لا توتَ في هذه البلاد!

موسى رحوم عباس (كاتب وقاص سوري عضو رابطة الكتاب السُّويديين)

مقيم في إسكلستونا، السويد.

هذا الولد الضَّئيل الجِرْمِ، الشارد النَّظرات، الصَّامت معظم النَّهار، هو أنا، وهذا الذي يركض في دروب القرية المُتربة، يطارد العصافير، وينثر لها الحَبَّ وبقايا الخبز اليابس، ويحفر على جانبي الطَّريق حُفرًا صغيرة يتجمع فيها ماء المطر الشَّحيح؛ لتكرَعَ الطُّيورُ منه بمناقيرها الكليلة، وتلِغَ فيها الكلابُ الشَّاردةُ؛ لتداريَ ظمأها في قَيْظٍ اشتد صَهَدُهُ، والولد الذي يرفض أن ينصب الفِخاخ للطيور، مستغلاً حاجتها للماء والفتات من بقايا طعامٍ أهلُه فقراءُ وجائعون، كما يفعل الآخرون من الصِّبية الذين احمرَّت عيونُهم من “التراخوما” وتشقَّقت أقدامهم الحافية من الرَّكض على حصى الدُّروب وأكتاف السَّواقي، أيضا هو أنا!

ما زلتُ ألاحقكَ على شاطئ الفُرات، وأنتَ تصنعُ من الرَّمل هضاباً، وبيوتاً لا أبواب لها، وتكتفي بالابتراد في أولِ النهرِ الذي لا يستر عورتك، وصوت أمك الخفيض يهمسُ، لا تغامرْ بالسِّباحة في نهر غادرٍ، يبتلعُ في كلِّ عام بعض أبنائنا، له غضبة سنويَّة في موسم الفيضان، يتحول فيها إلى وحشٍ لا رحمة في قلبه، إنْ كان له قلب! ينقلب ماؤه الفرات إلى أحمرَ كعيني ذئب جائع، تطفو على سطحه جثثُ الحيوانات النَّافقة، وملابسُ لبشر لا نعرفهم، وأباريق شاي لم يختمر بعد، وتظل جدتك تقول: ” مَنْ يعاشر البِسَّ يتحمل خرمشته” وكنت تهزُّ رأسك متبرِّما، عاشرنا قطط الحيوان والبشر وهاهي أجسادنا ممزَّقة، وجراحها لا تلتئم، يا جدَّتي! كنتَ تضحك، كمن يبكي، نعم أعنيك أنتَ، وأمسحُ سطح المرآة أمامي؛ لتتضحَ صورةُ مَنْ أتحدث عنه.

شجرة التُّوت الوحيدة في قريتك، هي تلك الدَّومة التي تتوسط حوش حسين المحمد، إنها تبدو أجَمَةً رغم أنَّها شجرةٌ واحدةٌ، تجذب العصافير والطيور بأنواعها؛ حتى تشكِّل فوقها أسرابا أسرابا، وربما كانت محطَّة استراحة في طريق هجرتها نحو الشّمال!

كنتَ تمسكُ ببعض أوراقها وتضعها بين فخذيك، وكأنَّك تقيس اتساعها، كنتَ تضحكُ من مدرسِّك الذي أخبرك أنَّ أجدادنا في القرون الغابرة كانوا يسترون عوراتهم بورقها، لم تقتنع بذلك، لكنَّك تشعرُ بشيء من الامتنان للشجرة المباركة، وتطرد الأولاد الذين يحاولون صيد عصافيرها بمقاليعهم، وكنتَ تلعنُ القائل إنَّ شجرةً واحدةً لا تصنعُ غابة!

لن تستطيعَ الإفلات مني، حتى لو هربتَ إلى هذه البلاد البعيدة، فالمرايا في كلِّ مكان، لا تحملقْ فيها كثيرا، أستطيع أن أرى تلك التَّجاعيد التي بدأت تُظهِر خارطة للألم وأخاديد حول فمك المزموم أبدا، كمن يودُّ الكلام، ثم يتراجع في اللحظة الأخيرة، وفي كلِّ مرَّة تقف فيها في طابور الانتظار في المطارات، ويدك ترتجف؛ فيهتزُّ جواز السَّفر الأزرق بلونه الحائلِ، تكون الهدف المنشود لرجل الأمن المتخفِّي بلباسه المدنيِّ، والذي يتجوَّل بين الصُّفوف؛ ليرصدَ عيِّنة عشوائية للتفتيش الدَّقيق؛ فتكون أنتَ المرشَّح الدَّائم لهذه المهمَّة الصَّعبة

– هل تسمح يا سيد بالخروج من الصَّف؟

– ولماذا؟

– لن يأخذ الأمر وقتا، تفضَّل!

– ولماذا أنا؟

– لا، يا سيدي، لا يوجد شيء ضدَّك.

تتمتمُ، أعرفُ هذه السُّمرة التي أكسبتنيها شموس الشَّرق، والرَّجفة المزمنة عند الاقتراب من الرجال المسلَّحين أو الرَّسميين من رجال الحكومة ونسائها، بل حتى من صوت سيَّارة الإطفاء، أعرفُ، ثمَّ تبصقُ جانباً!

