريا قائمة بأشكال مختلفة منذ قامت دولة اسرائيل‒ ولنقل دولة اسرائيل بصراحة ‒ هذه المؤامرة مرت بمراحل كثيرة، أنا أميز فيها مرحلتين كبيرتين:

المرحلة الأولى هي اسقاط كل منجزات الشعب السوري ضد الاستعمار الفرنسي وفي رأسها مرحلة طويلة من الليبرالية والحريات والديمقراطية البورجوازية وحريات العمل والسياسة ووو .. الخ. ثم مرحلة ثانية جاءت فيها الوحدة، وهذا فخر عبد الناصر الكبير، هي مرحلة جر ملايين البشر الى ساحة السياسة في اطر دولة اطارها العام، أي عملها العام، يقوم على الفرد وعلى مقاطعة الجماهير حتى منتصف الطريق وليس على التعبير عن الجماهير. أريد ان أقول إنه إطار ليس ديمقراطياً إلى درجة كبيرة. هذه المرحلة ‒ المؤامرة الكبرى ‒ التي نعيش نحن فيها الآن هي المؤامرة التي بدأت عندما أُسقطت جميع حريات الشعب السوري بما فيها حريات العمل وحرية التعبير عن الذات وتكوين القوى السياسية ووو الخ، وعندما أُسقط هذا الدور الشعبي. نحن الآن نواجه أزمة مميتة لأننا ندور في خواء كقيادة سياسية ومواطنين وقوى سياسية، لا نعرف ماذا نعمل خارج إطار الحرية ولا دور لنا خارج دور الشعب، المشكلة التي نعاني منها الآن ان هذه البلد ليس فيها دور للشعب وان الحريات خنقت فيها عن عمد وسابق تصميم والخ. لا يمكن ان يُرَمّم وضع البلد بالحديث عن خلل، عن بعض العيوب هنا وهناك، العيب الأساسي الكامن في بنية البلد الآن، في سياسة البلد الآن هر عيب بنيوي يقوم داخل بنى الدولة والمجتمع والطبقات والقوى السياسية وهذا العيب جُرِرنا اليه عبر مسيرة عمرها خمسين أو ستين سنة ونحن الآن نعاني منه باسم شعارات التقدم والوطنية والوحدة العربية وو… أنا أريد لن أسأل سؤالاً صغيراً هنا: حزب البعث العربي الاشتراكي يقوم بأيديولوجيته على أولوية المسألة القومية. الشيوعيون يقولون المسألة الاجتماعية، البعث يقول المسألة القومية هي رافعة التقدم الاجتماعي. أنا أوافق عموما على هذه الفكرة، كمواطن درويش يعني، أين هي الوحدة العربية؟ ماذا جرى للمسألة القومية الآن؟ من هو الذي يستطيع ان يتجرأ ويقول ان المسألة القومية الآن من بعد 20 سنة من حكم البعث هي بخير أكثر مما كانت عليه عام أيام حكم الشيشكلي وأيام حكم الكتلة الوطنية أو التجمع الوطني؟ أنا أريد التحدث عن المسألة الاجتماعية لكي أظهر لكم ما أقول انه أزمة بنيوية.

المسألة الاجتماعية: نحن نتحدث عن الاشتراكية، هل الاشتراكية في وعي الجماهير مسألة تتقدم؟ أنا باعتقادي ان الاشتراكية في وعي الجماهير مسألة تتراجع، هذا هو الواقع وهذا هو الشارع، ويستطيع أي إنسان مسؤول أن يضع عقالا على رأسه وأن يلبس جلابية وينزل إلى فرن، إلى باص ومدرسة ومشفى ليعود، بدون مناقشة مع الجمهور الشعبي، (ويرى) أن القضايا الكبرى قضايا الثورة العربية الكبرى تتراجع وتنهار وتتدمّر وأنها دُمّرت، وأنا شخصيا أعتقد أن وعي الشعب وهي مسألة هامة في السياسة ‒ السياسة تساوي بصلة اذا كان وعي الشعب ليس متكافئا مع الخط التقدمي الوطني الذي تطرحه القيادة ‒ إذا كان وعي الشعب يذهب في اتجاه وكلام القيادة يذهب في اتجاه آخر. وعي الشعب وصل الى مرحلة من التدمير والعداء لا يمكن أن تصلح فيها أحوال البلد إذا لم يكن هناك إصلاح جذري للبنى التي أقيمت في هذا البلد. أريد الآن ان أتحدث عن ظواهر هذه الأزمة التي أقول إنها أزمة بنيوية: هناك ظواهر خارجية وهناك ظواهر داخلية، أرجو ان لا أثقل عليكم! فقط دقيقتين، سأختصر، أول ظاهرة خارجية اننا دخلنا في لعبة التسوية … السادات، “الاتفاق الاستراتيجي مع السادات” دافعنا كثيرا عنه، أنا أذكر أحاديث المسؤولين في اتحاد الصحفيين كانوا يقولون “لا يمكن ان ينفك الحلف الاستراتيجي بيننا وبين السادات”. مرة واحدة نجد ان السادات ذهب مع الأمريكان والاسرائيليين وذهبت معه شريحة كبيرة من الدول العربية. نحن نضحك على أنفسنا عندما نعتقد ان السعودية تقف مع الصمود والتصدي وأن الخائن هو السلطان قابوس لوحده وجعفر النميري. ونضحك على أنفسنا كثيرا عندما نعتقد ان السيد الحسن الثاني جلاد الشعب المغربي، كلب الاستعمار الغربي بكل أنواعه هو رجل يقف في وجه الامبريالية الأمريكية ومخططاتها. ذهب السادات فقلبت موازين القوى في المنطقة كلها، هذه المسألة لا يمكن التجاوز عنها بشعار اسمه “إسقاط كامب ديفيد”، كامب ديفيد سيسقط المنطقة، وقد أسقط المنطقة. إذا كان هناك من يقاوم بالرمق الأخير فإن هذا لا يعني أن مقاومة كامب ديفيد بالإذاعة هي مقاومة كامب ديفيد بالواقع.

بعد كامب ديفيد كان يجب علينا ان نتخذ قرارات استراتيجية كبيرة: إما ان نذهب مع الأمريكان لأن التفاهم الدولي في المنطقة انهار بعد كامب ديفيد، وأما أن نذهب الى الكتلة الاشتراكية أي نقف مع الدول الاشتراكية. يجب ان نتخذ قرار استراتيجي. هذه مسألة لا تحتمل التأجيل. نحن نؤجل جميع مشاكلنا الكبيرة وندفعها أمامنا. وعندما تكبر الأزمة نتصور أننا نستطيع ان نحلها بأدوات لا تلبث بعد قليل ان نكتشف انها أصبحت جزءاً من الأزمة مثل بيان (جوت). أنا برأيي هذا جزء وتعبير عن الأزمة عندما نعد الناس بعد 16 سنة بحل مشكلة الخبز، فمتى سنحل مشكلة فلسطين والوحدة العربية والاشتراكية والسكن واللباس والتعليم والصحة والزراعة المتدهورة والصناعة التابعة وووالخ؟! عندما نعد الناس بالسعي الى النظر في صلاحية مجلس الوزراء، هذه بحق فضيحة، بعد عشر سنوات نريد ان ننظر في صلاحيات ليس فقط رئيس الوزراء وانما الوزراء والمحافظين ومعاونين الوزراء ومعاوني رئيس الوزراء، ماذا كان يفعل رئيس الوزراء طوال تسع سنوات؟ يتاجر بالمساكن؟ يبيع ويشتري مساكن؟ أنا لا أفهم بجد بيان الجبهة. هذه مسألة أكبر بكثير من أن ينظر إليها بوصفها ورقة فيها 32 مطلب أو 33 مطلب. أريد ان أقرب هذه المسألة من الأذهان، بيان القيادة القطرية المؤقتة في 16 تشرين كان يقول إن المعركة الآن هي معركة تحرر وطني وليست معركة تحرر اجتماعي، وأن هذا التحرر الوطني هو المهمة الاستراتيجية الأولى للثورة الديمقراطية التقدمية العربية في سوريا. لا يوجد ولا كلمة من هذه المهمة الاستراتيجية في بيان الجبهة الأخير… ولا حرف. هناك حديث عن الجبهة الداخلية. بدأنا نقول “إن المهمة ضد العدو الخارجي” والآن تتجمع الجبهة “على العدو الداخلي”… وفي أي إطار تتجمع أحزاب الجبهة على العدو الداخلي؟ في إطار من عزلة شعبية خانقة، في إطار الانهيار في وضع وبنى النظام ومؤسساته وسياساته، عدم وجود ثقة فيه، ثم نهجم على العدو الداخلي بوصفه عميل لكامب ديفيد، في الداخل يوجد خلل، لا توجد بنى مغلوطة… يجب ان نفتح أعيننا أخيرا قبل ان تفوت الفرصة الأخيرة ونلتقي هنا بعد ست سنوات أو خمس سنوات ويقول انسان ما: “لم يحذرنا أحد… كان الشعب متواطئا” لأن كل ما يصدر الآن عن الدولة له هذا المدلول “لقد كان الشعب متواطئا”.

أحمد دحبور:

“لا أعرف ما هو الهامش الذي تركه لي الصديق ميشيل كيلو بعد هذه المداخلة الرائعة، ولكن أحسب انه سأل سؤالاً: ما الذي لم تفعله الجبهة الوطنية التقدمية؟ إنني أريد ان أقول ما فعلته. على حد معلوماتي ان هناك موقفين هامين وتاريخيين لل(جوت): الأول التوقيع على وقف إطلاق النار في حرب تشرين، والثاني هو مباركة ذبح الفلسطينيين في لبنان. هذا تأريخ. على أي حال لقد اهتممت كثيراً بما تفضل به الأستاذ الأيوبي عندما قال “أن الكلام يبقى كلاماً ما لم يدخل حيز التنفيذ” وأحسب انه كان يقصد ان الجبهة وان السلطة معنية بأن يدخل بيانها حيز التنفيذ. هذا شيء جميل، ولكن أرجو ان تسمحوا لي بالسماع الى قصتين، إحداهما جرت قبل بيان (جوت) والثانية جرت بعدها.

