عندَما دخَلْنا عَفْرينَ

مروان خورشيد

عندَما دخَلْنا عَفْرينَ
أنا و الطَّبيعةُ
و ظِلُّ اللّٰهِ على الأشجار و البُحَيْرةِ ..
كانَتِ امْرأةٌ ترتدي الرِّيحَ
و هيَ تقفِزُ منْ فوقِ النَّهرِ بخِفَّةِ غَزالةٍ
وأُخرى كانَتْ ترتدي السَّماءَ
و هيَ تصعَدُ سلالِمَ الزَّيتونِ في مواسِمِ القِطافِ
وثالثةٌ كانَتْ تُشيرُ إلينا
حيثُ في كفَّيْها تنامُ الأرضُ و السَّماءُ إلى الأبدِ .

عَفْرينُ …
عندَما دخَلْناها
تركْنا خَيْطاً منَ الذَّهبِ يُلاحِقُنا ، كي نَدُلَّهُ على صاغةِ الحَريرِ
في سُوقِ الذَّهبِ
تركْنا جُرْحاً عميقاً
دونَ مِلْحٍ يَذوبُ في الماءِ
و تركْنا القُرى تتوسَّدُ العُشْبَ
و تهطِلُ على أبنائِها ،
كما المطرُ .

في عَفْرينَ …
عدنانُ واحدٌ مُشتَقٌّ منَ العَدَنِ
لا يُشبِهُ جنَّتَهُ أيُّ عَدَنٍ آخرَ
يرقُصُ في الألَمِ
و يضحَكُ في الجَنازاتِ و المآتِمِ ،
ينزَوِي إلى الهدوء في الأعراسِ .
عدنانٌ
عُمُرُهُ منْ عُمُرِ شجرةٍ
أنجَبَتْ الكثيرَ منَ الأغاني
التي تركْناها تنامُ في الحُقولِ
ترعى بقاءَنا منْ ذِئابِ العَدَمِ .

في عَفْرينَ …
شارِعٌ بطولِ الحَياةِ
و بازارٌ كبير ، بحِجْمِ الرِّبحِ و الخَسارةِ
و مرَّاتٌ كثيرةٌ
( تيتي تيتي متل ما رحتي جيتي ) .

في عَفْرينَ …
الشَّمسُ وحدَها
تبرَدُ أكثرَ منْ أيِّ شيءٍ آخرَ
لِأنَّ الأشجارَ تلفَحُها بظِلالٍ كثيرةٍ
و تحُدُّ من شراسَتِها على المُزارِعينَ ،
في مَواسِمِ التَّعَبِ .

في عَفْرين …
صَبايا تقطِفْهُنَّ الأزهارُ
منْ شِدَّةِ ما لديهِنَ منَ الرَّحيقِ و العبق ،
صَبايا يتطايَرْنَ
تارِكاتٍ الفراشات تعجَزُ عنِ اللَّحاقِ بهِنَّ ،
صَبايا تُحَوِّلْنَ الأعراسَ إلى كَرْنَفالاتٍ منَ الذَّهبِ ،
و ليسَ لِلفِضَّةِ أيُّ أثرٍ في كُعوبِ أقدامِهِنَّ .
غيرَ أنَّ الماءَ ينبثِقُ منها
حينَ تحُطُّ خُطاها في الأبدِ

في عَفْرينَ …
تنامُ قريتي ” جويق “
على سِياجٍ منَ الألمِ
و أخضرُ قلبُها مثلَ وجودِها
و لنْ تُفَكِّرَ يوماً في العَدَمِ
تصحو قريتي
على تلويحةِ عائِدٍ منَ السَّفرِ
أو منَ المُعتقَلِ
و تَغِيبُ معَهُ
في الوردةِ التي أسماها قلبي
و لمْ يَنْسَها في ” العَنْكورةِ ” تغُصُّ في الوَجَعِ

في عفرين زيتونةُ أبي ،
التي رحلَ تحتها إلى الأبدية ،
صباحَ 29 شهر نوروز سنة 2000 ، تاركاً يديه و قلبَه ،
بيضاءَ في سيرةِ أيامنا القادمات ،
أبي الذي نامَ تحتَ زيتونة نومة الأبد .

في عفرين ،
أمي توزعُ كرزَ يديها على المارين ،
و تتوسدُ عشبَ القرية في إنتظارِ عودتنا ،
أمي التي تنهضُ كل يوم ،
لتمشطَ صباحاتَ القرية بحريرِ قلبها ،
و يداها تلوحان لغياب أبي ،
خلف غيمات من تعب .

في عَفْرينَ …
اللَّيلُ يُعادِلُ النَّهارَ تماماً
فقطْ ثمَّةَ عُواءٌ لِكِلابٍ
قَدِموا منْ هزائمِهِمْ
لِيُزيدوا حِجْمَ الهَزيمةِ على حِسابِ دَمِنا
و هوَ الآنَ يرحَلُ في العَبَثِ .

من عَفْرينَ …
شاعِرٌ
في قلبِ كُهولتِهِ
يجلِسُ داخِلَ قبره الذي صنعه بيده
و يَعُدُّ خَسَاراتِهِ الكثيرة ،
شاعِرٌ يُحَلِّقُ في السَّماءِ
يحلُمُ بغَدٍ ..
يربَحُ فيهِ الأرضَ
التي سيحُطُّ فيها جَسَدَهُ بهُدوءٍ
بهُدوءٍ
بهُدوءٍ في الأبدِية .