“حنّا بعل” بحثاً عن “أليسار”

نصّ شعري: #نجم_الدين_سمان.

*- ما رتَّلَتْ شفتا حنّا بعل:

كَمْ مِجْدَافاً تكسَّرَ بين أصابعي

وارتجفَتْ بقلبي أشرعَةُ الريحْ

أَسْلَمَتْنِي عاصِفَةٌ.. لعاصِفةٍ

وهذا البحرُ.. أَعْرِفُهُ، ويَعْرِفُني.

وذاكَ المِلْحُ من حَوْلي

لا يَكَادُ يُبَلِّلُ جَسِدي حتى يَجِفَّ فوقَ شَفتيّْ

وللمِلْحِ… طَعْمُ الملح ونَكْهَتُهُ

حتى ظَمِئْتُ للماءِ: بَعْلاً وفُرَاتَاً.

راوَدَتْنِي عن نَفْسي حُورِيَّاتُ البَحْرِ

لَمْ أتبيَّنْ ميناءً.. لِقَدَمَيّْ

وما كنتُ قد عَرَفْتُكِ.. يا أميرتي،

لكنَّ وجهكِ تَجَلَّى لي

حين رأيتُ في مرايا الزبَدِ.. وجهي.

شَهَقْتُ من وَحْدَتي

فَرَفَّ من رئتيَّ.. طائرُ الفينيق،

دارَ حولَ أشرعتي.. قالَ:

ـ اتبَعْ قلبكَ.. كأنكَ تَتْبَعُنِي.

فَتَبِعْتُهُ إلى حيثُ أُريدُ.. ولا يُريدْ.

عَشْتَارُ في قلبي؛ فهل كان مُجَرَّدَ طيفٍ.. ما رأيت؟.

لكنِّي كلَّما غَسَلْتُ وجهي بماءِ البحر: أرى وجهكِ،

وبالماءِ.. أَلْمَسُهُ ويَلْمَسُنِي،

ومن الماءِ.. أنتِ؛ من زَبَدِ المَوْجِ

وأنا.. من تُرَابِ شرقٍ حزين.

لَوَّحَ لي طَيْفُكِ.. في منامي، وفي يَقْظتي

فَطَوَّحَ بي.

عَبَرْتُ هذا الأزرقَ.. مَوْجاً إليكِ؛ بِسُفُنِ الحنينْ.

تُهْتُ في البحر.. دهراً،

حتى رَسَى بي المِلْحُ.. على شواطِئِكِ.

يا أنتِ.. يا أليسارُ؛ يا أميرتي

ما كِدْتُ أراكِ؛ حتى تأكدتُ أَنِّي.. لَكِ

وما تيقَّنتُ بَعْدُ؛ أنكِ.. لي.

لكِ عينانِ بِخُضْرَةِ تونِسَ.. جمِيْعِهَا

دائمٌ ربِيْعُهَا.. كأشجارِ الزيتونِ في حقولِ الروح

يَرْشَحُ من بَشْرَتِكِ.. زَيْتٌ؛ ليُضيءَ وَحْشتي.

فلم أَكَدْ أستفيقُ من دُوَار البحر؛

حتى رأيت أصابعكِ.. رهيفةً،

تَعْبَثُ.. بالرَمْلِ، يتشهَّى أنامِلَهَا.. الرَمْلُ،

يَنْدَاحُ مُوجٌ.. نحوها،

لا يكادُ يُلامِسُها حتى.. يَلْمَسَ قلبي.

صُحْتُ وأنا أُخَوِّضُ في المُرْجَان.. نَحْوَكِ:

ـ هَذِيْ أميرةُ قلبي، وهاهنا.. قُرْطاجُ التي سأبنيها

هنا يَسْتَقِرُّ الوَجْدُ، هنا أَسْكُنُ.. لِتَسْكُنَنِي أليسارُ.

*- ما هَمَسَتْ.. شفتا أليسار:

أكانتْ مُجَرَّد صُدْفَةٍ.. حين التقينا،

أَمْ.. لِتَعْبَثَ بأقدارنا الآلهةْ؟.

كيف سَأُدْرِكُ.. ما أَنْتَ، قبلَ أَنْ أَعْرِفَ نفسي،

وتَعْبُرَ أنوثتي من ربيعِ الصَبَا.. إلى خريفِكْ؟.

لَسْتُ عشتارَ حتى.. تَغَارَ منِّي أنوثتي.