عام 1976 ارتكبت عناصر غير منضبطة، كما قيل آنذاك في بيان من قوات الصاعقة، جريمة ضرب مكتبين لجريدتين وطنيتين في لبنان هما “بيروت” و”المحرر”… وأنا بالمناسبة لست بعثياً عراقياً وانا أحتقر النظام العراقي. دخلت الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين، دخلت الى البلد هنا وقابلت الرفيق عبد الله الأحمر الأمين العام المساعد لحزب البعث العربي الاشتراكي. حدثته في أمور كثيرة بينها هذا الموضوع. استمع الرجل استماعا طيبا وأبدى أسفه- وهو موجود الآن- وأكد أن ما جرى هو تصرف عناصر غير منضبطة. في المساء نقلت وكالة الأنباء السورية قدوم وفد أمانة عامة للكتاب والصحفيين الفلسطينيين لمباركة النظام ‒ هذا ما جرى. بعد بيان الجبهة‒ لا أدري إذا كان بعد بيان الجبهة إنما بعد الوعود الكثيرة التي نسمعها الآن ‒ اجتمع مجلس اتحاد الكتاب العرب مع رئيس الجمهورية وأعتقد أن هناك من قال من أعضاء مجلس الاتحاد كلاماً ما… مثلًا إن هناك طائفية تمزق البلد، مثلاً إن هناك خطراً على البلد… والبيان الذي صدر عن هذا اللقاء كان يؤكد وقوف الكتاب جميعا صفا واحدا خلف الخط السياسي والقيادة الحكيمة لهذا البلد. هاتان القصتان تطرحان أسئلة ربما تلخص هذه الأسئلة في سؤال واحد في كلمة واحدة: الثقة. النوايا طيبة بالتأكيد، الأيدي ممدودة بالتأكيد، أنتم تسمعون كما هو واضح، ولكن ما هي الضمانات. من الذي يضمن لي أننا في هذا اليوم لن نسمع خبراً أن “الكتاب والصحفيين السوريين اجتمعوا مع قيادة ال(جوت) وممثليهم ليؤكدوا مباركتهم ودعمهم”؟ أرجو أن لا أسمع هذا الخبر وساعتها سأكون سعيدا، بالتأكيد، لأنني لست متصيداً ولست شامتاً. أنا معني أن ينتصر هذا الوطن، أنا معني بأن تتمكن سوريا فعلا من الوقوف في وجه مؤامرة كامب ديفيد ولذلك أطرح هذه الأسئلة الجارحة وإن لم تكن أكثر إيلاماً مما تقدم به الزملاء الاخرون. ثم ماذا عن القاسم المشترك لحديث الاخوان جميعا؟ ماذا عن الديمقراطية؟ وماذا عن كل ما يتشعب عن هذا السؤال الشرك المخيف؟ لماذا أحتاج أنا كمواطن ‒ وأنا بالمناسبة مواطن عربي فلسطيني من رعايا الجمهورية العربية السورية ‒ لماذا أحتاج الى موافقة المخابرات حتى تقرر إذا كان يحق لي ان أسكن ابني في الجمعية السكنية في دمر. ولماذا طلبي موجود عند المخابرات من شهر 2-1977 حتى الآن؟. أنا لا أرفع شكوى وأرجو ألّا يؤخذ كلامي بعين الاعتبار، لأني لا أطلب التماساً! نزيه ابو عفش، واحد من أهم شعراء هذا الوطن يحمل وثيقة معززة بتوقيع السيد رئيس الوزراء والسيد معاون وزير التربية والسيد رئيس اتحاد الكتاب العرب وشفاعة خمسة أطباء على الأقل بأنه لا يستطيع ان يعمل لأنه صحياً مريض… لأنه معه الشقيقة، وكل ما يطلبه طلب بسيط صغير: أن يُنقل الى عمل اداري، السيد مدير تربية دمشق يرفض ذلك… ولكنني متأكد من انه استجاب لطلبات أخرى وشكراً.”

سمير الخطيب:

“كان من المفترض- على الأقل بحكم ان أي نتيجة سياسية يجب ان يرافقها تغيرات سياسية- الجماهير كانت تعتقد أن صدور أي قرار أو بيان عن الجبهة يجب أن يرافقه أيضاً تغييرات في الأشخاص التاريخيين الموجودين على رأس الجبهة، ان كان ذلك نسبيا أو بشكل مطلق. لم يحدث ذلك اطلاقا. كانت الورقة التي طرحتها ال(جوت) والتي أخذت اسم الميثاق (عفوا اسمحوا لي بالجلوس فأنا متعب قليلاً)… كان ميثاق الجبهة- كما يفترض ان يكون- مقدمة، ويجب ان ترافقها تغيرات في البنى، في الأسس التي أوصلت الى هذه المشكلة. ولكن يبدو ان عدم تغيير الأشخاص كان ينبغي ان يشير بأن هذه المتغيرات في المستقبل لن تتجاوز السطح. نحن لا نعتقد ذلك الا من تجربة طويلة، قد لا أزعم ذلك بالنظر الى سني ولكنني أستطيع ان أتنبأ بذلك تماما لنسأل أنفسنا أولاً: القيادة الحالية التاريخية في (جوت) هل هي مؤهلة حتى من قبل أحزابها لقيادة هذه الأحزاب؟ انني أطالب ‒وانني لن أُخوّف في مجال النقد فكلامي سيكون مختصرا جداً، ولن أدخل في المشكلة البنيوية لأن الحديث عن هذه المسألة سيطول فعلاً ‒ أنا أطالب بعقد مؤتمر استثنائي لكافة الأحزاب الممثلة في (جوت)… مؤتمر عام استثنائي كما يحدث عادة في اللحظات التاريخية والمصيرية، تقرر فيها قواعد وأعضاء الجبهة ما إذا كانت راضية عن القيادات الموجودة في الجبهة. نطالب أيضا بعد أن يتم هذا المؤتمر أن ينعقد أيضا مؤتمر استثنائي يضم كافة قواعد الأحزاب الممثلة في الجبهة لنرى ما إذا كانت ستختار فعلا القيادات الموجودة حاليا أم انها ستطرح بدائل أخرى. قلت أنى سأخوض في البدائل ولن أخوض عملية النقد. أحب هنا أن أورد مثلا صغيرا: في اللعبة البرلمانية في إيطاليا لعب الحزب الشيوعي الإيطالي دوراً انفصل فيه عن الجماهير منذ فترة الأربعينات وحتى فترة الخمسينات، ولذلك ظهر نوع من الغضب الشعبي الحقيقي داخل الحزب الشيوعي الايطالي فظهر حزبان: الحزب الشيوعي الرسمي والذي يجلس على مقاعد الحكومة في البرلمان أيضاً، والحزب الشيوعي الشعبي الذي يعتقد بأن ما يمثله الحزب الشيوعي الرسمي لا يمثل الجماهير الواسعة العريضة. ونتيجة تصرفات الحزب الشيوعي ظهرت فئات راديكالية والتي تجاوزت الحزب الشيوعي والحزب الشيوعي الشعبي… ونتيجة لذلك أتنبأ ولدى معلومات، لقد ذكر لي صديق من أحد الأحزاب التقدمية جدا في هذا البلد أن القيادة الحالية له طلبت مؤتمراً يضم شيوعيي دمشق فقط لالغاء المؤتمر العام، أو لمعاداة المؤتمر العام على الأرجح من أجل تجاوز ما تطرحه القواعد وأؤكد هنا اني لست شيوعياً؛ وهذا التأكيد ليس خوفا فلم يعد هناك ما يخيف على الاطلاق؛ أنا أطلب اجتماع القواعد للتأكيد على هذا، للتأكيد ما اذا كانت القواعد ستختار فعلا هذه القيادات التي حصلت على امتياز تاريخي أعطته فترة الخمسينات ‒ الفترة الوطنية ‒. أما نحن الآن فبُعد المسألة له طابع وطني وله طابع اجتماعي. أفق القيادات الحالية هو أفق وطني لم يستطع تجاوز أفق دائرة الخمسينات التي كانت مجرد نضال وطني. كانت مجرد التأكيد على أولوية الاستقلال الوطني. في ضوء المتغيرات الحالية التي تتطلب فعلا استقلال وطني واجتماعي لنسأل القواعد: هل هذه القيادة مؤهلة لقيادتكم على المستويين؟ وهل هي مؤهلة لاستيعاب الدوائر الجديدة في منظورات التطور المحلي والعربي والدولي أيضا؟ في ضوء ذلك أنا أعتقد؛ وقد أكون مختصرا الى حد بعيد؛ ستتحدد تحالفاتنا وتتحدد تحالفات هذه الأحزاب أيضا وستفرز قوى على المستوى الطبقي وعلى المستوى السياسي. تلك هي البدائل التي كنت أريد ان أطرحها… “

ممدوح عدوان:

