الفن البديل في حركة الغناء العربي:

هل هو أضغاث أوهام أم شعارات انقلابية!

محمد منصور (كاتب وناقد وسيناريست سوري)

الموسيقا البديلة… المسرح البديل… الأدب البديل… الفن البديل.

مصطلحات تطلق ويتم تداولها، فتتوهج ثم تخبو في الحياة العربية الثقافية بين الحين والآخر، وخصوصاً في فترات الثورات، أو الانقلابات العسكرية التي كانت تسمى زوراً وبهتاناً “ثورة” في غير بلد عربي.. والتي كان يسعى حكامها القادمون إلى سدة الرئاسة على ظهور الدبابات، لخلق ما يشبه الثقافة الجديدة، التي تعادي الحقبة الماضية، وتصور كل ما فيها على أنها “قيم بائدة” ينبغي الثورة عليها، واستبدالها كما تستبدل صور الحكام في أفرع الأمن.

الشمس في العهد البائد!

 أبرز مثال على ذلك كان بعد “ثورة” الضباط الأحرار في مصر (1952)، التي كرست جمال عبد الناصر رئيسا بعد عزله للواء محمد نجيب أول رئيس جمهورية بعد إنهاء الملكية في مصر، فقد أمر أحد مسؤولي الإذاعة المصرية بعدم بث أغنيات السيدة (أم كلثوم)، وعندما سأل الزعيم جمال عبد الناصر عن السبب قيل له: “لأنها كانت تغني أيام العهد البائد”.. لكن عبد الناصر الذي كان يدرك أن أم كلثوم قيمة وقمة لا يمكن استبدالها أو تجاوزها، رد بغضب: “طب ما الشمس كانت بتطلع أيام العهد البائد.. نلغيها؟!”    وبالمقابل أدركت أم كلثوم أن عليها التصالح سريعاً مع هذا التغيير، وسرعان ما غنت أغانيها الشهيرة للعهد الجديد ومعاركه المقبلة: “صوت الوطن”.. ثم “والله زمان يا سلاحي”.. و”راجعين بقوة السلاح” و”حبيب الشعب” و”جمال يا مثال الوطنية”، بعدما كانت قد غنت للملك فاروق في عيد ميلاده قصيدة للشاعر مصطفى عبد الرحمن تقول كلماتها:

أشرقت آمال مصر في سناه ومشت للمجد في نور اليقين

حقق الفاروق للنيل مناه في ظلال اليُمن والعز المكين

وبني للشعب أسباب الحياة ورعي الآمال فيّاض اليمين

 لم تكن أم كلثوم استثناء، لا في غنائها لـ”العهد البائد” أو ما تلاه من عهود، فقد اعتاد الفنانون عموماً مجاراة العهود الجديدة باستمرار، إما تحت شعار “الغناء للثورة” وفي أعياد الثورة، أو تحت الإحساس بالحاجة لأن يظلوا في صدارة المشهد كما فعل عبد والوهاب وعبد الحليم وفريد الأطرش وليلى مراد وشادية وفايزة أحمد ونجاة الصغيرة وسائر مطربي العصر الذهبي للأغنية العربية  الذي أفلَ في سبعينيات القرن العشرين.. كما غنت وردة الجزائرية أغنيتها الشهيرة (إن كان الغلا ينزاد) تمجيدا لانقلاب معمر القذافي في ليبيا الذي سمى “ثورة الفاتح”، كما غنت المطربة دلال الشمالي لانقلاب حزب البعث في سورية عام 1963، المسمى: “ثورة الثامن من آذار المجيدة” أغنيتها التي لحنها الملحن السوري الراحل سهيل عرفة والتي تقول:

من قاسيون أطلُّ يا وطني فأرى دمشقَ تُعانق الشهبا

آذار يَدْرج في مرابعها.. والبعثُ ينشر حولها الشهبا.

وقد عاش السوريون نصف قرن في ظل حكم البعث بعد ولادة هذه الأغنية، ليروا البعث ينشر فوق دمشق الشهبا حقيقة لا مجازاً.  حين نصب نظام الأسد مدفعيته وراجماته صواريخه على قاسيون، ليقصف ابتداء من الثالث من أيلول/ سبتمبر 2012 أحياء دمشق الجنوبية الثائرة ضد نظام حكمه، وليحرق بصواريخه مدن وقرى غوطة دمشق الأثيرة، على مدى شهور طوال.

