ظاهرة الكتّاب السفراء في الأدب الفلسطيني

منجد صالح نموذجاً

فراس حج محمد

فلسطين

أعادتني تجربة الكاتب الفلسطيني والسفير السابق سعادة الدكتور منجد صالح إلى الالتفات لظاهرة الكتّاب السفراء في الأدب الفلسطيني، ومن هؤلاء الكتاب غير منجد، الشاعر هارون هاشم رشيد، والشاعر حيدر محمود (أردني- فلسطيني)، والشاعر عمر صبري كتمتو، والناقد الدكتور عبد الرحمن بسيسو، والشاعر والناقد الدكتور المتوكل طه، وحديثا علمت أن الكاتب الصحفي الراحل يحيى رباح كان سفيرا، كما عرّفني صديقي الدكتور نبهان عثمان على الشاعر عاطف أبو بكر.

ولا شك في أن هناك أسماء أخرى أجهلها، ما جعلني أفكر بعمل كتاب خاص لدراسة هؤلاء الكتّاب وبيان ملامح أثر العمل الدبلوماسي في تجاربهم الكتابية، على غرار ما فعله باحث سعودي، سأتوقف عند بحثه في هذه الوقفة فيما يأتي.

بعض الأسماء المذكورة آنفاً عملت لفترة طويلة في العمل الدبلوماسي، وفي دول متعددة، ويقف على رأسهم جميعاً سعادة السفير منجد صالح الذي عمل في السلك الدبلوماسي فترة طويلة، وزار دولا متعددة، وخاصة دول أمريكا اللاتينية، فقد زارها جميعا كما قال في ندوة إشهار كتابيه: “سلم لي على السفارة، وسيدة من لاباز”، ويتقن صالح اللغة الإسبانية إتقانا كبيرا، إلى درجة أنه يصحح لأبناء البلد أخطاءهم في اللغة. كما جاء في بعض مقالاته تلك، ويعلّمها في دورات خاصة للشباب والشابات.

لقد انخرط سعادة السفير في صداقات كثيرة مع أهالي تلك البلاد، فامتلك مخزوناً من المعرفة والاندماج بالثقافة الوطنية، الشعبية والرسمية، ما أهله ليكون مستشارا لكل الوفود الفلسطينية الذاهبة إلى إحدى تلك الدول، أو مشاركا في استقبال وفود تلك البلاد القادمة إلى فلسطين، فهو يعرف غير اللغة، ثقافاتهم ولباسهم وأكلاتهم الشعبية، وآدابهم ومؤلفيهم ومبدعيهم، وعكَس بعضا من ذلك في الكتابين المذكورين أعلاه، وكتابه السابق “إيسولينا وعجة بالفلفل الأسود”.

ربما تحتاج تلك الكتابات إلى دراسة خاصة ومتخصصة للكشف عن الجوانب التي كانت تثير اهتمام منجد صالح كونه سفيرا أولاً، وثانيا كاتبا فلسطينيا، إذ كان أحيانا يعقد موازنات بين بعض مظاهر ثقافتنا الوطنية وثقافة تلك البلاد، ولعل أجمل ما فعله الكاتب فيما تحدث به عن قصص تلك الشعوب الموضوعية التامة المختلطة بالحب والإعجاب بشخصياته التي يكتب عنها، فكل شخصياته من تلك البلاد إلى الآن كانت إيجابية، وينحاز إليها، ويتعاطف مع من كان مضطهدا منها، وبلغ به حد الإعجاب بشخصياته تلك أن جعل غلاف كتابه “سيدة من لاباز” تتصدره صورة المرأة نفسها صاحبة القصة، إذ أعجبت بالأمر، وفرحت به، واتخذ من اسم إحدى الشخصيات عنواناً لكتاب آخر، وأعني بذلك “إيسولينا وعجة بالفلفل الأسود”.