“ضمن الأسباب الداعية لاجتماعنا هذا، لا شك أنه هناك إحساس عند (جوت) أنها بعيدة قليلاً عن الناس و(جوت) جزء من هذا النظام الذي يحس أنه بعيد عن الناس بُعدَ هذا الشارع السياسي السوري عن السلطات السورية المتتالية، سببه تاريخ من وقوع هذا الشعب ضحية لكذب الأنظمة. الأنظمة السياسية كذابة لذلك لا يصدقها، لا يصدق بيان عن معركة بعدد الشهداء ولا يصدق حتى درجات الحرارة القصوى والصغرى. الإعلام كمعبر عن السلطة يكذب أيضا. أنا أشتغل في اعلام أخجل منه لأنه يكذب بهذا المقدار، يكذب بدرجة الحرارة… يكذب بإخفاء الكوليرا ‒ وهل هناك أحد يخفي الكوليرا؟! “‒” يكذب بالتستر على اللصوص وعلى التجار والمرتشين وشركائهم ويشكك بي وبكم حين كنتم تقولون أنّ هناك فساد. السؤال: لماذا يكذب الواحد؟ ولماذا يكذب الحزب؟ لماذا تكذب فئة ما؟ أين الكذب وأين موقعه؟ الكذب له نوعان: نوع ما يغاير الحقيقة ونوع اخفاء قسم من الحقيقة أو اخفائها كلها.. وفي الحالتين ينطلق الكذب من الخوف، الخوف من الآخرين. والسلطات التي تكذب هي سلطات تخاف الشعب وليست مسألة “لا تثق بالشعب لأنه ما عنده مبادرات بناءة وفعالة”… لا، هي سلطات تخاف هذا الشعب، تخاف أن يراها على حقيقتها. لذلك يقمعوا رأي الشعب يقمعوا حتى سؤاله… مثال: أنا أريد ان أسأل سؤال: كنا على خصومة مع العراق، والعراق ببياناتنا الرسمية من نفس الأشخاص الذين كانوا موجودين واستمروا حتى الآن، من وزراء عامين و(جوت) وقيادات في الحزب، كلهم أدلوا ببيانات شديدة اللهجة عن خيانة الحكم العراقي وارتباطه بالاستعمار وتواطؤه مع أمريكا وعدائه لحركة التحرر العربية ومسؤوليته عن قتل الناس واغتيالهم في شوارع دمشق. وبعدها تصالح النظام في سوريا مع النظام في العراق. لم يكلف مسؤول واحد نفسه، في سوريا والعراق، ان يقول لهذا الشعب ‒ والذي لا أعرف كم مليون صار ‒ “يا جماعة، كنا غلطانين بحق بعضنا”، فقط هذه الكلمة، ما خطر لواحد ان يقول: “كنا غلطانين بحق بعضنا”؟ لا، هم كانوا عملاء ونحن بنظرهم عملاء وتصالحنا. ولم يكلف أحد خاطره ليقول: “يا شعب، تريد ان تعمل وحدة؟ تريد ان تخوض معركة التحرير؟ تريد ان تخوض معارك البناء؟ نحن كنا غلطانين يوم قلنا عنهم جواسيس. والآن نتحالف معهم لأنهم ليسوا جواسيس”. لم يقل أحد هذا، للآن لهذه اللحظة… لماذا؟؟ لأنه نحن لا نهمّ أحد، ولأننا لا نهمّ أحد ف(جوت) ‒ باعتبارنا الآن نناقش مشكلة الجبهة الوطنية ‒(جوت) معترفة الآن ‒ ببيانها وبكلام الأستاذ محمود الأيوبي- إنه فعلا البلد في أزمة، وهناك ست أو سبع سنوات من العمل الذي ليس صحيحا تماما، هناك اعتراف بهذه المسألة ‒ طيب أين كانت الجبهة، خلال هذه السنوات التي حدثت فيها أخطاء وفواجع؟ كانت غائبة وليس لها دور؟ دورها ليس فعال وبناء؟ لماذا لم تطلع ببيان تقول لنا فيه: “نحن آسفين، السنوات الماضية لم نكن جيدين”. كيف أستطيع ان أثق فيهم وهم الآن أنفسهم؟؟ ألم تكن مرحلة الفساد التي مرت، والكلام الذي ملأ الشارع عن الرشاوى والعمولات والسمسرة والضباط الذين يساهمون في شركات ويحمون المهربين، والنهب الذي حصل في لبنان واغتنى منه ناس وصاروا من أصحاب الملايين والبناء الذي عمل بعضهم من أصحاب الملايين… هذا الكلام تناول أيضا أناساً هم في رأس السلطة وهم في قيادة (جوت)، وهناك أشخاص موجودين الآن هنا تناولهم كلام الشارع. يجوز كذب أو صح، المهم تناولهم ولا ثقة بهم على الأقل. إذا كانت التهم كاذبة فهناك زعزعة بالثقة ولم يكلف حزب من الأحزاب نفسه مسؤولية القول “والله مندوبنا في الجبهة لم يكن نشيط”… على الأقل هكذا، وليضحك علينا يا أخي، وقولوا: “إن مندوبنا لم يكن نشيطاً” وغيروا مندوبكم بالجبهة… لا الأحزاب قالت “مشاركتنا لم تكن بناءة” ولا الجبهة قالت “ان وجودنا في السلطة لم يكن بناءً”. اذاً لا أعرف أين المشكلة: نفس الأشخاص، نفس الأحزاب. إذا أنتم الذين ارتكبتم الأخطاء… أنتم وأنتم بالأشخاص… قيادات هذه الأحزاب أو تطلعوا ببيان تقولوا من عمل كل ذلك، تقولون لماذا لم تستطيعوا تصليحها؟ ولماذا سكتم عنها؟ ولماذا خنقتم أصواتنا وشككتم بوطنيتنا عندما كنا ننتقدها؟ فنحن من كثرة التشكيك بوطنية المواطن، ومن “الظروف الراهنة التي يمر بها الوطن العربي”، صار يتجنب المشاكل ولا يريد وجع الرأس، حتى صار لا يريد مواطنيته. هذه هي النتيجة ‒ لا يريد مواطنيته.

كلنا تحدثنا عن مسائل تبدو جريئة، هناك مسائل كلنا تجنبناها، لم يتكلم أحد عن سرايا الدفاع، لم يتحدث أحد عن المخابرات، لم يتحدث أحد عن… إذا لم نقل الوجه الطائفي للسلطة… الممارسة الطائفية لبعض عناصر السلطة. في الشارع الآن هناك تهيج قائم وأنتم تعرفوه … (بعض كلمات غير واضحة) وأمريكا تريد المنطقة، وتريد ان تركعنا شعباً وارادةً وكرامة، لكن أنا حتى الآن، في كل شيء حصل في سوريا؛ على الأقل من كامب ديفيد وحتى الآن؛ لم أسمع أنه اعتقل جندي أمريكي في سوريا ولا اعتقل جاسوس أمريكي في سوريا. الذي يخرب والذي يقاوم التخريب مواطنين، والذي يتعاطف مع التخريب ويصبح سلبياً مع الدولة هم مواطنين… والمواطنين الذين كانوا يطاردون الاخوان المسلمين في حماة ‒ والأستاذ محمد حيدر يمكن ان يتذكر ذلك ‒ في حماة أيام ما قبل الوحدة حيث كانوا يطاردوهم للمساجد والبيوت، وكان البعثيين قلة مضطهدة وفي نضال سلبي، الآن حزب البعث ‒ ولا أعلم يا استاذ كم صار تعداده ‒ في البيوت والاخوان المسلمون يملكون الشارع، ولماذا كان المواطنون إذا قلت “حرامي” يركض معك ألف مواطن ليقبض عليه، الآن يقتل انسان في وضح النهار بطلقات مسدس ويمشي القاتل ولا أحد يدل عليه ولا أحد يقول ملامحه؟ لأنه هناك ممارسات خاطئة، تركت المواطن يتراجع، يصير عنده انتكاسات طائفية، شعبنا متخلف وعنده بذور طائفية، لكنها كانت متجمدة… الآن تنمو، لماذا؟ لدي سؤال اشرحوه لي الآن… أريد جوابه الآن: اشرحوا لي ما هي سرايا الدفاع؟ ولماذا لها هذه الامتيازات؟ لماذا تكون امتيازات جندي بسرايا الدفاع أكثر من ضابط بالقوات العاملة؟ ولماذا لا نتجرأ أن نحكي عليها؟ ولماذا تحكي الناس عليها بالهمس والوشوشة… وتعرفون انه يحكى عليها بالهمس (وشوشة في الجمهور) وأنتم تحكون عليها بالوشوشة … (ضحك في القاعة وتصفيق) فالمأزق الطائفي مثلا ضمن المآزق الوطنية التي نصل اليها مسألة تحتاج الى مواجهة مباشرة، تحتاج الى صورة أشعة واضحة ليعرف الطبيب الدواء وشكرا.” (تصفيق)

محمد حوراني:

“الحقيقة ما تحدث به الأخ ميشيل كيلو والأخ ممدوح عدوان لم يتركا لأحد شيئا (الأيوبي: الذين كانوا قبلك نفس الشيء… وحكوا أكثر!)

…بيان الجبهة الوطنية التقدمية حدث هام في سوريا. وهكذا مطلوب منا أن نتحدث لكننا … (الأيوبي يقاطع المتحدث: نحنا ما قلنا حدث هام ولا طلبنا من أحد يقول هذا الكلام والله… نحنا في الجبهة على الأقل…) طيّب بيان الجبهة الذي اذيع والذي اعتبر أنه ليس حدثاً هاماً… (ضحك)… لم يثق به المواطن قطعاً ولا تطلبوا من المواطن أن يثق بما جاء به، لأن كل النصوص التي وردت فيه نصوص وردت في خطاب السيد رئيس الجمهورية في ولايته الثانية أمام مجلس الشعب، إلا أن هذه البنود التي وردت في بيان الجبهة لم تنفذ مع أنها صدرت من جهة أعلى وهي السيد الرئيس. فكيف ستستطيع إذن الجبهة الوطنية التقدمية (جوت) مع كل الشحنات التي حملت بها لكي تنفذها؟! الحقيقة أن المشكلة ليست في (جوت)… (مقاطعة غير واضحة) … لا أريد أن أقول إنها غير موجودة أو إنها ستوجد خلال الفترة القادمة مع أن حزب البعث والذي يشكل فيها وهو قائدها موجود في القيادة السياسية في البلد موجود في مجلس الوزراء وأعضاء في مجلس الوزراء موجودين في (جوت)… يعني الأمور متداخلة ومختلطة أما أن تُحمّل الآن (جوت) كباب… منفذ جديد يتحدث به لسنة أو سنة ونصف أو ستة أشهر. بكل الحالات المواطنون في هذه الأيام لم يقتنعوا قطعاً، لأن حادثة رجل أمن واحد يتخطى شارة حمراء وهو يشفّط بسيارته يؤثر أكثر مما يؤثر بيان الجبهة الوطنية… (من الجمهور: صحيح…) نقطة أخرى: أنتم في هذه الجلسة أردتم ان تتحملوا المسؤولية أو وضعتم أنفسكم في مكان وكأن الحل سيمر من هذه النقطة مع أن الكل يعرف أن الحل ليس من عندكم وليس من (جوت)، وأن حل كل هذه الاشكالات التي يعيشها المواطن والتي يقول فيها وبحق: كيف تستطيع سوريا أن تتصدى لكامب ديفيد ولا تستطيع ان تتصدى لمشكلة الخبز؟! (تساؤل من رئاسة الحوار: شو .. خبز .. خبز؟…) ويبدو أنها … فعلاً هذا سؤال كبير، كيف نستطيع أن نتصدى لأمريكا؟! وإسرائيل؟ وللنظام المصري الذي أُضِيف اليها حديثا وبعض الدول العربية التي هي منضمة تستّراً ولا نريد نحن أن نعلن عنها؟ كيف نستطيع أن نتصدى لهذا الحلف الطويل العريض ولا نستطيع أن نحل مشكلة الخبز؟! إلاإاذا كان مطلوباً أن تكون هناك مشكلة خبز ومشكلة مواصلات ومشكلة أمن ومشكلة غاز لكي .. وهذا ما يقوله الشارع، “يريدون أن يلهونا عن مشاكلنا الأساسية بمشاكل ثانوية. يريدون ألا نفكر بالسياسة وبأحداث السياسة وبالمشاكل السياسية وبالقضايا الكبرى. يريدون أن نلتفت إلى القضايا الصغيرة لكي ننشغل بها طيلة النهار”… حتى لا نكون من “الشكّائين” أي نشتكي فقط، الحل واضح وتعرفوه قبل غيركم. الحل بالديمقراطية والتي لن يستطيع أحد ان يتخذ قرار بأن تمارس الديمقراطية في هذا البلاد لأن جهات هامة وكثيرة لا ترغب في أن يكون هناك ديمقراطية، ولا تستطيع، أو عقلها لا يستطيع أن يتحمل أن تكون هناك ديمقراطية. يعني من الممكن ان يكون أحد المسؤولين المتنفذين والذين بيدهم السلطات المسؤولة ولو كتب أحد الصحفيين مقالاً أو سرب مقالاً في صحيفة، ممكن أن يعتقله أو يفصله كما حدث قبل فترة، صاروا يفصلوا بعضهم (يقاطعه الوزير: وضعوه تحت التصرف…) فلذلك الحل بالديمقراطية وبممارسة الديمقراطية حقيقة، أن يكون لكل حزب صحيفة وأن يُفتح المجال لكل المواطنين لكي يعبروا عن آرائهم وأن تمارس الديمقراطية في كافة المجالات الحياة وشكراً.