والغريب أن دلال الشمالي قدمت الأغنية ذاتها بكلمات محرّفة لانقلاب الرابع عشر من تموز الذي أنهى الحكم الملكي في العراق، فأصبحت على النحو التالي:

من قاسيون أطلُّ يا وطني فأرى بغدادَ تعانق السحبا

تموز يدْرجُ في مرابعها والبعثُ ينشرُ فوقها الشهبا

وقد غنى العديد من الفنانين العرب والسوريين لحافظ الأسد وانقلابه في سورية الذي زج فيه رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وأعضاء القيادة القطرية لحزبه في السجون نحوا من ربع قرن ولم يخرجهم إلا للقبور، حتى أن أحد الفنانين بدل كلمات شارة أغنية جميلة لمسلسل إذاعي كانت قد أنتجته إذاعة دمشق عن (خالد بن الوليد) تقول:

خالدٌ إنْ هبَّ لنجدة الأحرار إعصار

خالدٌ أحب اللهَ والإنسانَ والحريةَ والأحرار

وقال إني خالدٌ أحمي فجراً عربيا وأصنع نهار

 لتصبح في الأغنية التمّلقية التمجيدية البديلة: (حافظٌ…)!!! 

الأغنية السياسية وشعارات اليسار!

كل هذا الفن التمجيدي للطغاة قدم باسم “الفن البديل”، والثورات المزعومة، ولو كان على ألسنة وبألحان وكلمات مطربين كانوا مكرسين ولهم انتاجهم السابق على تلك العهود التي غنوا وتغنوا بثوريتها.. وهو لم ينتج أي قيم بديلة في الحياة العربية، من تلك التي يفترض أن تشيعها الثقافة، وأن تسهم الموسيقا والغناء بانتشارها باعتبار فن الغناء الأسرع انتشارا ووصولا إلى أسماع وأفئدة مستمعيه من كل الأعمار.

الأمر كان مختلفاً قليلا مع تجربة الأغنية السياسية التي كان رائدها  في ستينيات  القرن العشرين الشيخ إمام في مصر،  من خلال شراكته الشهيرة والطويلة مع الشاعر أحمد فؤاد نجم… فقد فجرت هزيمة حزيران عام 1967 الموجعة، التي سوّق محمد حسنين هيكل تسمية مخادعة لها هي “النكسة”، فجرت سخريته في أغنيات من قبيل: (يا محلى رجعة ضباطنا من خط النار) و(الحمد لله خَبَطنا تحتِ بَطاطنا) وقادته مرارا إلى سجون ومعتقلات عبد الناصر… فكانت هذه الأغنيات بديلا عن تلك التي تتغنى ببطولات زائفة، لم تكن مؤسسة على شراكة وطنية حقيقية ومناخ حر في الداخل… وقد تابعت الأغنية السياسية مسارها في سورية ولبنان في سبعينيات وثمانينات القرن العشرين، من خلال تجارب (أحمد قعبور) و(مارسيل خليفة) و(خالد الهبر) في لبنان، و(فهد يكن) و(سميح شقير) في سورية، و(فرقة الطريق) العراقية وسواهم.. لكنها بخلاف أغنية الشيخ إمام ذات المناخ الشعبي، نشأت وترعرعت في الأوساط اليسارية، وكان لها جمهورها في زمن المد الشيوعي في الثقافة العربية، وتحت رعاية “الاتحاد السوفيتي الصديق” وباستثناء بعض أغنيات مارسيل خليفة التي غناها من أشعار محمود درويش كـ (ريتا) و(أحمد العربي) وبعض أغنيات طلال حيدر ذات الشعرية العالية، لم يتبق من رصيد تلك الأغنية التي كنت ترفع شعار الموسيقا البديلة بقوة، وكانت تقام عنها الندوات، وتفتح لها المنتديات والمراكز الثقافية… لم يتبق من هذه التجربة في الذاكرة، سوى بقايا ألحان باهتة في ذاكرة فلول جمهور اليسار، والمتهمين بتأريخ حركة الفن.. فقد غنى ولحن سميح شقير قصيدة محمود درويش الشهيرة (عابرون في كلام عابر) لكنها لم تنتشر وترددها الألسن مثلما حين غنتها أصالة نصري كشارة لمسلسل (صلاح الدين الأيوبي) عام 2001، وقبله غنى فهد يكن قصيدة نزار قباني (مدرسة الحب) لكنها لم تنتشر ولم تشتهر كما حين غناها ولحنها الفنان كاظم الساهر في تسعينيات القرن العشرين.. ولا أخجل من القول أن ما انتشر من هذه النماذج المذكورة كان أقوى وأجمل، مما أنتجه من كانوا يمثلون الموسيقا البديلة… لكن لابد من الاعتراف أن الأمر كان مختلفاً حين قدم سميح شقير أول أغنية عن (الثورة السورية) عام 2011 بعنوان (يا حيف) فانتشرت انتشار النار في الهشيم، وتميزت بحسها الشعبي الحقيقي، المختلف عن تجاربه السابقة في أحضان اليسار الثقافي في الثمانينات والتسعينيات، ذلك أنها لم تصدر عن ادعاءات فنية كبرى أو صغرى، أو عن رغبة في تقديم فن بديل، بل صدرت عن حالة صدق شعوري عال في ملامسة اللحظة، وتصوير مشهد القمع الذي تورط فيه جيش البلاد. 

