“رقصة الشامان الأخيرة” لعبد الرحمن حلاق الثورة شجرة مضيئة

حسان العوض (طبيب وكاتب سوري مقيم في السعودية)

صدرت له مجموعتان قصصيتان.

صدرت هذه الرواية عن دار الفراشة بالكويت في العام 2021، وهي تعرض سردية الثورة السورية التي انطلقت في آذار العام 2011 على نظام الأسد، من خلال مجموعة من الشباب من مختلف الطوائف فغيث وصفاء وأكرم دروز، وباسل علوي، ونهلة مسيحية، وبقية الشخصيات من الأكثرية السنية (النظام يعتبرنا خونة للوطن والإسلاميون ينظرون إلينا بريبة وربما يتهموننا بالكفر واليساريون يتهموننا بأننا إسلاميون، ونحن نريد وطنا حرا للجميع فقط) ص75.

نواة المجموعة كانت تقيم حفلات في دور الأيتام ورياض الأطفال قبل الثورة، وبعدها تخصصت بالمظاهرات الطيارة في دمشق، ومع تضييق الخناق على العاصمة، عاد عناصرها، كل إلى محافظته، للمشاركة مع مجموعات جديدة في المظاهرات طالما كانت ممكنة، بالإضافة إلى نشاطات الإغاثة والإعلام.

وتجري الأحداث مكانيا في محافظة حلب بشكل أساسي، وفي محافظتي إدلب والسويداء بشكل ثانوي. وزمنيا في العام الثاني من الثورة، وتنتهي يوم الثلاثاء الأسود عندما قصف الطيران الحربي لنظام الأسد جامعة حلب 15/1/2013 وذلك بعدما أوغل بالتشبيح والاعتقال واستخدام البراميل المتفجرة.

تبدأ الرواية بتفرق إحدى مظاهرات جامعة حلب على إثر إطلاق الشبيحة النار عليها مما تسبب بمقتل مصطفى، وسيتبين أن من أصابه هو أخوه عدنان. يوصل حمزة خالدا، وكلاهما ناشط إعلامي، على دراجة نارية إلى مدرسة مهجورة للاختباء فيها. نهلة سيدة مسيحية كانت ترى من بيتها ما يحدث فتخبئ صباحا، حبيبة خالد، وتخبرها أنّ النظام قتل أباها في أحداث الثمانينيات على يد ضابط وقف الأب بوجهه لمنعه من سرقة بيته، وأن ولديها هاجرا إلى فرنسا.

لاحقا تلتقي صباح بريم وتطمئنها على سلامة أبيها خالد. ريم تدرس هندسة العمارة، وتخرج في المظاهرات، وترفع اللافتات، ووقفت وقفة شجاعة أمام المراقبين الدوليين في جامعة حلب، ومع ذلك قرر الكاتب ألا تعتقل رغم قولها (رجال المخابرات باتوا يعتقلون الطلبة من داخل قاعات المحاضرات) ص68. وحبيبها الكردي آزاد الذي تعود أصوله إلى عفرين ويدرس الآداب (فقد أخته وأخاه تحت القصف في الشيخ مقصود) ص70. سينضم آزاد إلى الجيش الحر بسبب كثرة المجازر التي يرتكبها النظام، بعد أن وصل إلى نفس القناعة التي سبقه إليها صديقه زكريا (هذا النظام لا ينفع معه غير السلاح) ص68. وسيشارك في حصار مدرسة المشاة التي كانت تنطلق منها القذائف على بلدات ريف حلب الشمالي.

يوم الثلاثاء الأسود تستشهد ريم في الجامعة، ويستشهد آزاد أيضا في مدرسة المشاة.

يقرر غيث أن يترك محافظته السويداء ويأتي إلى حلب، ولم يكن هناك ضغط اجتماعي عليه إلا من جدته التي وافقت أخيرا على قلق، علما أن أخاه الوحيد في المعتقل بسبب علبة دواء. وكذلك تقرر صفاء مرافقة غيث لتكون رحلة حب أيضا علما أن الكاتب لم يورد أية ضغوطات اجتماعية عليها من قبل أهلها على الأقل بخصوص هذا القرار. يصلان إلى حلب ويعبران إلى القسم الشرقي عبر بستان القصر، حيث تستقبلهما صباح في المقر الجديد (في حي هنانو الذي بدأ أهله مرحلة تهجير قسري مثله مثل بقية المناطق المحررة، فقد بدأت البراميل والمدفعية والصواريخ بهدم البيوت على سكانها بشكل منظم) ص111.

في نفس الوقت يدخل سهيل المقر وقد غطى الدم ثيابه بينما كان يسعف رجالا انهالت عليهم قذائف صاروخية.

يلتقي غيث بمجموعة من الأطفال، يدعهم يرسمون كما يشاؤون، ويحلل رسوماتهم.