علي العيسى :

قد تستغربون اذ أعلن أمامكم ان الأحزاب المشتركة في الجبهة لا أعرف أسماءها تماماً، رغم أني أعمل في الصحافة. ولكن ليس الأمر بالمستغرب… طبعاً، من أين لي أن أسمع بهذه الأحزاب؟! بأسماء هذه الأحزاب وان أعرفها بدقة، طالما أنكم أنتم أعلنتم في بداية هذا الاجتماع أن (جوت) كانت غائبة تماماً عن كل ما يجري في هذا البلد؟ وأنا شخصيا لم يتح لي أن أعرف عنها إلا تلك الأخبار البسيطة التي تنشر في أعقاب بعض الاجتماعات التي تحدث بين الحين والآخر. يضاف إلى ذلك، أود أن أسأل سؤال: من هي هذه الأحزاب؟ وما هي الشرائح التي تمثلها؟ وكم تمثل من الشعب؟ أنا أفترض أن القيادة المركزية أو أن الأحزاب الممثلة في القيادة المركزية ل(جوت) يجب أن تمثل غالبية الشعب وإلا تفقد الجبهة أو قيادة الجبهة مبررات وجودها. فكم تمثلون أنتم الآن؟! أنتم الأحزاب الممثلة في الجبهة والتي انضوت تحت لواء الميثاق؟ الأكثر من ذلك أن المواطن العادي- بكل أسف- لا يتعامل مع هذه الأحزاب كأحزاب. نحن نعرف أن أحزاب الجبهة ممثلة داخل الحكومة ولكن بكل أسف يقال دائماً إن هذا الوزير من جماعة فلان… حتى كلمة “حزب” لم تعد واردة… الآن لا يقال إن هذا الحزب الفلاني أو إن الوزير من الحزب الفلاني، يقال إن هذا الوزير من جماعة فلان… إضافة إلى الانشقاقات الكبرى التي حدثت بين الأحزاب. لنأخذ الحزب الشيوعي مثلا… هل الشيوعيين في سوريا ممثلين فعلاً بكل قواعدهم، بكل شرائحهم داخل الجبهة الوطنية التقدمية؟ أنا لا أعرف كل الانقسامات التي حدثت، لكن كل ما أعرفه أن هناك مجموعات: جماعة فلان، جماعة خالد بكداش، جماعة رياض الترك، جماعة غيره… أخيرا دعونا نحكي بالشيء الأهم والأكبر وهو حزب البعث العربي الاشتراكي الذي يقود هذه الجبهة. الآن ما هو واقع هذا الحزب؟! هل يتعرض لنفس الأمراض التي تتعرض لها الأحزاب الأخرى؟! بكل أسف ربما كانت أمراضه أكبر وأشدّ وأمرّ. في بدايات الستينات من هذا القرن أصدر حزب البعث المنهاج المرحلي الذي اعترفت فيه كل القوى التقدمية في العالم على أنه منهاج متقدم وثوري وما شابه ذلك… والآن وبعد هذه الفترة الطويلة من الزمن نشاهد أن حزب البعث قد تحول الى تجمع مثل بقية الأحزاب. فاذا كان هذا هو واقع الحزب الذي يقود هذه الجبهة فكيف حال بقية الأحزاب؟ لا شك أنها ليست أحسن حالاً. ما الذي نشأ في ظل هذه الظروف؟ كيف نمت وترعرعت ووصلت إلى هذه القوة ظاهرة الاخوان المسلمين؟ حزب البعث يمتلك كل هذه المقدرات المفترضة والوهمية غالبا ومعه بقية الأحزاب التي تُطلق على نفسها تسمية تقدمية وطنية اشتراكية ثورية وما شابه ذلك؛ ومع حزب البعث بمنظماته الشعبية الجماهيرية التي ينضوي كل الناس تقريبا دون استثناء تحت لوائها، أين هذه المنظمات وأين هذه الأحزاب؟ في اللاذقية اغتيل أحد رجال الدين… كنا نأمل ونتوقع أن تتصدى الأحزاب جماهير حزب البعث جماهير الشيوعيين، جماهير … ما بعرف شو اسمها (ضحك في القاعة..) أعذروني… والمنظمات الشعبية، عمال وفلاحين وشبيبة وطلاب كان من الممكن أن تتصدى لمظاهر الشغب التي ظهرت… أين هي؟ بالأخير طلع “لا تستغربوا هذه ما فيها شيء هذه جماعة رياض الترك وجماعة صلاح جديد وجماعة رابطة العمل الشيوعي”، أنا بودي أن أسأل الآن هل من معلومات دقيقة لدى قيادة حزب البعث أو لدى القيادة المركزية ل(جوت) عن هوية وطبيعة الناس المنضوين تحت لواء رابطة العمل الشيوعي؟ أنا معلوماتي أن المنضوين تحت لواء هذه الرابطة هم من خيرة العناصر الذي عرفهم حزب البعث العربي الاشتراكي… فكيف حصل ذلك؟ لماذا نجد الآن الجيل الجديد يلفظ ويرفض قياداته ويرفض كل القوى السياسية الموجودة ويبحث عن التيارات المتطرفة إمّا يميناً أو يساراً؟ من هنا ظهرت ونشأت ظاهرة الاخوان المسلمين. حيث يفترض أن منظمة الشبيبة مثلا هي الموجه والقائد لجيل الشباب وهي التي تبحث عن كل الوسائل والصيغ التي تمتّن من علاقة هذا الجيل بالثورة وبمستقبل الثورة، نجد ان الاخوان المسلمين ينظمون الدورات التدريسية والتعليمية المجانية لجماهير الشباب، حيث فقد الشباب أي أمل في أن هذه المنظمات وأن هذه الأحزاب تمثلهم فعلًا وتلبي طموحهم، بدأوا يبحثون عن تنظيمات أخرى حتى وإن كانت تتعارض الى حد ما مع اهتماماتهم.

في بداية الحديث سأل الرفيق محمود الأيوبي أو قال “الناس تقول أو تتساءل هل سينفذ بيان الجبهة؟” نحن سنفترض الكمال في هذا البيان وبودي ان أسأل نفس السؤال للرفيق محمود ولجميع الرفاق الموجودين: هل سينفذ فعلا بيان الجبهة؟ هذا ما لم نستطع الاجابة عليه ولا يستطيع الاجابة عليه أي منكم قطعا بدليل أن مثل هذا البيان قد صدر سابقا”…

بعدَ أو في أعقاب تشكيل لجنة المحاسبة في عام 1978، أنا وأحد من الصحفيين أو أول صحفي التقيت مع الرفيق أحمد دياب وأجريت حديث مطول معه وكان كلامه أنه سيضرب بيد من حديد على أيدي كافة العابثين والمستهترين؛ وفي أعقاب ذلك توزعت القيادة القطرية للحزب على فروع الحزب وبدأت تشرح للناس الأوضاع الراهنة ومستقبل القطر والتغيرات المتوقعة وما شابه… لكن ما الذي حدث؟ الذي حدث أن الناس أُصيبوا بإحباط كبير، وأن من تحدث بجرأة في ذلك الحين مثلي أنا على ما أذكر، اتُّهم بأنه من المناورين وأنه من العقلية المتسلطة… أنا شخصيا اتهمت بأني من جماعة صلاح جديد لكوني تحدثت بصراحة وبجرأة عما يجب أن يكون، ولا أدري بماذا يتهم الأخ ممدوح أو الإخوان الاخرين الذين تحدثوا بصراحة وبوضوح. الناس حتى بحسهم العفوي البسيط يقولون إن القائد العسكري الذي يفشل في معركة عسكرية… الذي ينهزم … عندئذ ينتحر أو يستقيل أو ما شابه. الناس الآن تقول إن القيادة الموجودة ‒ وهي تقول تحديدا القيادة القطرية ‒ وتقول القيادة المركزية ل(جوت) وتقول إن مجلس الوزراء، وتقول مجلس الشعب… تقول إن هذه القيادات يفترض فيها الآن أن تعلن أنها فشلت وغير قادرة على أن تستمر… وبالتالي فهي تقدم استقالتها وتترك الفرصة لأدوات تنفيذية جديدة قادرة على تنفيذ ما هو مطلوب في المرحلة القادمة. كيف نطور الجبهة؟ هذا الذي يهمكم أكثر ‒ أعرف ‒ قبل كل شيء لا بد من أن نحدد بوضوح مطلق من نحن؟ ما هي هويتنا الاجتماعية؟ طبعاً أنا لا أطالبكم بأن تقولوا بأننا سنسلك وسننهج نهج اشتراكي تقدمي ثوري، لكن أن تحددوا بوضوح من نحن؟ نحن اشتراكيون؟ لا بأس فللاشتراكية أساليب عملها وللاشتراكية مقوماتها. نحن رأسماليون؟ أيضا لا بأس، لكن أنا واحد من المنخرطين في حزب البعث، أنا حتى هذه اللحظة لا أستطيع ان أحدد بوضوح من نحن… هل نحن اشتراكيون فعلا؟ لا أظن. رأسماليون؟ لا أظن. لذلك أرى ان المسألة بمقدار ما هي سهلة وواضحة، هي أيضا معقدة وصعبة، من سيجيب على هذه الأسئلة وعلى هذه التساؤلات؟ أنتم؟ ‒ لا أعتقد! انا أعرف وسمعت أحاديث منقولة عن بعضكم أنكم لا تعرفون شيئاً عما يجري، عما يمكن ان يحدث، فكيف سنطور الجبهة؟ اذن لنحدد هويتنا الاجتماعية أولاً. لنعزز المناخ الديمقراطي ثانياً. كيف يمكن أن يُعزّز المناخ الديمقراطي؟ عندما وقّع السادات اتفاق كامب دافيد وفي أعقاب التوقيع أو في نفس لحظة التوقيع شاهدت بنفسي طلبة المدينة الجامعية وقد تركوا غرفهم واجتمعوا ونزلوا الى مسيرة غير منظمة يعبروا عن مشاعرهم الوطنية الحقيقية تجاه هذه الخيانة وعندما ساروا في شوارع دمشق بدأت الجماهير تنضم إليهم لكن بكل أسف جاء من يقول “لا… المسيرة غداً” و”نحن سننظم المسيرة”.

