سوزان خواتمي: “تفصيل ثانوي” .. سردية الحرب والعنف ومعاناة شعب

ما عُدنا بحاجة الرجوع إلى أعمال رضوى عاشور وغسان كنفاني ومحمود درويش وإبراهيم نصر الله وغيرهم لنتذكر نكبة فلسطين، فمنذ أكتوبر العام الماضي عادت القضية الفلسطينية بكل تداعياتها إلى دائرة الاهتمام بما نتابعه على شاشات الإعلام من تفاصيل حرب الإبادة المخزية، لتثبت إسرائيل بهجماتها الشرسة على مدارس ومشافي وبيوت غزة أنها دولة احتلال لا تهتم بالقانون الدولي الإنساني، ولا حقوق الانسان.

وفيما تدور آلة القتل أمام أنظار الضمير العالمي الصامت، ألغى معرض فرانكفورت للكتاب حفل تكريم الروائية عدنية شلبي، وهو موقف يتحيز ويتضامن مع إسرائيل، فهل فقد الكتاب الكتاب أهميته مع تغير الأحداث في المنطقة.! وما الذي يثير القلق من تناول سردية النكبة ؟ وما الذي دونته الكاتبة في روايتها كي يُؤخذ عليه بأنه “معاداة للسامية” ؟

رواية الحدود الفاصلة

 في إطارها السردي تطرح رواية الكاتبة عدنية شبلي ” تفصيل ثانوي” الصادرة عن دار الآداب عام 2017 موضوع القضية الفلسطينية ضمن متن حكائي لحقبتين زمنيتين مختلفتين، الرابط بينهما حادثة اغتصاب فتاة من البدو العرب.

في الجزء الأول من الكتاب يأخذنا صوت السارد العليم إلى صحراء النقب في شهر أغسطس من عام 1949 حيث تتمركز كتيبة إسرائيلية تمشط المنطقة بحثاً عن المتسللين العرب.

” الجنوب لايزال في خطر وعلينا أن نفعل كل ما في وسعنا للصمود والبقاء فيه، وإلا سنفقده” ص (36 ).

يشرف قائد الكتيبة على تجهيزات المعسكر وتدريب الجنود في صحراء لا يتحرك فيها إلا الظلال والسراب. الجولات الاستكشافية في منطقة تبدو خالية من أي أثر للحياة لا تسفر إلا على المزيد من معاناة الحر والغبار والهواء الكثيف والعناكب التي احتلت خيمة الضابط ولدغت فخذه، فظل يعاني من آثاره السمية.

بعد عدة جولات يعثرون على مجموعة بدو مع جمالهم تقيم حول نبع، يقضون عليهم بالكامل، وكانت حصيلة تمشيط تلك الرقعة العثور على فتاة “تكورت داخل ثيابها السوداء” يأمر القائد بأسرها، يعرضها لرشاش خرطوم الماء ويأمر بقص شعرها، ورغم شعوره بالقرف منها ومن رائحتها لا يتوانى عن اغتصابها، ثم يسمح لفرقته بالتناوب عليها، حتى ينتهي أمرها بالقتل.

” راحت الدماء تتدفق من رأسها الى الرمل الذي امتصه بغير عناء، فيما تجمعت أشعة شمس الظهيرة فوق ردفييها العاريين اللذين كانا بلون الرمل” ص(54)

بعد مرور ربع قرن، وفي الجزء الثاني من الكتاب تعبر عدنية شبلي بقارئها إلى مكان آخر هو رام الله، من خلال موظفة فلسطينية ” مجهولة الاسم” تعيش وطأة الاحتلال، ويلازمها الإحساس بالقلق والاضطراب النفسي، تقرأ مقالاً في صحيفة عبرية يذكر حادثة قتل البدوية وفق ما رواه جنود الكتيبة، فيشدها الخبر ليس بكونه حادثاً فريداً بل لأن تاريخ الجريمة يتزامن مع يوم ميلادها، ذلك التفصيل الثانوي للتوقيت يدفعها لتجاوز حدودها المرسومة واتخاذ التدابير للبحث عن الوثائق ضمن أرشيف الجيش، فبحسب مخططات الفصل والعزل يُمنع الفلسطينيون من دخول المستوطنات.   