أنا.. مُجَرَّدُ طفلةٍ، ولمَّا تَزَلْ تلهو برمل الشاطئ،

حين أَرْبَكَهَا بياضُ أشرعتِكْ.

لماذا جئْتَ من شَرْقِكَ إلى.. غَرْبِي؟.

كيف أَعرفُ أنك لا تُسَافِرُ.. فيكَ.

ولَسْتَ تَرْحَلُ عن.. وَحْدَتِكْ؟.

وأنكَ توضَّأتَ بالملحِ والريح.. لأجلي؟.

حَوَّم حولي طائرٌ، لم أَكُنْ أَعْرِفُهُ،

رَفَّ حتى مَسَّ جناحاهُ جبهتي،

قال: ـ ستأتيكِ سُفُنٌ.. بالمَنَامَاتِ،

وبالطِيْبِ، وبحرير الرَغْبَةِ، وبالنبيذ.

فلم أَكَدْ أستفيقُ حتى رأيتُكَ

تُخَوِّضُ في مُرْجَان شواطِئِي.. نحوي.

لماذا.. أنتَ، ولماذا أنا.. بالتحديد؟.

لم تُخْبِرْني العَرَّفاتُ.. عَنْكَ،

لم يقرأ لي أَحَدٌ… طَالِعَكْ.

كيف ستقرؤُكَ أنوثتي.. إذاً؟،

وأنا أغلقتُ النوافذَ.. جميعَهَا؛

أسْدَلْتُ حريرَ العُزْلةِ.. فوق زجاج وحدتي،

تواطَئْتُ مَعْ نَفْسي.. ضِدَّ نفسي.

لم يَخْطُرْ بِبَالِ رجلٍ أَنْ يَعْبَثَ في الليلِ.. بستائري.

فلماذا تَسْتَرِقُ النظرَ إلى.. أصابعي؟.

لا أَثَرَ لِوَشْمٍ فوقَ راحَتَيّْ.

كُفَّ عن.. عَيْنَيّْ

كلُّ جبالنا مِثْلُهَا خضراءُ.. وسهولِنَا،

فابتهِجْ بها، وَدَعْنِي.. لوحدتي.

إمْرَحْ مع حُوْرِيَّاتِ البحر أمامي.. فلا ضَيْرَ عَلَيّْ.

وارقُصْ ما شِئْتَ؛ وما تشاءُ.

إشْطَحْ.. لتأخُذَكَ المَوَاجِدُ كُلُّها،

وتَجَلَّ.. ليتبدَّى فيك بَعْلٌ لِعَشْتَارَ،

لِسِوَايَ.. من النساء، فلا ضَيْرَ عليكْ.

لا تُغَازِلْنِيْ.. إرْمُقْنِي فَحَسْبُ؛ بانخطافِ السَوَادِ في عينيكْ.

دَعْ مسافةً بيني.. وبينكَ

لا تَخْطِفْنِي إلى رَقْصِكَ؛ نَسِيْتُ أقدامي في البيتِ؛

خَبَّأْتُ ارتجافَ قلبي.. في الظِلِّ.

قُلْت لي: ـ ابتسمي يا أميرةُ؛ ليرتعشَ بينَ شفتيكِ الضَوْءُ.

فَتَدَارَكْتُ بَسْمَتِي.. لأُخْفِيْهَا عَنْكَ وعَنِّي.

وقُلْتَ: ـ اضحكي يا أميرةُ.. ليضحَكَ البَحْرُ،

اغسلي بها.. مَوَاجِعِي.

غَنَّيْتَ لي.. مَوَاوِيْلَكَ الحزيناتِ؛

فتذكرتُ بَغْتَةً أني نَسِيْتُ في الأسى.. ضحكاتي،

وأنكَ لا تَلْبَثُ حتى تُعْدِيْنِي.. بضحكاتِكْ.

هَمَسْتَ لي: ـ أَسْمَعُ قلبَكِ كَهَدِيْلِ اليَمَامِ.. في مَنَامَاتِيْ.

وأنتَ جَلَبْتَ اليَمَام من.. شَآمِكَ، والياسمينَ.. لتُغْوِيْني.

وكنتُ أُدَارِي عنكَ.. غِوَايتي، وصَبَابتي، ولَهْفَةَ زمانِي إليكْ.

لم أَدْرِ.. حتى مَسَّتْ شفتايَ حروفُكَ،

وتَبَدَّى لأولِ مرَّةٍ اسمي في ألواح الطين،

فلم أَكَدْ أَنْطِقُ بِهِ.. لأجلكَ، حتى قُلْتَ:

ـ نسيتُ في خُضْرَةِ عينيكِ.. أبجديتي.