– ماذا قلتَ يا سيِّدي؟

– لا، لا شيء، لا شيء.

تشعرُ بالخزي لأنَّ الشُّرطي أدخل يده في مناطق حساسة من جسدك، إنَّه يبحث عن أسلحة، يريد حماية بلاده، وهل يحميها منِّي؟ وهل أنا خطير لهذه الدَّرجة؟ ربما، نحن نعيش في بركة من الدماء منذ قرون، ونقتل بعضنا شرقيَّ النهر وغربيه، ونغنِّي للنَّصر على بعضنا، قلتُ لك: لا تكثر من الحملقة في المرايا!

هذا هو جارك السُّويدي يرحل من بيته، بعد أن باعه بسعر زهيد، أعرف أنَّه لا يريد جوارك، تزعجه بشرودك المثير للريبة، ولكنني لم أزعجه، حتى إنني دعوته للعشاء أكثر من مرَّة، صحيح لم أقدم له الشَّراب؛ فأنا لا أحب سوى القهوة والشَّاي، نعم، نعم، أعرف ذلك، لكن صورة جدك يمتشق سيفه على ظهر حصانه مشنوقة إلى جدار غرفة الضُّيوف! لكن هذه صورة عزٍّ وفخرٍ، أيام محاربة المستعمر الفرنسي، لا، لا، هي نية مبيَّتة للقتال، تستطيع أن تغير مكان جلوسك بعيدا عن هذه المرآة اللعينة.

منذ الصَّباح وأنتَ تتجوَّل في شوارع استوكهولم، مدينة البحيرات والشَّواطئ الجميلة، الجو البارد قليلا جعلك تلبس معطفا خفيفا، لكنَّه طويلٌ يكفي لإخفاء سلاح، مثلاً، أعرف حبَّك للتحف واللوحات الفنية والموسيقا الكلاسيكية، وأعرف أنَّك تفكِّر بزيارة القصر الملكيِّ القديم في مركز المدينة، ففيه ما يروي ظمأك، ما الذي يفاجئك؟ ليست المرة الأولى التي تخرج من طابور الانتظار، أصبح التفتيش الشَّخصي معتاداً، ويد المفتش وأصابعه التي تتقرى ثنايا جسدك معتادة هي الأخرى، فلمَ كل هذا الحزن؟!

أحاول اللَّحاق بكَ، وأنتَ تركضُ من بوابة القصر الملكي، دستَ على المعطف في طريقكَ، ثم رأيت حقيبتك الصَّغيرة وجواز سفرك مقلوبًا تدوسه أحذية الهاربين من طريقك، تابعتك تنعطف نحو اليمين، وتدلف للساحة الخلفية مروراً بمتحف ” نوبل” وأنت تلقي بساعة يدك بعيداً، وتتخلص من آخر قطعة ثيابٍ داخليةٍ، وتعلِّقها على القائمة الذَّهبية في اللوحة المُضاءة بعد المدخل الكبير، إنه يحجب تلك الأسماء الكبيرة خلفه، تتجاوز المكتب الصَّغير المخصَّص للتذاكر، يلحق بك الموظفون، ويفسحون بالمجال للرجال المسلَّحين وضبَّاط الأمن التَّابعين للحراسات المشدَّدة في مؤسسة “نوبل” كنت عارياً تماماً، ثم توقفتَ لاهثاً وسط صالة كبيرة محاطة بالصور لرجال غريبي الهيئات بقبَّعات وبدونها، ولنساء متقدمات في العمر بدون زينة أو مجوهرات، يمكن لي أن أحدِّدَ النُّقطة التي اخترتَها،؛ لتريهم عريكَ، وتؤكدَ أنكَ لا تخفي أيَّ سلاح أو حزام ناسف، أو قنبلة، الصُّورة الكبيرة التي تقف أمامها، كانت لرجل ملامحه عربية كما يبدو بنظارته الكبيرة، وشامته الكبيرة أيضاً، وجهه متعب، لكنه يبدو كأنه فرعون هارب من أحد أهرامات الجيزة، سمعتكَ تقولُ لهم، هأنذا عارٍ في “نوبل” كان صوتكَ يختفي، ويشبه صوت أمِّك وهي تهمس، احذرْ أن ترمي نفسك في نهرٍ، لا تتقنُ السِّباحة فيه!

رأيتكَ تضع كلتا يديك محاولا ستْرَ عورتكَ، وأنتَ تنظرُ محملقًا في المرايا التي تحيط بك من كلِّ جانب.

كتبتِ الصُّحف في استوكهولم عن رجلٍ شرقيٍّ يتعرَّى في متحف نوبل أمام جمهور كبير من الزُّوار، ورأيتُ صورتي واضحة تماما في صدر الصفحة الأولى، وأنا منكمشٌ محاولا تغطية ما أستطيع، حزنتُ لأنَّ هذه البلاد لا ينمو فيها شجرُ التُّوتِ.

أيلول، 2023