على عكس المتوقع من شخصية هشة وخائفة تستعير الموظفة بطاقة زرقاء بمثابة إذن التنقل، وتستأجر سيارة، وتتسلح بخرائط فلسطينية وإسرائيلية، وتتوجه إلى مركز أرشيف الجيش، يتخلل الطريق من رام الله إلى يافا وحتى عسقلان، قرى ومدن مُسحت بالكامل، ومستوطنات استُحدثت، والعديد من الحواجز والسواتر الاسمنتية ونقاط تفتيش التي تثير هلعها في كل أمر بالوقوف لتقديم أوراقها المزورة.

لا يفيدها متحف الجيش الإسرائيلي بشيء، فهو لا يعرض إلا ادعاءات تاريخية كتبها المحتل المنتصر، تقف متسمرة أمام نماذج الأسلحة القديمة وأفلام دعائية تعرض حياة المهاجرين اليهود.

“يوقفني فيلم بعينه تظهر في بدايته في الكادر مساحة جرداء، تدخلها فجأة مجموعة من المستوطنين بملابسهم القصيرة، والذين يبدؤون ببناء برج عال وسقائف خشبية، إلى أن ينتهي الفيلم بها مبنية بالكامل، في حين يجتمع المستوطنون أمامها ليرقصوا متشابكي الأيدي في حلقة دائرة، أجاول رؤية الشريط ثانية، فأباشر بإعادته الى نقطة البداية عندها يبدأ المستوطنون بفك حلقة الرقص والرجوع الي السقائف التي انتهوا من بنائها للتوّ، ويأخذون بتفكيكها وبتحميلها فوق العربات ” ص(83)

 تستمر الموظفة في رحلة بحثها ليصل بها المطاف إلى متحف مستوطنة نيريم المنطقة الأقرب لوقوع الحادثة، يخبرها الحارس العجوز القادم من استراليا عن سماعه لحادثة بدوية قتلها أهلها ورموها في بئر قريبة، وكمن يلاحق قدره وفي محاولة الوصول إلى الحقيقة التي أغفلتها المقالة تدخل الراوية منطقة تدريب عسكري، لتجد نفسها في مواجهة جنود يرتابون لأمرها، ويرمونها بالرصاص.

الثنائيات والرموز

“تفصيل ثانوي” لا تنقب عن مصير فتاة فحسب بل تعرض لتفاصيل الحياة تحت الاحتلال، وتعكس أطياف العنف وسجن الأماكن، والاحساس الدائم بالخطر.

إلى جانب الاحتفاء بالتفاصيل، واللغة المنتقاة بحذر تنتهج الشبلي مجموعة من الثنائيات، فالرواية تنقسم إلى جزأين بمكانين وزمانين مختلفين، وبصوتين سرديين صوت الغائب متسماً بالتقريرية والبرود، وينحو الثاني صوت المتكلم إلى التكثيف والحسية، أما الشخصيات فاقتصرت على شخصيتين محوريتين مجهولتي الهوية، وفي مقابل هاجس العناكب التي تلسع قائد الكتيبة في القسم الأول، يلاحق نباح كلب مسامع الموظفة في القسم الثاني.

 يبدو أن الثنائيات لا تنتهي عند هذا الحد، فالرواية التي تكشف عمقاً تاريخياً لفكرين وعالمين ورؤيتين، تلحق بها وجهتي نظر؛ وجهة النظر الغربية تتلخص بالتراجع عن تكريم الكاتبة، وانتقاد الرواية بكونها معادية للسامية وإسرائيل، ووجهة نظر أدبية أدرجت الرواية بترجمتها الإنكليزية ضمن القائمة القصيرة لجائزة الكتاب الوطني للأدب المترجم 2020 وكانت ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر2021 ، وحازت على جائزة ” ليتبروم” من الجمعية الأدبية الألمانية عام 2023.

*مجلة البيان الكويتية