زمن الربيع العربي!

 مع انطلاقة ثورات الربيع العربي، مطلع العقد الثاني من القرن الحالي، كن ثمة رغبة حقيقية لدى الشباب العربي، لإنتاج موسيقي وغنائي، يعبر لأول مرة عن قيم ثورات شعبية حقيقية، لم تقدها دبابات العسكر، ولا طموحاتهم الانقلابية. وأذكر أنني عملت طيلة النصف الثاني من عام 2011 على تمحيص الإنتاج الغنائي الذي أفرزته الثورة السورية، وقدمتُ عنه مئة حلقة تلفزيونية تحت عنوان (فنون الثورة) على شاشة تلفزيون (أورينت) كنت أقوم فيها بالتحليل النقدي للنماذج المختارة. وقد لاحظت أن القيمة الأساسية البديلة والتي كانت تشكل سمة عامة مشتركة في ذلك الانتاج، هي غياب التغني بالحاكم وبشخصه، التي كانت آفة الأغنية الوطنية السورية خلال حكم الأسد الأب والابن “إن كان يصح تسميتها وطنية أصلا”، وبرزت قيمة الوطن بأناسه وشخوصه وأمكنته الحميمة وصراعه المرير والدامي من أجل الحرية.. فانطلقت صرخة الفنان خاطر ضوا، أحد أكثر الفنانين الشباب موهبة وحضورا: “يا سورية لا تسجيلنا غياب” لتقدم تعبيرا وجدانيا حياً في بداية مشوار اللجوء السوري. 

وقد لاحظت كماً كبيراً من الأغنيات الساخرة، لدرجة أنه كان علينا تخصيص قسما كبيراً لها، وقد اشتهر من تلك الأعمال أغنية نالت أعلى نسبة تصويت ومشاهدة على اليوتيوب، وهي تنطق باسم الشبيحة وقوى القمع، والغريب أن صناعها أطلقوا على أنفسهم اسم (فرقة ابطال موسكو الأقوياء) أما كلماتها فتقول:

بدنا نعبي الزنزانات وبدنا نمّلي المعتقلات

وبدنا نفضي الروسيات كرمال الأمة الأسدية

بلا حرية بلا بطيخ مؤامرة جاية من المريخ

ما عنا هندوس وسيخ ولا عنا زرادشتية

وقد تحولت أغنيات شهيرة في الذاكرة العربية على يد شباب الثورة السورية إلى أغنيات ساخرة فأغنية السيدة فيروز (آخر أيام الصيفية) أصبحت: (آخر أيام البعثية) وأغنية فريد الأطرش (لاكتب على ابواب الشجر) غدت (لاكتب ع ابواب الفرع) في إشارة لأفرع أمن الأسد الرهيبة… لكن الحق أن هذه التجارب على أهميتها كونها تأتي تعبيراً فنياً حقيقياً على حراك ثوري غير مدعوم مؤسساتياً، كانت تنوس بين حدين:

الأول تغريبي: يتجه إلى أشكال الموسيقا الغربية كالبوب وموسيقا الراب، التي بدت أعمالها أشبه ببيان شارع حماسي.

الثاني ديني: إذ ارتمت الكثير من الأعمال في أحضان الإنشاد الديني، نظرا للقمع الشديد الذي كان يمارسه الأسد على مظاهر التدين الشعبي، حيث انخرط الكثير من المندشين الدينيين في تقديم أغنيات عن الثورة، كالفنان يحيى حوى ابن مدينة (حماة) السورية، الذي بدأ منشداً دينيا وحافظاً للقرآن الكريم.. ثم اكتسب جمهورا عريضا من خلال الثورة السورية.

وبين هذين الحدين، حاولت بعض التجارب التقاط التراث الشعبي وتطويعه في توزيعات موسيقية جديدة، تستفيد من قوة انتشار الجملة الموسيقية الفلوكلورية كما فعل الفنان وصفي المعصراني ابن مدينة حمص السورية، وكما فعل الفنان خاطر ضوا، الذي بقيّ الأكثر استمرارا وتألقاً، في مشروعه الموسيقي بمساعدة أستاذه عازف العود العراقي الشهير نصير شمة.

سيمفونية الشارع!