أية ديمقراطية هذه لا يحق فيها للمواطن أن يعبر عن رأيه حتى حيال مسائل كبرى التي هي من هذا النوع؟ فهل الديمقراطية بالمقدار الذي نريد وبالصيغ التي نريد؟ اذا كان الأمر كذلك لا أدري. أنا أعرف ان الديمقراطية غير ذلك. هموم المواطنين ومشكلاتهم لا أريد ان أتحدث عنها كثيرا لأنكم تعرفونها أو ربما لا تعرفونها، ومن حقكم ألا تعرفوها لأنكم لا تركبون الباص ولا تشترون السلع ولا تعرفون وضع الخبز. هذه المسائل يعرفها المواطنون العاديون أمثالنا، لكن مثل هذه الأزمات الخانقة القاتلة تترك آثاراً سلبية مدمرة في نفوس الناس. المواطن بدأ يحس ان علاقته بمواطنيته مفقودة. طبعا المواطنية ليست مثلما قال عنها الرفيق عبدالله الأحمر إنها “هي ليست خبز، هي نضال”، يعني نحن لا نعرف كيف النضال. حتى داخل الحزب الآن.. الحزب الذي يقود ال(جوت) ومعه كل الأحزاب قالت إن في البلد كيت وكيت ومطلوب كذا للمرحلة المقبلة. على رأي الرفيق صياغ أنا الآن وكل الاخرين الذين تحدثوا من جماعة كامب دافيد ومن مؤيدي كامب دافيد! وان كل واحد يضخم الأخطار بالنهاية يصب مع جماعة كامب دافيد… اسئلة كثيرة بتقديري لا أنا ولا أنتم المطلوب منّا أن نبحث عن أجوبة لها. لماذا الآن ‒ مثل ما حكى أكثر من صديق ‒ يُقتل خيرة علماء هذه الأمة ولا نجد من يمكن أن يدل على القاتل؟! أين النهوض الوطني الذي شهده شعبنا؟! الذي شهدتموه أنتم فنحن كنا وقتها صغار في الخمسينات من هذا القرن… حزب البعث بعد هذا الحكم الطويل بعد 16 سنة يحس أنه ليس له جماهير… وشكراً”.

علي المصري:

“استوقفتني عند الصباح أم العيال وراء غسالة الفريسكو من طراز 60 ترجوني ألا أتكلم…(الأيوبي مقاطعا: ألا ؟؟؟) .. أتكلم… (الأيوبي: ما سمعت والله)… ترجوني ألا أتكلم (صوت من الجمهور موضحا للأيوبي: مرته قالت له لا تحكي ..) فقلت لها: رجاؤك مقبول، إنما أريد نقل آرائك. فقالت: دعك من هذا فالكلمة بغي فقدت شرفها. إن تاج العروس ولسان العرب الذي تعود إليه، لم تعد الكلمات الآن من عوائده وليست تمت اليه بصلة. فقلت لها: دعيني أنقل مشاعركم على الأقل… أدافع عن حسام ووسام وهمام. قالت: لا يمكنك الدفاع عنهم لأنك لا تملك في هذا القطر شيئا. قلت: بل سأتكلم. قالت: تذكر أن من ستتكلم إليهم اليوم سيعودون بالتكسي المرسيدس 280 وأنت ستعود بالباص. فقلت لها: فليكن… لن أتخلى عن مسؤوليتي. قالت: إنك لست مسؤولاً، ولا حتى عن نفسك، لأنك بكتبك الثمانية، يأتي أحدهم من أسفل الاقبية ويسألك من أنت فبماذا تجيب؟ قلت لها القصة التالية: سافرت في السنة الماضية إلى أوروبا وقضيت ثلاثة أشهر. على باب الهجرة والجوازات نودي “على المصري”، فرفعت يدي فقال بالحرف الواحد؛ واستميحكم العذر؛ “يا خرى صار لنا ساعتين ننادي عليك” وقذف لي الجواز من فوق رؤوس الجماهير. وقفت في مطار لندن أقدم جواز سفري لإحداهن. نظرت في الجواز فقلبته ثم قالت” دقيقة واحدة”. قلت لرفاقي “علقنا” لماذا؟؟؟ لأني منذ 1948 حتى اليوم لا أملك الا الرعب والخوف من الحاضر من المستقبل… قلت جاءت المخابرات!  عادت بالبوليس سلمته جواز السفر، ووقفت تحييني.. فاستغربت… جاء البوليس ووقف بين الحقيبتين وحمل إحداهما باليمنى والأخرى باليسرى إلى باب المطار… استوقف تكسي “هل تملك العنوان؟” “نعم” وضع الحقيبتين داخل السيارة فاستغربت ذلك… ثم دار إلى باب السيارة الثاني وفتحه وقال: “تفضل”، وحيّاني، وقال “يشرّف حكومة صاحبة الجلالة أن أكون برفقة عضو اتحاد الكتاب العرب في سوريا”… فضحكت، وكان بودّي ان أبكي ولكنني ضحكت. فصممت الا أتكلم وجئت اليكم لأقول هل للكلام جدوى؟ لا جدوى للكلام لأن أرخص ما في هذه البلاد الانسان والكلمة! إذا كان الانسان رخيصاً والكلمة رخيصة فأستميحكم العذر لأعود الى أم العيال كما وعدت ان لا أتكلم وشكراً.” (تصفيق عاصف) (الأيوبي يضحك!!)

النص الكامل لبيان الـ 99 الذي نشر بتاريخ في 20 أيلول/ سبتمبر 2000:

“الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان في عالم اليوم لغة إنسانية مشتركة تجمع بين شعوب الأرض وتوحد آمالها في غد أفضل.

وإذا كانت بعض الدول الكبرى تستخدم هذه المقولات بشكل انتقائي لإمرار سياساتها وتحقيق مصالحها، فإن التفاعل الحضاري بين الشعوب بعيداً عن منطق الهيمنة وسياسات الإملاء، قد سمح لشعبنا في الماضي، وسيسمح له في المستقبل، أن يتأثر بتجارب الآخرين ويؤثر فيها، مطوراً في خصوصيته غير منغلق عليها. وتدخل سورية اليوم القرن الحادي والعشرين وهي في أمس الحاجة لأن تتضافر جهود أبنائها جميعاً في مواجهة تحديات السلام والتحديث والانفتاح على العالم الخارجي. ولهذا فإن شعبنا مدعو أكثر من أي وقت مضى، إلى المشاركة في صناعة حاضره ومستقبله.

انطلاقاً من هذه الحاجة الموضوعية، وحرصاً على وحدتنا الوطنية، وإيمانا منا بأن مستقبل بلدنا لا يصنعه غير أبناءه، وبوصفنا مواطنين في نظام جمهوري يمنح الجميع الحق في إبداء الرأي وحرية التعبير، فإننا نحن الموقعين، ندعو السلطة إلى تحقيق المطالب الآتية:

أولاً: إلغاء حالة الطوارئ والأحكام العرفية المطبقة في سورية منذ العام 1963.

ثانياً: إصدار عفو عام عن جميع المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي والضمير والملاحقين لأسباب سياسية، والسماح بعودة المشردين والمنفيين السياسيين جميعاً.

ثالثاً: إرساء دولة القانون، وإطلاق الحريات العامة، والاعتراف بالتعددية السياسية والفكرية وحرية الاجتماع والصحافة والتعبير عن الرأي، وتحرير الحياة العامة من القوانين والقيود وأشكال الرقابة المفروضة عليها، بما يسمح للمواطنين بالتعبير عن مصالحهم المختلفة في إطار توافق اجتماعي وتنافس سلمي وبناء مؤسساتي يتيح للجميع المشاركة في تطوير البلاد ازدهارها.

إن أي إصلاح سواء كان اقتصادياً أم إداريا أم قانونياً، لن يحقق الطمأنينة والاستقرار في البلاد، ما لم يواكبه في شكل كامل، وجنباً إلى جنب الإصلاح السياسي المنشود، فهو الوحيد القادر على إيصال مجتمعنا شيئاً فشيئاً إلى بر الأمان.

