عبد اللطيف الوراري: موطن الكينونات المرتجفة: متخيل شعري خارج تمثيلات السنن الذكوري

كتابة اختلافية

جسد الشعر النسائي في الآونة الأخيرة؛ أي خلال العشر سنوات الماضية، طفرة نوعية من جهات الخطاب المتنوعة، يمكن على ضوئها أن نُقر اليوم بوجود كتابة شعرية تتكلم صيغة المؤنث بقوة. ومن جهة أخرى، يمكن للمرأة أن تعبر عن كينونتها داخل الخطاب الذي تتحدد به، فتكون الذاتية ـ ترتيبا على ذلك- هي «مقدرة المتكلم على أن يطرح نفسه باعتباره «ذاتا»» كما يقول إميل بنفينيست.
إن خفوت الهاجس الأيديولوجي- الجمعي وتراجع ملفوظاته المتصلبة والضاغطة، شكل حافزا قويا بالنسبة إلى المرأة الشاعرة؛ حيث استبدلت به النفَسَ الأنثوي الذي أخذ يسرى في جسد اللغة ويفتت آلياتها الإحالية والرمزية، وهو ما سمح لها بأن تقود ـ تدريجيا- ثورة ناعمة على عالم بأكمله من الصور والمشاهد وأشجار النسب التي كانت تستوطن تلك اللغة، ولا تكاد تبرح عنها، وبالتالي أمكنها أن تسمي عالمها الخاص وما يعنيها فيه، وأن تضع إصبعها على الجرح الذي يتكلم عهودا من التاريخ الشخصي المتفجع، بشفافية تشبه تصدعات حياتها الصغيرة. ولهذا، فإن أبرز ما يلفتنا في تجارب الشعر النسائي، أنها صارت موطنا للكينونات المرتجفة قياسا إلى ما يخترقها من رؤى وأحلام وأشواق ومواقف وتجارب حية، أو يعبرها من شذرات وتفصيلات صغيرة واستدعاءات سيرذاتية وتخييلية، تنبض في صميمها بتعبيرات الذات المحسوسة ومعانيها الموجعة وبالغة الهشاشة.
من ذات إلى ذات، ثمة اشتغالٌ مركزي لمرجعية الأنا على فضائها التعبيري والرمزي، الذي يُطلق استعارات الحضور من عقالها، ويتجاوب مع صميم حاجياتها الانفعالية والحياتية والتخييلية، ويحفزها على القول بوتائر متنوعة تتردد بين البوح والاعتراف حينا، والهذيان والصمت والتجريد أحايين أخرى. وفي قلب هذه الملفوظات، تبدو هشاشة الأنثى، بما هي قدرها الأنطولوجي، قوة استبصارية تلازم الكتابة وتتبلور عبرها بوصفها كتابة اختلاف تعمل خارج تمثيلات السنن «الذكوري»؛ أي ليس على أساس الاختلاف الجنسي، بل على محك القيمة التي تتأتى من وظيفة الأنثى في تدبيرها لفضاء اللغة، الذي تضفي عليه من هُويتها الخاصة ما بوسعه أن يعيد تموقع العلاقات بينها وبين الأشياء والقيم والكائنات التي حولها، من خلال زوايا مبتكرة وحميمية تثري لوحات العالم الشعري، وتبعث الهمهمات المطمورة في أعماق سحيقة من لاوعي الأنا ولاوعي الكتابة معا.