ومن قلب نبض الشارع.. التقط الموسيقي السوري الأكاديمي مالك جندلي المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية، جملة موسيقية لأحد منشدي المظاهرات الشعبية في مدينة (حماه) يدعى إبراهيم القاشوش الذي كانت هتافاته الموزوزنة وذات الإيقاع الموسيقي السلس والبسيط والقوي الانتشار، والذي زاد من انتشارها الروايات التي تحدثت عن مقتله على يد نظام الأسد بعد اقتلاع حنجرته، ورميه في نهر (العاصي).. التقط مالك الجندلي جملة القاشوش الهاتفة في السحَر: (يلا ارحل يا بشار) لينبى منها عملا سيمفونياً بدا في رؤيته وبنيته، في أول التقاطة خلاقة لنبض موسيقا الحناجر التي انطلقت تتغنى للحرية.

وقد استهجن الكثير من المتابعين والمهتمين، قيام بشار خليفة ابن الفنان اللبناني مارسيل خليفة، بسرقة لوازم ابراهيم القاشوش الموسيقية تلك في الحلفة التي أقامها أواخر العام 2014 على أحد مسارح باريس، والتي انتحل فيها هتافات الثورة السورية التي يعاديها هو ووالده، فقد كان القاشوش يقول رداً على خطابات بشار الأسد:

“ويا رئيس ويا كذاب تضطرب انت وهالخطاب

الحرية صارت على الباب يلا ارحل يا بشار”

وقد صارت لدى بشار مارسيل خليفة في الحفل المشار إليه:

“ويا عماد حاج تدور ودمك بالوطن مهدور،

تضرب انت وحزب الفول، يلا ارحل يا غدار”

عودة إلى المصطلح!

يعطي مثال القاشوش في حالتيه المشار إليهما: تطويراً أو سرقة، تعبيراً عن حقيقة أن ما تنتجه الثورات الشعبية الحقيقية، يحمل بذور أصالته النابعة من عفوية الحالة وحرارة الموهبة التي تتفتح في لحظة انعتاق فني وسياسي مأمول… لكنني أعود من حيث بدأت لأقول: إنني لا أؤمن بمصطلح “البديل” في الموسيقا والفن والثقافة عموماً، فهو مصطلح انقلابي لا ينسجم مع روح التجارب الفنية والثقافية الحية.

عندما نقل سيد درويش في مطلع القرن العشرين الحالة الموسيقية السائدة في مصر، من الموسيقا التطريبية التي تقوم على إحداث أثر تطريبي في أذن المستمع بعيدا عن الوحدة العضوية مع روح الكلمة المغناة، إلى الموسيقا التعبيرية التي يغدو فيها اللحن مفصلا على روح المعنى والحالة، لم يقل أنه يقدم أغنية بديلة… لكنه بدا في تلك الفترة أن إيقاع الحياة الجديد كان متلهفاً لمثل هذا التجديد الموسيقي، وهكذا مات عصر سلامة حجازي وعبده الحامولي ومنيرة المهدية رويداً رويداً ليخلق عصر جديد انتهى إلى تجديد محمد عبد الوهاب المولع بالتحديث مع سمات شرقية، ثم استمر مع محمد الموجي في تجاربه الأولى مع عبد الحليم حافظ ثم في درامية موسيقية رائعة عبر قصائد نزار قباني (رسالة من تحت الماء) و(قارئة الفنجان) ومع بليغ حمدي وسواهم.. وعندما أبدع الأخوين رحباني موسيقاهم الجديدة في لبنان في خمسينيات القرن العشرين، لم يقولوا إنهم يقدمون موسيقا بديلة أو فناً بديلاً، بل توازى التجديد الموسيقي لديهم، مع البراعة في التوزيع الموسيقي، والتجديد في الكلمة المغناة وإعطائها طابعاً شعرياً حقيقياً، يخاطب كل مدارس الشعر العربي… ومع الدأب والموهبة والعطاء فغيروا وتركوا أثرا من حيث لم يكن يدورنه في بداية مشوارهم.

في الفن ما يملك قوة الإبداع والموهبة يبقى لا يموت وتتوارثه الأجيال.. أما ما يبدو نتاج فورة طارئة، أو حراكاً سياسياً (أو حتى مجتمعياً) يبحث عن صوت فني يعبر عنه آنياً، فيموت بتغيير أسباب ولادته حتى لو ظن نفسه أنه “البديل” فالتغير في الفن تخلقه ظروف الحياة، وقناعات أصحاب المواهب الحقيقية وثقافتهم الجديدة، وتغير الذائقة العامة في المجتمعات الحية نتيجة ظروف وتحولات، وليس الشعارات الانقلابية.