لأجل كل ما تقدم اقترحت على الصديق منجد صالح أن يخصص كتابه القادم؛ ليتحدث فيه عن تلك البلاد بجوانب مختلفة برؤيته هو، فيقدّم للقارئ الفلسطيني ثقافة تلك البلاد وقصص أناسها الطيبين المتعاطفين مع الفلسطينيين وقضيتهم، وبذلك يكون قد فتح باباً واسعا من الدراسات المقارنة بين أدب تلك البلاد وأدبنا الفلسطيني والبحث عن (الثيمات) المشتركة بين هذين الأدبين، عدا أنه يثري تجربة الكتابة في أدب الرحلات، لاسيما أنه كاتب يتقن السرد والوصف والتعمق في تحليل الشخصيات وسلوكها، بحيث يستطيع القارئ أن يكوّن معرفة متصلة عن تلك البلاد وجغرافيتها وعمرانها وحياتها الاجتماعية والثقافية والسياسية وأمزجة الناس البسطاء فيها. وهذه كلها عناصر نجاح لمثل هذا النوع من الأدب، أضف إلى ذلك ما يتمتع به أسلوب منجد صالح من عناصر روائية، ومراوحته بين الأسلوب الساخر والأسلوب الجديّ، وما يختزنه بلغته من تعابير شعبية وأمثال ومخزون ثقافي أمريكي- لاتيني وعربي- فلسطيني، يجعل من كتاباته ذات أهمية مضاعفة تخدم أدب الرحلات خدمة كبيرة، إذ لا يقتصر أدب الرحلات على التسجيل والتوثيق الجاف، بل لا بد مع هذا التسجيل من أسلوب ممتع يشد القارئ، ويدفعه للقراءة حتى آخر الشوط.

أما كتّابنا الآخرون ممن عملوا سفراء، فأغلب الظن أن تجاربهم لم تكن بهذا العمق الذي تتمتع به تجربة منجد صالح، فتجربة الشاعر الدكتور المتوكل طه- مثلاً- في العمل الدبلوماسي لم تترك فيه أثرا كبيرا، كما تركت تجربة الكاتب منجد صالح، ولعل هذا عائد إلى البلد التي كان فيها سفيراً، وطبيعة الفترة ومدتها التي مكثها المتوكل طه في هذه المهمة، أضف إلى أن طبيعة الشخصية مختلفة والاهتمام الأدبي مختلف، فمنجد صالح سارد مكتنز بكل عناصر السرد اللازم لمثل هذا النوع من الأدب، ويحب عقد الصداقات الاجتماعية، لكن المتوكل شاعر في المقام الأول والشاعر يهتم بلغة مغايرة للغة السردية ومزاجه خاص؛ فرداني جوّاني، يذهب نحو تفريد التجربة وجعلها خاصة دون أن تكون معنية بالكتابة عن الآخرين، بقدر ما تهتم بالكتابة عن الذات بفعل التأثر والتأثير بالآخرين، بمعنى أن الشاعر معنيّ بتذويت تلك التجارب، لا عرضها كما هي بالنقل والتسجيل والتوثيق، وهذا يجعل الكتابة مختلفة، ولا تنتمي إلى أدب الرحلات أو لتكون سردية الطابع.

كما أن تجربة منجد صالح الدبلوماسية تفترض من باحث صبور، عقد مقارنة بين ما كتبه هو وما كتبه الآخرون غير المتوكل طه، كالشعراء السفراء عمر كتمتو، وهارون هاشم رشيد وعاطف أبو بكر، وأعمال الدكتور عبد الرحمن بسيسو النقدية والبحثية، وكتابات يحيى رباح الصحفية، إذ يحتاج إلى قراءة كتبهم ليرى ذلك الأثر المفترض، والخروج بنتائج مبنية على حقائق موثقة من أعمالهم الأدبية.

أشير إلى أنه قد انتبه إلى هذه الظاهرة- من قبل- باحث سعودي يدعى إبراهيم مضواح الألمعي فألف كتابا بعنوان “شعراء سفراء”، وكنت تمثلت فيه عندما تحدث عن الشعراء المدجنين في كتابي “بلاغة الصنعة الشعرية” في الفصل الخاص بظواهر سلبية في مسيرة الشعراء.