وقُلْتَ: ـ عَلِّمِيْني إيَّاها مرَّةً.. لأنقشها على الماءِ،

وفي لازَوَرْدِ هوائِكِ،

أُطَرِّزَها بحرير التَشَهِي على.. مَخَدَّتِكْ،

أعبُرُ بها البحرَ لأزرعَهَا على شواطئ الآخرين،

أُرَتِّلَ بها.. صَلَوَاتي لبَعْلٍ،

تَغْسِلُكِ أمطاري من كُلِّ شائبةٍ،

حتى يَشِفَّ من ثَنَاياكِ.. هذا الحنينْ.

لماذا تُحَاصِرُني يا حنا بعْلُ.. بِمَعْسُولِ كلامِكْ؟.

أَكْرَهُ أن يُحَاصِرَني رجلٌ حتى.. بالحبِّ.

وقلبي من خَزَفٍ.. فتمهَّلْ.

قبلكَ.. كادَ أحدٌ أَنْ يَكْسِرَهْ فاحتمي قلبي.. بي؛

حافياً كبُوْذِيٍّ، ومَذْعُوراً.. كالقَطَا من مناقير الصقور،

راجِفَاً.. مثلي، وَاجِفَاً.. فاحتميتُ به.

لَسْتُ.. لي، حتى أكونَ لكَ و.. إليكْ.

ونحنُ النساءُ لا ندري.. كيف نتورَّطُ في الحبِّ

ولا ندري.. لماذا نتريَّثُ فيهِ؛ حين تَخْطِفُنَا.. سَكْرَتُهْ.

ربما.. تُغْوِيْنَا فِكْرَتُهْ.

ويكونُ في سريرنا.. أبداً،

نموتُ.. مِنْ أجلِهِ، ويُميْتُنَا.. لِنَحْيَاهُ.

دَعْنِي يا حنا بَعْلُ كما قَدْ رَأَيْتَنِي: وحيدةَ نَفسي،

فقد أَدْمَنْتُ قبلكَ.. وَحْدَتِي،

ولا أدري لماذا خَرَجْتُ منها بَغْتَةً… لألقاكْ.

قُلْتُ لأنوثتي: ـ اخطُفِي نظرةً إليهِ.. وانْسَحِبي.

لا تتركي أصابعَكِ.. لِغَفْوَةٍ بينَ كَفَّيْه.

غُضِّي الطَرْفَ عن.. عَيْنَيْه؛

اتركي خطوةً إلى وراءٍ.. عن أنفاسِهِ؛

وإلى يمينٍ عن.. شفَتَيْه.

ولَسْتِ واثِقَةً من ثَبَاتِكِ.. بين ذراعَيْهِ؛

فتمايلي عن.. شِمَالِهْ.

لا تَلْمَسِيْهِ من كَتِفِ رجولتِهِ؛

فذاكَ دَاءٌ.. يُعْدِي.

وأنتِ.. عليلةٌ بهِ،

فأَسْدِلي شعرِكِ المجنونَ.. فوقَ عِلَّتِكْ؛

لا تَلْثُمِيْهِ سوى.. من جَبْهَتِهْ.

لا.. تَسْتَسْلِمِيْ للحُبِّ.

*- مَا رَفَّ بِهِ… طائرُ الفِيْنِيْق:

كم عيناً لي.. لأراها؛ من أجل عينيكْ.

وما رَأَتْني حينَ رَفَّ ظلِّي حَوْلها.. لكنيّ رأَيتْ.

طِرْتُ إليها من.. شهقَتِكْ؛

وكنتُ لا أدري.. إلى أينَ؛

فأمطرني بَعْل.. بِصَوَاعِقِهْ:

هذا إلهُكَ.. يا حَنَّا؛ ويَمْنَعُنِي عن مَقاصَدِكْ.

مَسَّ جناحايَ.. بَرْقُهُ؛ بَلَّلَنِي.. لِحَافُ الغَيْم

تاهَ عنّي.. رِيْشٌ، فَقَدْتُ لأجلها.. ريشي.

لم أكُنْ أعرفُ أينَ أجِدُهَا لكَ، وعلى أيِّ شواطِئِكْ.