 عبد الهادي عباس (محامي وكاتب)، عبد المعين الملوحي (عضو مجمع اللغة العربية)، أنطون مقدسي (كاتب ومفكر)، برهان غليون (كاتب ومفكر)، صادق جلال العظم (كاتب ومفكر)، ميشيل كيلو (كاتب ومفكر)، طيب تيزيني (كاتب ومفكر)، عبد الرحمن منيف (روائي)، أدونيس (شاعر)، برهان بخاري (باحث)، حنا عبود (كاتب)، عمر أميرالاي (سينمائي)، خالد تاجا (ممثل)، بسام كوسا (ممثل)، نائلة الأطرش (مسرحية)، عبد الله حنا (باحث ومؤرخ)، سمير سعيفان (اقتصادي)، فيصل دراج (باحث)، حيدر حيدر (روائي)، نزيه أبو عفش (شاعر)، حسن م يوسف (صحفي وقاص)، أسامة محمد (سينمائي)، نبيل سليمان (روائي وناقد)، عبد الرزاق عيد (باحث وناقد)، جاد عبد الكريم جباعي (كاتب وباحث)، عبد اللطيف عبد الحميد (سينمائي)، سمير ذكرى (سينمائي)، أحمد معلا (فنان تشكيلي)، فارس الحلو (ممثل)، حسان عباس (باحث)، حنان قصاب حسن (أستاذة جامعية)، ممدوح عزام (روائي)، عادل محمود (شاعر)، حازم العظمة (طبيب وأستاذ جامعي)، برهان زريق (محامي)، محمد رعدون (محامي)، ياسر صاري (محامي)، يوسف سلمان (مترجم)، هند جمالي (سينمائية)، منذر مصري (شاعر وتشكيلي)، أحمد المعيطة (أستاذ جامعي)، وفيق سليطين (أستاذ جامعي)، مجاب الإمام (أستاذ جامعي)، منذر حلوم (أستاذ جامعي)، عادل سليمان (أستاذ جامعي)، سراب جمال الأتاسي (باحثة)، توفيق هارون (محامي)، عصام سليمان (طبيب)، جوزيف لحام (محامي)، عطية مسوح (باحث)، رضوان قضماني (أستاذ جامعي)، نزار صابور (فنان تشكيلي)، شعيب طليمات (أستاذ جامعي)، حسن سامي يوسف (سينمائي وكاتب)، واحة الراهب (سينمائية وممثلة)، حميد مرعي (مستشار اقتصادي)، رفعت السيوفي (مهندس)، موفق نيربية (كاتب)، سهيل شباط (أستاذ جامعي)، جمال سعيد (أستاذ جامعي)، عمر كوش (كاتب)، ريمون بطرس (سينمائي)، أنطوانيت عازرية (سينمائية)، نجيب نصير (ناقد وكاتب)، مي سكاف (ممثلة)، نضال الدبس (سينمائي)، فرح جوخدار (معمارية)، أكرم قطريب (شاعر)، لقمان ديركي (شاعر)، حكمت شطا (معماري)، محمد نجاتي طيارة (باحث)، نجم الدين السمان (قاص)، علي الصالح (باحث اقتصادي)، صباح الحلاق (باحثة)، نوال اليازجي (باحثة)، محمد قارصلي (سينمائي)، سوسن زكزك (باحثة)، شوقي بغدادي (شاعر)، بشار زرقان (موسيقي)، فايز ساره (صحافي)، محمد الفهد (صحافي وشاعر)، محمد بري العواني (مسرحي)، نجاة عامودي (مربية)، عادل زكار (طبيب وشاعر)، مصطفى خضر (شاعر)، محمد سيد رصاص (كاتب)، قاسم عزاوي (شاعر)، محمد حمدان (كاتب)، نبيل اليافي (باحث)، تميم منعم (محامي)، ابراهيم حكيم (محامي)، أنور البني (محامي)، خليل معتوق (محامي)، علي الجندي (شاعر)، علي كنعان (شاعر)، محمد كامل الخطيب (باحث)، ممدوح عدوان (شاعر)، محمد ملص (سينمائي)، محمد علي الأتاسي (صحافي).

النص الكامل لبيان الألف” الوثيقة الأساسية للجان إحياء المجتمع المدني”

نُشر في بداية الشهر الأول من عام 2001: عبد الرزاق عيد

تحتاج سورية اليوم، أكثر من أي وقت مضى إلى وقفة موضوعية لاستخلاص دروس العقود الماضية وتحديد معالم المستقبل، بعد أن تردت أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، وأضيفت اليها تحديات العولمة والاندماج الاقتصادي، فضلاً عن تحديات الصراع العربي -الاسرائيلي، التي تطرح على شعبنا وأمتنا مهام النهوض لمواجهتها ودرء أخطارها.

وانطلاقا من إيمان صادق بالوطن والشعب وما يتوافران عليه من امكانيات خلاقة وقوى حية، وحرصاً على التفاعل الايجابي مع أي مبادرة جادة للإصلاح، تمس الحاجة اليوم إلى حوار شامل بين جميع أبناء الوطن وفئاته الاجتماعية وقواه السياسية ومثقفيه ومبدعيه ومنتجيه، للمشاركة في الفعاليات التي من شأنها أن تؤدي إلى نمو المجتمع المدني المؤسس على حرية الفرد وحقوق الانسان والمواطن، وإلى بناء دولة حق وقانون تكون دولة جميع مواطنيها وموطن اعتزازهم، بلا استثناء ولا تمييز. فبلادنا اليوم في حاجة إلى جهود الجميع لإحياء المجتمع المدني الذي حرم ضعفه واضعافه، في العقود الماضية، عملية النمو والبناء من قدرات وفاعليات وطنية مهمة وجدت نفسها مجبرة على الممارسة الإيجابية.

وإن ما يكتنف مفهوم المجتمع المدني من التباس ناشئ عن تعدد التجارب الديموقراطية في التاريخ القديم والحديث لا ينفي وجوده الواقعي عندنا بوصفه كينونة اجتماعية في التاريخ وفي العالم. ولا سيرورة انتقاله المتعثرة إلى مجتمع عصري وحديث التي أنتج مجتمعنا خلالها ثقافة متجددة وصحافة حرة ونقابات وجمعيات وأحزاباً سياسية وشرعية دستورية وتداولاً سلمياً للسلطة، حتى غدا من أقل الأقطار العربية تأخراً، إن لم يكن من أكثرها تقدماً. وكانت تلك السيرورة ترقى بمجتمعنا إلى الاندماج الوطني والاجتماعي، إلى أن حدث ذلك القطع المؤسس على “المشروعية الثورية” الانقلابية في مواجهة المشروعية الدستورية. ولم يكن ممكناً تهميش المجتمع المدني وتغييبه، على هذا النحو، لولا تماهي السلطة والدولة، وتماهي الشخص والمنصب الذي يشغله، وصبغ الدولة بصبغة الحزب الواحد واللون الواحد والرأي الواحد، وجعل الدولة جزءا من المجتمع لا يعترف بجزئيته، بل يقدم نفسه ممثلاً للشعب و”قائدا للدولة والمجتمع”، ويخفض المواطنة إلى مستوى الحزبية الضيقة والولاء الشخصي، وينظر إلى بقية المواطنين على أنهم مجرد رعايا. فغدت أموال الدولة ومؤسساتها وثروات الوطن ومؤسسات المجتمع المدني أيضاً كأنها اقطاعات وحيازات وملكيات خاصة توزع على الموالين والاتباع، فحلت الامتيازات محل القانون والهبات والعطايا محل الحقوق والمصالح الخاصة محل المصلحة العامة. واستبيح المجتمع وانتهبت ثرواته وتحكم من صاروا رموزاً للعسف والفساد بمقدراته، وغدا كل مواطن مشتبهاً به، بل “مداناً وتحت الطلب”. وراحت السلطة تنظر إلى الشعب لا على أنه كم مهمل وموضوع لإرادتها فحسب، بل على أنه قاصر وناقص أهلية وموضع ريبة وشك. ولم يخل الامر من تخوينه كلما بدرت منه بوادر التعبير عن رأيه والمطالبة بحقوقه. وتجدر الاشارة هنا إلى أن تغييب المجتمع المدني أدّى إلى تغييب الدولة، مما يؤكد العلاقة الجدلية بينهما، إذ لا يقوم أحدهما إلا بالآخر. فالمجتمع المدني هو مضمون الدولة الحديثة، والدولة الحديثة هي شكله السياسي، وهما معاً يشكلان النظام الديموقراطي.

إن مجتمعنا الذي أنتج ثوراته الوطنية على الاستعمار، وحركته السياسية المناوئة للاستبداد السياسي، وأسفر عن روحه الوطنية – القومية المتوثبة إلى التحرر والتقدم، والذي صبر وصابر وقدم الكثير الكثير من الشهداء والتضحيات في سبيل الحرية والكفاية والعدل لا يزال قادراً على إعادة إنتاج حياته الاجتماعية والسياسية وإعادة بناء اقتصاده وثقافته وفق مقتضيات الحداثة ومنطق التقدم، والانطلاق في ركاب التقدم العلمي والتقني. وهو قادر على تجاوز العلاقات والبنى التي أنتجت الاستبداد وتمفصلت مع الاوضاع الامبريالية والتجزئة القومية التي نجمت عنها.

لقد باتت واضحة للعيان نتائج الانقلاب على الديموقراطية السياسية باسم الاشتراكية. وتبين للجميع مع انهيار النموذج السوفياتي واستطالاته في أوربا الشرقية وفيما كان يسمى العالم الثالث، استحالة بناء الاشتراكية أو بناء ديموقراطية اجتماعية بلا ديموقراطية سياسية. كما تبينت هشاشة الدولة التي لا تستمد مشروعيتها من المجتمع المدني والسلطة التي لا تستمد مشروعيتها من الشعب. وتبينت أكثر نتائج النظر إلى الشعب على أنه مادة أو موضوع لـ “الإرادة الثورية”، ونتائج إنكار أفرادية الواقع وتعدد مكوناته الاجتماعية والثقافية والسياسية وتنوعها، واختلاف مصالح فئاته الاجتماعية وتباينها، ومن ثم إنكار حقيقة أن القانون، بصفته ماهية الدولة وتعبيراً حقوقياً عن النظام العام، وبصفته تعبيراً عما هو مشترك بين جميع المواطنين وجميع الفئات الاجتماعية هو تسوية تاريخية بين هذه المصالح وذلك الاختلاف الذي يجب ان يكون قوام الوحدة الوطنية الفعلية. هذه التسوية التاريخية هي التي تنتج الدستور والمدونة التاريخية بما يتسق وتطور النظام العام المتأثر، بالطبع، بإيقاع التطور العالمي. لذلك فان الدساتير والقوانين تُعدّل وتُطوّر أو تُغير وفق مقتضيات هذا التطور. وعلى هذا فان مفهوم المجتمع المدني الذي انبعث من جديد في سبعينات القرن العشرين، على صعيد العالم الذي ننتمي اليه، مكانيا على الاقل، كان ولا يزال يمثل بداهة الوجود الاجتماعي، منذ انتقل البشر من الطبيعة إلى الاجتماع، أي العمران البشري والسياسة المدنية، بتعبير ابن خلدون. ومن صلب هذا المفهوم يتولد نسق مفاهيمي ينتج عنه ويشير اليه “العقد الاجتماعي” في مواجهة “الحق الإلهي” الذي ادعاه الاباطرة والملوك المستبدون لأنفسهم. وما هذا العقد سوى معادل سياسي للانقلاب العقلاني الذي جعل مركز ثقل المعرفة البشرية في الانسان، فأنتج المجتمع الحديث والفكر الحديث الدولة المدنية الحديثة التي تكفل حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية كفالتها حرية الفكر، في ظل الاعتراف في حقل الممارسة من حرية محددة بالقانون ومشروطة بالمسؤولية تتوجها المبادرة الخلاقة وحب المعرفة والعمل مع الجماعة ومن أجلها.