بلاغة الحبسة

اختارت إيمان الخطابي أسلوب الشذرة في كتابتها الشعرية، ومن خلاله «تُقسط» حُبْستها ببلاغة التي لا توسع احتمالات المعنى في قول وجيز وحسب، بل التي تريد أن تتردد أصداء هذه الحبسة بين فواصل النطق والصمت، مثل ماء نافورة ساخن يسري في أنساغ اللغة ليطهرها من تمثيلات الفحولة، ومثل دليل إدانة ضد ما تتعرض له الأنثى من قسوة وجور وتمييز، في متواليات بسيطة، متخففة من مؤنة الشكل، هامسة، تأملية تعتمد التكثيف والتبئير والمفارقة، بوصفها آليات قادرة على استشفاف الذات وتخييل صورها في الخطاب. صنعت ذلك في باكورتها «البحر في بداية الجزر» وعادت إليه كاختيار كتابي في ديوانها الثاني «حمالة الجسد» وفيه تنوء أنا الشاعرة تحت الجسد «الأثيم» وتشقى به، بل تسجن فيه، فيما روحها تتطلع إلى أبعد من الجسد، كما يتجلى ذلك ملفوظا ومُتقطعا في قصيدة تحمل العنوان نفسه:
«لو أستطيع النفاذ بجلد روحي،
أترك لهم جسدي
وأظفر ببعض الحرية.
في قفصٍ تربى جسدي،
فلم تذهب بعيدا روحي»
نشعر بهذا الصراع بين الروح والجسد، قد تحول إلى محك لاختبار قدرة الذات على الحياة والانطلاق؛ فهو صراعٌ حفز على تظهير «أوتوبيوغرافيا» تخييلية تعكس تعبيرات الجسد في الواقع القاسي، وتنتقل إلى استكناه مواد الروح وهي ترتجف في ماء الكتابة، فنشعر بأن صوت الأنا يصل إلينا، عبر الغرغرات المديدة، جريحا ومبحوحا يغص بالآلام، وقد فقد شيئا من طراوته الأولى، وأثر زمنه الأول: أنا متألمة، ضجرة، وحيدة وخائفة، عطشانة، تعاني مشقة الانتماء، وترتكن إلى الذكريات والندوب التي أثرت عليها، قريبا من الزمن الذي يذبل باستمرار، ومن الحُب الذي صار رديفا للخسران، وإلا لما استعارت قناع «فرجينيا وولف». تغرق في ليل سحيق، لكنها تتخذ من الحلم مسلة وذريعة نجاة:
«كنتُ كلما باغتني ليْلٌ
وأنا أعالجُ أوقاتي الجارحة،
رجوْتُه: عُدْ بعد صباح؛
حتى أُهيئ حلما جديدا
بدل الذي كسرته البارحةَ».
ولهذا، لا تكف عن الاشتهاء والتوق والتطلع بجوار الطفولة والطبيعة والله، لأنها امرأة متجذرة لها ذكريات وثمار وقصاصات أمل في الأفق:
«امرأة كُلما نسيت ذكرتني:
قبلي قدم الأرض التي آوت ظلنا
ولملمت نثارك ونثاري…
امرأة كلما أتعبتني
نأيت بالقلب
ليكبر بعيدا عن مشيئة الألم».

واجب تعبيري

تُكرس ليلى بارع كتابة الشعر في وعيها بوصفها واجبا وحسب. يتضاعف هذا الواجب عند أُنْثى يصعب أن نحصر هَمها إلا في التعبير، فهي أكثر من ذلك تسكن لغتها التي تكتب بها، تُقلب الرماد الناعم لكي تنبعث القصيدة التي تشبهها. في ديوانها «نشيد الريح» تختبر الشاعرة أشكالا باهرة من تداعي الحواس على نحو يطلق الجسد من عقال المكان، بقدر ما يطلقه في الزمان العابر والانسيابي؛ فمُجرد نظرةٍ في الأسفل تتراءى لنا مأساة. ونظرة أخرى في السماء تتبلور حوافز لبناء حياة نوعية، محتملة. هنا، مع ما تتطلبه صيرورة ذاتها من خبرة داخلية بالحكي وألاعيبه، فإن ذات الشاعرة تأتي إلى كتابتها من زاوية متقشفة وهشة ولافحة، لكن – وهو الأهم- تجعل من اللغة إمكانا للقول الذي يؤذي في الصميم، كما في نصيْها: «محو» و«الدرجة صفر». فالكتابة تمحو، والكتابة التي تتذكر ليلها السحيق والمخيف. أمام كتابة عبورية مثل هذه الكتابة، يتجلى لنا الوجه الرفيع من مكابدة الذات ومعنى البوح بسيرتها على نحو غير خادع، سيرة الوهم كما كتبتها. إنها أشبه بالغيمة التي تراءت لها فأرعبتها بغرابتها. وليس هذا في واقع الأمر إلا ذريعة ضمن ذرائع أخرى، تحمل أنا الشاعرة على أن تُسمع صوتها، وتكون مُتمردة على الكلمات، وقائلة باستقالتها، مثلما تكشف عن رغبتها في أن تعيد إلى هذه السيرة معانيها الأولى، سيرتها الأولى التي ضاع بعضها وانقطع بعضها الآخر. استحالة، لكنها في منطق الشعر ليست إلا إمكانا آخر للنسيان:
«صوتي الآن كقطرات صنبور قديم
يتساقط ببطء على قلبي
قلبي الذي يبتعد عني
لا يلوي على شيء
يخيفني
وهو يتحول مثلي
إلى وحش هارب في الفلاة..»
تصدق مع حزنها، بل تصادقه؛ لأنها تتعلم منه باستمرار. ويكفي أن تسمعها تقول:
«غسلتُ قلبي بالضوء
رغم أن القمر كان بخيلا..»