المجموعة تتعرض لانفجار قتل من قتل، وأصاب الآخرين إصابات بعضها خطير؛ مما توجب نقلهم إلى تركيا؛ لعدم قدرة المشفى الميداني على التعامل مع إصاباتهم. يموت غيث، وجدته توصي أصدقاءه بدفنه في (أرض درزية) ص205. وفي محاولة لتنفيذ وصيتها، يصلون إلى إحدى القرى الدرزية في ريف إدلب حيث يرفض شيخ العقل فيها طلبهم إلا بشرط أن يزيلوا علم الثورة الذي كفنوا به جثة غيث حسب وصيته. وكذلك يفشلون بدفنه في مقبرة مخيم أطمة فالدروز في خانة الكفار حسب من يمثل جبهة النصرة مما يضطرهم إلى دفن الجثة في قبر روماني قديم مجهول.

تقرر صفاء بعد وصولها إلى تركيا وموت غيث ألا ترجع إلى سوريا مطلقا. كما يختطف ملثمون حمزة. ويقرر خالد وصباح الاستمرار (بما تبقى من المجموعة) ص212. هذه المجموعة حملت أهداف الثورة بالحرية والمدنية والديمقراطية، وعملت لتحقيقها على إسقاط النظام بالتظاهر السلمي، قبل أن يشتتها نظام الأسد قتلا واعتقالا وتهجيرا، ويدفع ببعض عناصرها إلى التسلح، مما فتح الباب للعسكرة والأسلمة، وأدى إلى فرض أهداف أخرى شوشت على الأهداف النبيلة الأولى ثم شوهتها.

ديمقراطية الشكل الفني

القالب الفني الذي اختاره الكاتب لروايته قائم على تعدد الأصوات فقد جعل روايته تتألف من 34 فصلا، معظمها مسرود بضمير المتكلم على لسان إحدى الشخصيات التي تقدم الأحداث من وجهة نظرها وتدفع بها قدما، وقد أعطى اسم هذه الشخصية عنوانا للفصل، فالفصل الأول بعنوان خالد، والثاني بعنوان صباح، والثالث بعنوان حمزة، والرابع بعنوان غيث، وهكذا… يوحي هذا الخيار بالديمقراطية، وهي إحدى المطالب الأساسية للثورة السورية التي هي موضوع الرواية؛ ولكن هذه الديمقراطية الروائية تبدو شكلية أكثر منها حقيقية، فمعظم الشخصيات تبدو متشابهة فكرا وقولا أيضا، وكأنها شخصية واحدة وليست عدة شخصيات، ولعل أكثر شخصيتين متمايزتين هما ريم وسهيل، وقد بدا تمايزهما خاصة في الحوارات التي وردت في فصول لا تحمل اسميهما.

يوجد أربعة فصول غير معنونة، ومسردوة بضمير الغائب العليم (13-15-27-29) لا تختلف عن بقية الفصول فكريا وفنيا، بمعنى أن الكاتب لم يستفد من كل إمكانيات الشكل الفني الذي اتخذه لروايته.

الفصل الثالث عشر يتألف من مقطعين: الأول يتحدث عن هاشم العلوي الذي يبدو أنه في طريقه إلى التشيع، وهو صياد بارع، ورام محترف، وقد استدعاه النقيب الذي خدم العسكرية تحت إمرته للاستفادة من براعته، (لم تمض ّ بضعة شهور حتى وجد نفسه على سطح مبنى الإذاعة والتلفزيون في أعلى نقطة تطل على حلب) ص96.

المقطع الثاني مسرود بضمير المتكلم على لسان هاشم، وهو يتحدث عن استمتاعه بقنص البشر الذين يجتازون معبر بستان القصر مقنعا نفسه بأنهم (يريدون إسقاط النظام ليحكمونا من جديد ويتحكموا بنا من جديد… سنقتلكم فرادى وجماعات وسنجعل من مدنكم سهولا نزرع فيها البطاطا وننشئ الملاعب والحدائق، سنخرجكم منها كما أخرجتمونا أيام الاحتلال العثماني ولن نسمح للتاريخ أن يكرر نفسه بل سيسجل التاريخ أننا انتقمنا لدمنا بعد خمسمئة سنة) ص99.

هذا الفصل مخصص لسردية الإنسان العلوي البسيط فكريا والطائفي قولا وسلوكا. لم تظهر شخصية هاشم إلا في هذا الفصل الذي لم يرض الكاتب أن يعنونه باسمه، ربما خطأ تحريري. بمقابل هاشم هناك باسل العلوي الذي لم ينل فصلا خاصا به وقد قال عن الأسد الأب (أفقر قرانا العلوية كلها ليجبرنا على دخول الجيش أو الالتحاق بفروعه الأمنية، وكذلك فعل بمناطق ّ الشوايا) ص90.

الفصل الخامس عشر يتحدث عن إحدى أكثر الشخصيات الدرامية في الرواية: عدنان الذي تحول من التشبيح بعد قتله لأخيه الثائر إلى الحرب ضد النظام، أو هذا ما يبدو، إذ راح يعمل مع الشيخ رضوان الذي أسس كتيبة استجابة لطلب ودعم أخيه الشيخ يوسف المقيم في الكويت، والذي يرى أن هذه الثورة للتخلص من ظلم النصيرية ومن والاهم، وأنه يجب تعطيل القضاء المدني ليحل محله المحاكم الشرعية. بعد انضمام عدنان إلى الكتيبة، ستصبح أكثر قوة، وتفتح جبهة جانبية مع الأكراد الملاحدة، وتغنم الكثير من الأسلحة، وتفرض وجودها وسطوتها كما تساهم بإخفاء قادة وناشطين.