تحدث الألمعي عن واحد وعشرين سفيرا شاعرا من دول عربية متعددة، لكنه لم يتحدث عن أي شاعر فلسطيني في هذا الكتاب، كما لم يتحدث عن أية سفيرة شاعرة أيضاً، وقد صدر الكتاب عام 2016 في طبعة خاصة عن مجلة دبي الثقافية، وحمل الرقم (142) من سلسلة كتب المجلة.

بنى المؤلف كتابه بأسلوب واضح، حيث يعرف بالشاعر ويضع له صورة، ويقتبس شيئا مما قاله عنه أحد الكتاب أو الدارسين، ثم يختم ذلك بنماذج من شعره، ولم يظهر في هذه الأشعار أثر عمل الشاعر سفيراً في الأعم الأغلب، فهذه المنهجية لا تعطي الكتاب ميزة أن هؤلاء الشعراء كانوا سفراء، فلم يعمد المؤلف لإيراد أثر عملهم سفراء في أشعارهم مبنى وموضوعا. لهذا لا بد من أن يكون هناك آلية ومنهجية مختلفة للعمل عليها لمن يريد أن يتتبع أثر عمل الشاعر أو الكاتب في أدبه، سواء أكان سفيراً أم غير ذلك من تلك الوظائف التي شغلها، ولعلي أتذكر في هذا المقام قصيدة الشاعر إبراهيم طوقان “الشاعر المعلم” التي بدا فيها أثر التعليم في شعره، وقوله في ذمّ هذه المهنة:

يا من يريد الانتحار وجــدته                                     إن المعلم لا يعيش طويلا

لا تعجبوا إن صحت يوماً صيحة                             ووقعت ما بين البنوك قتيلا

وكنت قد وقفت عند هذه القصيدة محللا في مقالة خاصة بعنوان “إبراهيم طوقان وهموم التعليم”، ونشرت في مجلة عود الند الثقافية، العدد 76، 10-2012، ويمكن العودة إليها من خلال هذا الرابط:

https://www.oudnad.net/spip.php?article526.

كما يمكن أن أشير إلى قصيدة مصطفى وهبي التل الذي يذم فيها وظيفته التي يقول فيها: “إن الزمان ولا أقول زماني بين الطوابع والرسوم رماني”. وغيرهما الكثير ممن انعكست أعمالهم ووظائفهم على كتاباتهم، سواء أكانت شعرية أم سردية وحتى نقدية وبحثية.

وأخيراً أعيد ما اقتبسه الألمعي في بداية كتابه مؤكدا أهمية دور السفير غير السياسية، وإنما الأهمية الثقافية التي هي أبقى، يقول وديع فلسطين: “تمنيت لو أن السلك الدبلوماسي كله أسند إلى رجال فكر وأدب، وشعراء؛ لأنهم أقدر من سواهم على تقديم القيم الروحية الأصيلة التي توثق الصلات بين الشعوب، وتعين على تحقيق التفاهم العميق بين الثقافات والحضارات”.

وهذا ما فعله منجد صالح فيما كتبه عن تلك البلاد من قصص أو مقالات قصصية، عدا أن دور السفير منجد الصالح لم يكن باتجاه واحد، أي الأخذ عن الآخرين وتسجيل ثقافاتهم والتفاعل معها وترجمتها وتقديمها للقارئ العربي وحسب، بل كان سفيرا لثقافتنا وقضيتنا عبر ما كان يعقده من محاضرات لطلاب الجامعات هناك، يشرح فيها القضية والثقافة الفلسطينيتين، وكانوا في مرات كثيرة- كما أخبرني- بالمئات، يستمعون وبلهفة من فلسطيني عن فلسطين المحتلة، وفلسطين التاريخ والثقافة، وفلسطين السياسية والاحتلال الهمجي وسياسات العنف التي ينتهجها هذا الاحتلال، وبذلك يكون منجد صالح نموذجاً جيّداً للتمثيل على عمل السفراء، وخاصّة السفراء الفلسطينيين.