حالة شعرية

منذ تعرفي على شعرها قبل عقد ونيف، وما واجهته عبره من محنة شخصية لها صلة بموت أمها، وما أعقبه من حالة الاكتئاب والاضطراب النفسي الذي كابدته لوحدها بصمت وبأس، وأنا أنظر إلى لبنى المانوزي باعتبارها حالة خاصة في الشعرية المغربية؛ فهي استطاعت أن توطن في اللغة التي تكتب بها وعيا بكينونة الأنثى التي تقاوم فراغ اللحظة وضياع معنى الأشياء والقيم حينا، وقهر المجتمع الذكوري النافر حينا آخر:
«صوتي يتدحرجُ إلى الأعلى نبعا..
يعبرُ منه أقوامٌ بالكاد
يفقه الترابُ هرولَتهم.
الجناحُ ضئيلٌ كما البدء
يفسر أصابعَهم للباب،
وأنا نحلةٌ
يكملها الهذيانْ.»
اللغة مُشظاة تخترمها الوساوس والهذيانات، لكنها تشف عن نفسها «مثل غابة بلا أشجار». كتبت لبنى، في هذا المنحى، عملها الشعري «تحت مخدة الكون» (2009) لكنه لم يُقْرأ كغيره من الأعمال التي أرجأنا موعدنا معها. ثم كتبت بعده نصوصا وشذرات كثيرة هي استمرار لأسلوبها في الكتابة، الذي يشبه أسلوب جويس منصور إلى حد ما، جمعتها تحت عنوان: «معاول نيئة» وفيها يمكن أن نقرأ أناها السيرذاتي الذي يكشف مواجعه الشخصية في علاقته بـ»آخر» جاثم يكبس على أنفاس اللحظة التي كانت تتطلع إليها وتحلم بخلاصها:
«الأفاعي الملساءُ تدغدغُ حذائي الضيق،
ألدُ أناي
أمحو الأنسجةَ،
أتكئُ على خابيةٍ يدحرجها شبحٌ متشردٌ،
والحبلُ السريُ يتدلى من فكرةٍ متعفنةٍ،
أما شفاهي الغاضبةُ فترشِفُ الكونَ ثم تبصقه».
ما زالت الذكريات تقود خطاها إلى خلاص ما، من وراء نظرة مبهمة ومُفككة، تظل تحدق في فراغ يحتشد بالصور والمشاهد العاصفة، ثم يتلاشى ما تبحث عنه، عالقة بين جسرين وعالمين: أحدهما صوفي غامض، وآخر متمرد رافض. في شعرها تتحقق صورة اللاتوازن الصعب:
«يوجعني ما أراه من أثر عيني في عينك
ها نحن نعد العوالم التي لا يراها أحد
فوق كراس تحركها أشباح سوداء بنوايا رطبة وحقن قزحية
reste avec moi mon ange
في غرفة الانتظار الصغيرة.. شفاهنا تردد الأغنية
أحدٌ ما يفتح الأبواب بعنف رحيم».
تكتب إلى صديقتها هنا؛ فروغ فرخزاد:
«إنه هناك بشكل ما يتكون بين العين والأعماق، لكنه لا يرغب بأن يفصح عن غضبه المائي؛ مرّ زمن وهو يتربص بالمرايا يكتفي بالخدش ولا يكسرها؛ هل ستهرب لينجو صوتها أم تكشف الشروخ حتى تلتئم الأخرى؟ إنها هنا مرغمة، فالحياة تقتضي عيشا بشكل لا ترضاه؛ من هنا جاء انفصالها اللاواعي عن خطى اليومي في دمها؛ هويات أخرى تهمس لعينيها بالاحتجاج لكنها لا تملك من روح التغيير سوى اللون الحرف الموسيقى والغوص في أرواح العابرين؛ ربما من هنا يبدأ الخلاص وتعثر على حقيقتها..».
وهل الشعر، والفن في الإجمال، سوء هذا الخلاص من خلال البحث عن الحقيقة التي تتوارى باستمرار!

*القدس العربي