لذلك كله، تُلِحُّ الحاجة اليوم إلى إحياء مؤسسات مجتمعية واجتماعية متحررة من هيمنة السلطة التنفيذية والاجهزة الأمنية التي منحت نفسها جميع الصلاحيات، ومتحررة من الروابط والعلاقات والبنى التقليدية، كالمذهبية والعشائرية والطائفية ومستقلة عنها، وذلك لإعادة انتاج السياسة في المجتمع بوصفها فاعليته الحرة الواعية والهادفة، ولتحقيق التوازن الضروري بين المجتمع والدولة وتنسيق وظائفهما في سبيل تحقيق الحرية والعدالة والمساواة وتعزيز الوحدة الوطنية، ومن ثم توطيد هيبة الدولة وسيادتها وصيرورة القانون مرجعاً عاماً وحكماً للجميع. ففي نطاق المجتمع المدني فقط، يمكن إطلاق حوار وطني شامل قوامه حرية الرأي والتعبير واحترام الرأي والرأي الآخر، والاعتراف بما فيه من صواب، لتفعيل المشاركة الشعبية انطلاقاً من المشترك الوطني إلى المنفعة العامة والخير العام. فليس من حق أي فئة اجتماعية أو سياسية أن تقرر وحدها، ما هي المصلحة الوطنية والقومية وما هي الوسائل والأساليب الكفيلة بتحقيقها، لذلك فان على أي فئة اجتماعية أو سياسية بما في ذلك السلطة الممسكة بدفة الحكم اليوم أن تطرح رؤيتها وتصوراتها وبرنامجها على الشعب لمناقشتها والحوار حولها، وليس من حوار ممكن من دون حرية الرأي والتعبير ومن دون نقابات حرة واعلام حر وأحزاب حرة ومنظمات اجتماعية حرة ومؤسسة تشريعية تمثل الشعب حقاً وفعلاً، وليس من اصلاح ممكن من دون حوار وطني شامل، فالحوار ينتج دوماً حقائق جديدة ليست لأي من المتحاورين بل لهم جميعاً، لأنها قائمة فيهم جميعاً. ومنطق الحوار ينفي “منطق” احتكار الحقيقة واحتكار الوطنية وأي احتكار آخر. لذلك ندعو إلى اعتماد مبدأ الحوار والنقد الايجابي والتطور السلمي لحل جميع الخلافات بالتسوية والتفاهم، وهذه من أهم سمات المجتمع المدني ومزاياه.

ولا تتجلى حيوية المجتمع المدني في شيء أكثر مما تجلى في إنشاء تنظيمات طوعية غير حكومية مستقلة ومتنوعة جوهرها الخيار الديموقراطي وغايتها دولة حق وقانون تكفل الحقوق المدنية وتصون الحريات العامة. لذلك نرى في الدفاع عن المجتمع المدني دفاعاً من المجتمع المدني عن دولته وعن السلطة الممسكة بزمامها.

ولكي تثمر الاصلاحات الاقتصادية ولكي تنجح عملية مكافحة الفساد والإفساد لابد أن يمهد لها ويرافقها اصلاح سياسي ودستوري شامل، وإلا فإن هذه الاصلاحات لن تحقق المأمول منها. لذا ينبغي أن تتحول عملية الاصلاح ومكافحة الفساد إلى آلية عمل قانونية دائمة تحفز المشاركة الشعبية وتعزز الرقابة والإشراف المستمرين على مؤسسات الدولة التي هي مؤسسات نفع عام، وعلى أنشطة القطاع الخاص أيضاً في جو من الشفافية يتيح لجميع الفئات والقوى الاجتماعية والاحزاب السياسية فرص المشاركة الفعلية في التخطيط والإعداد والتنفيذ والتقويم، والتنبيه إلى الخطأ والهدر والفساد فور وقوعها، وتمكين القضاء والهيئات الرقابية من المساءلة والمحاسبة. فان المعالجات الجزئية والاستنسابية والانتقائية لا تؤدي إلى الإصلاح.

وإذ تنطلق رؤيتنا وممارستنا من اعتبار الإنسان غاية في ذاته، واعتبار حريته وكرامته ورفاهيته وسعادته هي هدف التنمية والتقدم، والوحدة الوطنية والمصلحة العامة مبدأين ومعيارين لجميع السياسات والممارسات، والمواطنين جميعاً متساوين أمام القانون فلا تمييز بينهم على أي اعتبار كان ولا تفاضل في المواطنة، مادام التمييز والتفاضل ينتجان دوماً أصحاب امتيازات ومحرومين من الحقوق، ويبذران من ثم بذور التفرقة والشقاق وينحطان بالعلاقات الاجتماعية إلى ما دون السياسة، وإذ تنطلق رؤيتنا وممارستنا كذلك من حقيقة أن السياسة الحقة هي التي تنعقد جميع دلالاتها على المصلحة الوطنية/ القومية والانسانية لا على المصالح الخاصة والأعمال الفردية، وأن الإنجازات الوطنية تنسب إلى الشعب لا إلى الافراد وأن الفئات الاجتماعية والاحزاب السياسية إنما تتحدد بالكل الاجتماعي والوطني ولا تحدده، وأن الشعب هو مصدر جميع السلطات فإننا نرى في الإصلاح السياسي مدخلاً ضرورياً ووحيدا للخروج من الركود والتردي وإخراج الإدارة العامة من عطالتها المزمنة، وأن المقدمات الضرورية للإصلاح السياسي والتي لم تعد تحتمل التأجيل هي الآتية:

1-وقف العمل بقانون الطوارئ وإلغاء الأحكام العرفية والمحاكم الاستثنائية وجميع القوانين ذات العلاقة، وتدارك ما نجم عنها من ظلم وحيف. وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين وتسوية أوضاع المحرومين من الحقوق المدنية وحق العمل بموجب القوانين والاحكام الاستثنائية، والسماح بعودة المبعدين إلى الوطن.

2-إطلاق الحريات السياسية ولا سيما حرية الرأي والتعبير، وقوننة الحياة المدنية والسياسية بإصدار قانون ديموقراطي لتنظيم عمل الأحزاب والجمعيات والنوادي والمنظمات غير الحكومية، وخاصة النقابات التي حولت إلى مؤسسات دولتية، ففقدت كلياً أو جزئياً الوظائف التي أُنشِئت من أجلها.

3-إعادة العمل بقانون المطبوعات الذي يكفل حرية الصحافة والنشر والذي تم تعطيله بموجب الأحكام العرفية.

4-إصدار قانون انتخاب ديموقراطي لتنظيم الانتخابات في جميع المستويات، بما يضمن تمثيل فئات الشعب كافة تمثيلاً فعلياً، وجعل العملية الانتخابية برمتها تحت إشراف قضاء مستقل، ليكون البرلمان مؤسسة تشريعية ورقابية حقاً تمثل إرادة الشعب ومرجعاً أعلى لجميع السلطات وتعبيراً عن عضوية المواطنين في الدولة ومشاركتهم الإيجابية في تحديد النظام العام. فإن عمومية الدولة وكليتها لا تتجليان في شيء أكثر مما تتجليان في المؤسسة التشريعية وفي استقلال القضاء ونزاهته.

5-استقلال القضاء ونزاهته وبسط سيادة القانون على الحاكم والمحكوم.

6-إحقاق حقوق المواطن الاقتصادية المنصوص على معظمها في الدستور الدائم للبلاد ومن أهمها حق المواطن في نصيب عادل من الثروة الوطنية ومن الدخل القومي، وفي العمل المناسب والحياة الكريمة، وحماية حقوق الأجيال القادمة في الثروة الوطنية والبيئة النظيفة. فإنه لا معنى لتنمية اقتصادية واجتماعية إنْ لم تؤدِ إلى رفع الظلم الاجتماعي وأنسنة شروط الحياة والعمل ومكافحة البطالة والفقر.

7-إن الإصرار على أن “أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية” تمثل القوى الحية في المجتمع السوري وتستنفد حركته السياسية وأن البلاد لا تحتاج إلى أكثر من تفعيل هذه الجبهة، سيؤدي إلى إدامة الركود الاجتماعي والاقتصادي والشلل السياسي فلا بد من إعادة النظر في علاقتها بالسلطة وفي مبدأ الحزب القائد للدولة والمجتمع وأي مبدأ يقصي الشعب عن الحياة السياسية.

8-إلغاء أي تمييز ضد المرأة أمام القانون.

وبعد فإننا من منطلق الاسهام الايجابي في عملية البناء الاجتماعي وفي عملية الاصلاح، نتداعى وندعو إلى تأسيس لجان إحياء المجتمع المدني في كل موقع وقطاع، هي استمرار وتطوير لصيغة “اصدقاء المجتمع المدني” علّنا نسهم، من موقع المسؤولية الوطنية، ومن موقع الاستقلال في تجاوز حالة السلبية والعزوف والخروج من وضعية الركود التي تضاعف تأخرنا قياساً بوتائر التقدم العالمي. وعلّنا نخطو الخطوة الحاسمة التي تأخرت عقودا في الطريق إلى مجتمع ديموقراطي حر سيد مستقل “يسهم في ارساء أسس جديدة لمشروع نهضوي يضمن مستقبلا أفضل للأمة العربية”.