فلمَّا ارتعشَ قلبي.. بين جانِحَيَّ؛

رأيتُهَا مِنْ شَاهِقٍ.. تَعْبَثُ بالرملِ،

وكأنها.. تلهو بي

لَمَحَتْنِي.. فَارِدَاً نحوها جناحَيّْ؛

رَفَعَتْ رأسَهَا.. نحوي، رمقتني بعينينِ ذَاهِلتَين،

تأكدتُ أنها.. أليسارُكْ

رَفَّتْ روحي.. من حولها،

قلتُ.. لها: ـ ستأتيكِ سفنٌ.. بالمناماتِ،

وبالطِيْبِ، وبحرير الرغبةِ، وبالنبيذْ.

فلمَّا حَطَّ قلبي فوق ركبتيها؛

ورأتني بعين يقينها.. شَهقَتْ:

ـ ما أرقَّ هذا.. الطير.

فلماذا أنتَ رجلٌ.. يا صاحبي، وأنا من مُجرَّدِ.. الطير؟.

فلمَّا التَقَيْتَها… والتَقَتْكَ، اختفيتُ عنكُمَا.. وعَنِّي.

لُذْتُ بذَرَواتِ النَخْلِ،

أَرْقَبُ بِعِيْنِ الحاسدِ كيف تراها.. بأصابِعِك،

وكيف تَلْمَسُها.. بعينيك،

كيف تأخذها بذراعين.. من غَيْر ريشٍ، وتأخُذُكْ،

كيف تَنْقُرُهَا بقبلةٍ.. وتَنْقُرُك،

كيفَ تُدْنِيكَ.. وتُمْطِرُهَا،

كيفَ ارتَعَشْتُمَا.. أمامَ ناظريّ.

لو لم أكُنْ طيراً.. لطِرْتُ إليها رجلاً بقدمين

وسادَتُها.. ريشي، لتغفو بين جناحيّ.

لو لم تكن يا حنا بعلُ.. صاحبي،

لباغَتُّهَا بِخِيَانَتِكْ

*- ما دَوَّنَتْ.. أليسار:

حين غابَ حنا بعلُ عنِّي.. أولَ مرَّةٍ؛

وكم كان.. يغيبُ.

عُدْتُ عن شاطئِهِ.. لاهثةً من رحيله،

أركضُ من.. فُقْدَانِه حتى لا أُوَدِّعَه.

قال لي.. حين كانَ لآخر مرَّةٍ بينَ ذراعيّ:

ـ قَدْ أَتْمَمْتِ.. شَرْقي، وأَتْمَمْتُ.. غَرْبَكِ،

وسيكونُ كلُّ شمالٍ.. لكِ؛ يا أميرتي؛

ومِن بَعْدِهِ.. يكونُ الجنوب.

كلُّ جِهَاتي.. بينَ يديكِ، كلُّ.. الدروب.

من أجلكِ.. أرحلُ عنكِ، من أجلكِ.. أؤوبْ.

وقد لا أعودُ.. فلا تُودِّعيني.

فلمّا عَبَرَ البحرَ بسفنهِ ورجالهِ وأشرعته،

وبَاتَ.. يَنْأى، غَيَّبَهُ شاهِقُ الموج،

استدرتُ منهُ.. إليّْ،

لم أكَدْ أخطو نحو وَحْدتي،

حتى لَمَحْتُ طائرَ الفينيق يؤوبُ.. إليّْ.

كلّما غاب حنا بَعْلُ.. جثا الطائر فوق رُكْبَتَيّْ

أفتح له النوافذَ.. لِيَرِفَّ نحوي،

لِيَزِفَّ لي نبأ عَوْدَتَك.

فإذا عادَ من دُونِك.. لاذَ بي؛

حَطَّ بين نَهْدَيَّ.. لأحضُنَهْ.

في عينيه سوادُ الكُحْلِ.. كسوادِ عينيك.

في منقارِهِ؛ لَهْفُةَ شفتيَّ.. لشفتيك.

وما أدري.. لماذا يَخْفقُ قلبي؛

كلَّما أَخَذْتُهُ كإناثِ الطير.. إلى فِرَاشي،

وكلّما تعَرَّى مِن رِيشِهِ.. بين ذراعَيّ،

وكلّما غفا فوق وسادتي؟.

أنامُ مِلأْ أجفانِهِ.. وبينَ جناحيه؛

أَحْلُمُ في ليلِهِ.. بأميري.

*- بدأتُها في تونس العاصمة وأنهيتُها في دمشق2007.

*- الصورة بكاميرا نجم الدين سمان- “معلولا” شمال دمشق 2006.