لقد كان رضوان صديقا لحمزة الذي يرى أن رضوان اختار أن يكون منتفعا كما أن تشبيح عدنان أخذ مسارا مختلفا، وقد أعطى الكاتب لرضوان صوتا في الفصل السابع عشر، في حين حرم عدنان من صوته في الفصل الخامس عشر فتحدث عنه بضمير الغائب، ثم قرر أن يحرمهما كليهما من صوتيهما عقوبة على ما اقترفاه بحق الثورة، في الفصل السابع والعشرين، والذي يظهر اختراق رضوان من قبل الأمن السوري ممثلا بحارسيه الشخصيين، وعدنان قائده العسكري الذي تحول إلى تاجر أسلحة.

ولا بد من الإشارة إلى أن هذا القالب الفني الذي اختاره الكاتب لروايته يكاد يكون هو نفسه الذي استخدمه الكاتب المصري بهاء طاهر في روايته “واحة الغروب” التي صدرت في العام 2008.

النص الموازي

يتخلل فصول الرواية سبعة مقاطع مسرودة بضمير المتكلم، غير مرقّمة ولا معنّونة، كل مقطع مسرود على لسان شخصية مختلفة، وكأنها فنيا مشغولة بنفس أسلوب الرواية، أما فكريا فيبدو أنها نص رمزي مواز للرواية. فالمقطع الأول عن شخص يخرج من كهف أشبه بالسجن عبر نفق لمح في نهايته ضوءا، مشى فيه حتى أطل على سهل رحب أخضر، سار فيه حتى وصل إلى شلال عظيم غرس قربه شجرته. يبدأ المقطع بالقول (اسمي خالد، وربما يكون اسمي غيث أو ريم أو آزاد أو صباح) ص11. وهذه أسماء الشخصيات الرئيسة في الرواية.

 والمقطع الثاني عن فتاة أدركت أن لهذا الرجل شأنا خاصا، ووجدت نفسها مدفوعة إليه، وقد رأت فيه (الشامان الأخير في هذه الأرض الموات وهذا اليباس، في توقيت ظهوره الآذاري) ص23. وآذار أول الربيع وشهر انطلاق الثورة السورية على نظام الأسد الذي كان قد جثم على صدر البلاد أربعين خريفا.

والمقطع الثالث عن أحد المبهورين بنور الشجرة، إذ ثمة من لم يكن يراها إلا شجرة يابسة، من أبناء قبيلته. بالمقابل كان هناك الكثير من السوريين يرون في الثورة الوجه الآخر للنظام.

والرابع عن امرأة معجبة بالشجرة المضيئة كغيرها ممن كانوا يرقصون حول نار قريبة من الشجرة (سأرقص على طريقتي، يعجبني هذا التنوع بالرقص فلكل إنسان رقصته الخاصة) ص66. هؤلاء الراقصون هم أول من آمن بثورة الحرية. 

والخامس عن شخصية تتحدث عن الآخرين الذين استولوا على النبع، واعتادوا أن يسرقوا الغلال، ويدافعوا عن شجرتهم المتيبسة. هؤلاء أبواق النظام الذين يدافعون عنه لأنه حامي امتيازاتهم غير المشروعة.

والسادس عن كاهن يرى أن الراقصين مجرد قطعان تسير خلف الأقوى، وأن صاحب الشجرة أخرق وإن تحول لاحقا إلى نبي، وأن الرقص سوف يتحول إلى قتال، وأنه صاحب الخبرة القادر على مناورة العدو، إذن هو يمثل الانتهازيين الذين يريدون أن يقطفوا الثمار من دون أن يزرعوا الأشجار أو يعتنوا بها.

والسابع عن نفس الفتاة وهي ترقص مع فتاها المقدام، تخبرنا أن الشامان صاحب العصا دخل الشجرة مع اقتراب الكاهن برفقة مجموعة كبيرة، راحوا يحتلون دائرة الرقص تدريجيا، وكلما خبت النار قليلا أججها الكاهن بغصن من شجرة الضوء، وليس من شجرتهم السوداء، وكان كل ذكر وأنثى يسبحان إلى الشجرة فتحضنهما بداخلها، ليصبحا غصنا مورقا.

شجرة الضوء هي الثورة، والشجرة المتيبسة هي النظام، والشجرة السوداء تمثل المتطفلين على الثورة، وقد ورد على لسان غيث (الثورة شجرة مضيئة ستتسلق عليها الطفيليات وربما تنبت على جذعها الطحالب، وقد تتيبس أغصان وتتساقط أوراق، ستعشش فيها العصافير وستغزوها الطيور الجارحة، وسترتع في ظلها الحشرات من كل ّ صنف، وسيحاول الحطابون قصها أو اجتثاثها، لكن في نهاية المطاف ستكمل دورة حياتها وسيأكل أحفادنا من ثمرها بكل تأكيد.) ص112.

عبد الرحمن حلاق