(ملاحظة: تمّ استثناء أسماء الموقّعين رغم أهميتها، بسبب ضيق المساحة على العدد الكبير).

إعلان بيروت- دمشق…إعلان دمشق- بيروت

تَشهد العلاقات اللبنانية السورية تدهوراً متسارعاً بات يُهدِّد بتكريس شرخ عميق بين البلدين الجارين والشعبين الشقيقين. لقد اتسع نطاق هذا التدهور منذ إجراء عملية التمديد للرئيس اللبناني إميل لحود، في انتهاك لروح الدستور اللبناني وفي استهتارٍ برأي أكثرية اللبنانيين، ثم تصاعد، بوتائر شديدة الخطورة، مع ارتكاب جرائم الاغتيال السياسي التي أودت بحياة شخصيات سياسية وحزبية وإعلامية ومواطنين أو طاولتهم وفي المقدمة منها جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

شعوراً بالقلق الشديد من هذا التدهور الخطير، تداعى عدد من أصحاب الرأي في سورية ولبنان لعقد سلسلة من النقاشات والحوارات، خلال شهري شباط وآذار، توافقوا خلالها على ضرورة العمل، قولاً وفعلاً، من أجل التصحيح الجذري للعلاقات السورية اللبنانية بما يلبِّي المصالح والتطلعات المشتركة للشعبين في السيادة والحرية والكرامة والرفاه والعدالة والتقدم.

لسنا بغافلين عن أنَّ العلاقات بين سورية ولبنان محمَّلة بعدد من المشكلات تراكمت مفاعيلها عبر عقود منذ قيام الكيانين السياسيين ابتداءً من العام 1920. وقد جاء تدخل النظام السوري في الحروب اللبنانية (1975 ـ 1990) والوصاية التي مارسها على لبنان فترة ما بعد الحرب، وتحكُّمه الأمني بقرار لبنان السياسي والاقتصادي، لتزيد تلك المشكلات حدَّةً وتعقيداً. نعتقد أن تلك التجارب المريرة تحتاج إلى وقفات تأمُّل ونقاش ومراجعة نقدية مشتركة على شتى الصعد، ونحن نعلن، هنا، استعدادنا الكامل للمساهمة في الاضطلاع بتلك المهمة.

لكننا نود، في حيِّز هذا الإعلان، أن نستعيد أيضاً ما يختزنه تاريخ شعبينا من نضالات وتضحيات مشتركة، متذكِّرين، في هذا الصدد، شهداء ساحتي المرجة، في دمشق، والبرج، في بيروت، خلال العامين 1915 و1916، والانتفاضات الوطنية والشعبية ضد الانتداب الفرنسي عندما كانت المدن اللبنانية تقفل وتتظاهر ويتلقى شبّانها الرصاص بصدورهم تضامناً مع انتفاضات المدن السورية والعكس بالعكس. ولقد توقفنا أمام المسؤولية الكبرى التي تتحمَّلها الطبقات الحاكمة في البلدين في الدفع نحو القطيعة الاقتصادية عام 1950 ووأد الحلم المشترك لروَّاد الاستقلال في تأسيس دولتين مستقلتين تقيمان أوثق العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية بينهما. على أن طغيان تلك المصالح الضيِّقة لم يمنع الشعبين من تجديد نضالهما المشترك من أجل قضية فلسطين وضد الأحلاف العسكرية الدولية والإقليمية وصولاً إلى تضامنهما، خلال العقود الأخيرة، في التصدي للعدوان الإسرائيلي عليهما واحتلاله لأجزاء من أراضيهما وقد أثمر التصدي في لبنان تحرير جنوبه المحتل.

تأسيساً عليه، وفي زمن تتكاثر فيه العوامل الضاغطة من أجل المباعدة بين السوريين واللبنانيين، نعلن إصرارنا على الحوار والتضامن والعمل المشترك من أجل التصحيح الجذري للعلاقات بين البلدين والشعبين وفقاً لرؤية وطنية مستقبلية مشتركة هذه بعض مكوناتها:

أولاً: احترام وتمتين سيادة واستقلال كل من سورية ولبنان في إطار علاقات ممأسسة وشفافة تخدم مصالح الشعبين وتعزز مواجهتهما المشتركة للعدوانية الإسرائيلية ومحاولات الهيمنة الأميركية. وإننا ندعو في هذا المجال إلى إرساء تلك العلاقات على أسس نابذة لمشاريع الإلحاق والاستتباع من جهة والاستعلاء والتقوقع والقطيعة من جهة أخرى.

في هذا الصدد، يطالب المشاركون السوريون بضرورة الاعتراف السوري النهائي باستقلال لبنان ومغادرة كل تحفظ ومواربة في هذا المجال. ويُعلن المشاركون السوريون واللبنانيون معاً تمسُّكهم الحازم بالحيلولة دون أن يكون لبنان أو سورية مقراً أو ممراً للتآمر على البلد الجار والشقيق أو على أي بلد عربي آخر. وإننا معاً نرى أن الخطوات الأولى في هذا الاتجاه تتمثَّل بترسيم الحدود نهائياً والتبادل الدبلوماسي بين البلدين.

ثانياً: نعلن تمسكنا بحق سورية في استعادة كامل أراضيها المحتلة في الجولان واستعادة لبنان أرضه التي لا تزال محتلَّة في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا بكافة الوسائل المتاحة بعد الإعلان الرسمي السوري عن لبنانيتها تحت مظلة الشرعية الدولية، كما نؤكِّد تمسكنا بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس وبما يضمن لفلسطينيي الشتات حق العودة إلى وطنهم التزاماً بالمواثيق وتنفيذاً للقرارات الدولية.

ثالثاً: نؤكِّد أنَّ الاختلاف في الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين بلدينا قابل لأن يكون مصدر غنى وتنوّع وتكامل لا يحول إطلاقاً دون التعاون والتنسيق والتكامل بينهما. على أن هذا يشترط إجراء تصحيح لتلك الأنظمة بناءً على مراجعة نقدية شاملة للتجارب الماضية في البلدين معاً. وإننا نعلن في هذا الصدد عن اقتناعنا العميق بأنَّ البلدين قادران على ابتكار رؤية للتنسيق والتكامل بينهما بما يحقِّق تزخيم الطاقات والإمكانات والمزايا التفاضلية التي يزخران بها خصوصاً في مواجهة التحديات المتعددة التي تطرحها العولمة وفي الآفاق الواسعة التي تفتحها.

رابعاً: نطالب بضرورة احترام وتنمية الحريات العامة والخاصة وحقوق الإنسان وبناء دولة القانون والمؤسسات والانتخابات الحرة والنزيهة وتداول السلطة ووحدة الدولة وبسط سلطتها على كامل ترابها الوطني. ونؤكِّد على الأهمية الاستثنائية التي تكتسبها مسارات التحوُّل الديمقراطي في حماية الاستقلال وتعزيز قدرات شعبينا في معاركه الوطنية والقومية. بل نصرُّ على أنَّ سيادة نظم ديمقراطية في البلدين يشكل أفضل ضمانة لقيام ورسوخ علاقات متكافئة وسليمة بينهما. لكننا نتمسَّك، في الآن ذاته، بحق الشعبين في أن يختارا، وبكامل الحرية، النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي يتلاءم وتطلعاتهما من دون أي إكراه.

خامساً: ندعو إلى إرساء العلاقات الاقتصادية بين البلدين على الشفافية والعلانية والتكامل بما يراعي المصالح الشعبية لا جشع حفنة من المتحكِّمين بالاقتصاد والسلطة. على أن هذا يستلزم، أول ما يستلزم، تحرير اقتصاد البلدين من النهب المنظَّم لثروة البلدين ومواردهما الذي كانت تمارسه، وما تزال، مافيات مشتركة مستفيدة من مواقع حماية وانتفاع في سلطة البلدين.

سادساً: ندين الاغتيال السياسي بما هو وسيلة جرمية للتعامل مع المعارضين وحل النزاعات السياسية، ونشدِّد على ضرورة تسهيل مهمة لجنة التحقيق الدولية من أجل كشف المحرِّضين والمنظِّمين والمنفِّذين في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه وفي الجرائم الأخرى وتحميلهم المسؤولية الجزائية والسياسية على جرائمهم وإنزال العقوبات التي يستحقونها أمام القضاء الدولي والرأي العام. ونرفض، في مطلق الأحوال، أي محاولة لفرض العقوبات الاقتصادية وسواها على الشعب السوري.

سابعاً: نستنكر أشكال التمييز والعنف التي تمارس ضد العمال السوريين في لبنان. ونطالب السلطات اللبنانية بتعقُّب المتَّهمين بجرائم الاعتداء على هؤلاء العمال وصولاً إلى القتل وكشفهم واعتقالهم وتقديمهم إلى المحاكمة ليلقوا الجزاء الذي يستحقون.

ثامناً: لسنا بغافلين عن المشكلات التي يثيرها وجود العمالة المتبادلة بين البلدين وخاصة العمالة السورية في لبنان وما تتركه من آثار على أوضاع الفئات العاملة ولا سيما في موضوع الأجور والضمانات الاجتماعية ما يتطلب ضرورة سن قوانين تنظم انتقال العمالة واستخدامها بين البلدين لضمان مصالح العمال وحقوقهم.

تاسعاً: نطالب السلطات السورية باتخاذ الإجراء الفوري لإطلاق سراح جميع المساجين والمعتقلين اللبنانيين في السجون والمعتقلات السورية والكشف النهائي عن مصير المفقودين.

عاشراً: إنَّ العمل المشترك لتصحيح العلاقات بين البلدين وتحقيق استوائها على مقام الندية والثقة والاحترام المتبادل يستدعي مراجعة مجمل الاتفاقات والمعاهدات الموقعة بين سلطات البلدين، اختتاماً لمرحلة منقضية وافتتاحاً لأخرى تقوم على التكافؤ والتعاون والمصالح المشتركة.

إنَّ هذا الإعلان يكتسب شرعيته وقوَّته من قِبَل الموقعين عليه.

                                                                                                                بيروت في ٤/٦/٢٠٠٦

 (ملاحظة: تمّ استثناء أسماء الموقّعين رغم أهميتها بسبب ضيق المساحة على العدد الكبير).