عصر الديناصورات

سوزان خواتمي (روائية وقاصة سورية)

كان زاهر يقف متأففاً بانتظاري عند الباب عندما سألتها.

رفعت نظارتيها عن عينيها، فانكشفت لي جهة من وجهها بزاوية أظهرت ذقناً مدبباً يلتصق برقبتها. أجابتني: 

– الصوفية مذهب ….

– أمي دخيل الله.. سألتك عن البلوز الصوفية الزرقاء..!

– آه، طبعاً.. طبعاً إنها في مكان ما… ابحث بنفسك.

أعرف أن أمي ما كانت ستزعج نفسها، وتترك ما بين يديها لتلبي حاجتي، أتوقع ذلك وأتجاهله. يحدث هذا عندما تكون فرداً من عائلة مهووسة بالكتب، يظهر في بيتنا كتاب جديد بمعدل شبه يومي ولو على حساب أي حاجة للبيت. 

عند موقف الباص شكوت همي لزاهر:

– عائلة مجانين يا أخي، القراءة أطارت كل أبراج أدمغتهم.

– غريب أمركم، نشكر المولى ما عنا في البيت سوى الكتاب المقدس.. قل لي هل هو فايروس يحتاج علاجاً!

يمازحني زهير، فهو لا يتخيل مصيبة عائلة تقرأ.

لم تستهوني القراءة، نجوت من الفيروس بأعجوبة على حد تعبير زاهر.

الصدفة البحتة أدت لالتقاء أمي وأبي في مكتبة للكتب المستعملة، كان شجارهما حول أحقية كل منهما بالاستئثار بكتاب نادر وجداه في نفس اللحظة، السبب الوحيد لارتباطهما، تناوبا على قراءة الكتاب بعد عقد شرعي أتمَّ زواجهما، وأجّلا الإنجاب حتى الوقت المناسب لمجيئي، ثم لمجيء ابنتين لاحقتين ننعم جميعاً بصحة جيدة، ومنزل متواضع يشبه إلى حد كبير أي مكتبة في الشارع.

جميعهم عداي تستهويهم القراءة، التي لا أجد فيها فائدة تذكر، على العكس يزعجني استغراق أمي بكتبها، وإهمالها لمهامها المطلوبة تلك التي تقوم بها أمهات أصدقائي وقريباتنا اللواتي يجهلن من هو نجيب محفوظ، ولا يعرفن إذا ما كان دوستويفسكي شخصاً أو ماركة ملابس، ومع ذلك يطبخن ويعجن، وينظفن الأطباق والأوعية قبل أن تتراكم، أما أنا فمجبر على تنويعة من المذاقات السائطة أو المحروقة، ولفرط اعتقاد أمي بأن الكتب غذاء الروح، قشرت يوماً كتاباً والتهمته كبيضة مسلوقة على دفعتين.

أبي ليس أوفر حظاً بكتبه، كلما أنهى كتاباً انعكست ملامحه عليه.

يثق بإفراط بكل ما يقع تحت عينيه، يصدق السطور من ألفها إلى يائها، حتى أنه انتسب لكل الاحزاب السياسية، وإن كان للأمانة يفضل الكتب الفلسفية والطبية والتاريخية وكتب التنمية الذاتية، لكن المشكلة أنه كلما قرأ نظاماً داخلياً لحزب وقعت أهدافهم في قلبه، واشتعل حماسة.

نقاشاته البيزنطية تكفلت بسقوطه عن شجرة الحياة الاجتماعية.

معهم حق، من سيصغي إلى شخص يستفرد بالحديث ليستعرض معلوماته الوفيرة.! هو يعرف أسباب ترقق العظام، وتاريخ المنطقة أيام الآشوريين، وأسباب النزاعات والحروب، وما يخفيه السياسيون.. لم يبق بينه وبين إطلاق مكوك فضائي سوى بضعة كتب! 

آخر خلاف نشب بيننا كان بسبب اقتراحي بيع الكتب التي انفجرت في أنحاء البيت، فهي تتموضع فوق رفوف مكتبتين، وتملأ السقيفة، وتجدها فوق الغسالة، بل وهناك سلة بجانب كرسي المرحاض -أعزكم الله- لمن لا يريد تضييع وقته أثناء قضاء حاجته، وتكاد لا تخلو منضدة من كتاب أو مجلة أو جريدة.

تحول بيتنا إلى مكتبة عامة بما يحتويه من ثروة ورقية أتعثر بها كلما خطوت بهذا الاتجاه أو ذاك.

كان يمكنني الشكوى حتى أبد الآبدين، وسماع انتقادات يومية “افتح كتاباً يا ولد… القراءة تزيد من وزن الدماغ، ودماغك بخفة فراشة” لولا الخلل المفاجئ الذي جعل الأرض تتوقف عن الدوران لنعلق في فصل متجمد لا يتغير.

توقع أبي ذلك، وإن لم يعرف متى سيحدث!

لم تمتلك الدولة خطة طوارئ عاجلة، وما من اقتراحات لحل مشكلة لا نعرف كم ستدوم ومتى تنتهي، أعلنت نشرة الأخبار الرسمية حالة الطوارئ، واقتصرت البرامج على تقارير تصف الوضع العام، أما أعضاء الحكومة فشجبوا واستنكروا، فيما توارى السيد الرئيس خلف حيطان قصره الدافئ.

بعد نفاذ المخزون الاحتياطي من الوقود الذي بيع في السوق السوداء، واجه الناس مصيبتهم بقمصان وسترات رقيقة لا تنفع ولا تستر، كما ارتفعت وعلى نحو مفاجئ أسعار الكتب والمنشورات الورقية والصحف، وقبل أن تكتمل فرحة الأدباء ودور النشر والمكتبات بمرابحهم غير المتوقعة، اقتحم الناس مخازنهم ومستودعاتهم، واستولوا على كل ما يؤجج النار ويبعث الدفء في عظامهم.

الارتجاف العام ونوبات القشعريرة لم تكن بفعل البرد نفسه، بقدر ما كانت بسبب الرعب.

الرعب يولد الحماقة، الرعب يولد الرعونة، الرعب يولد المزيد من الرعب.

أُحرق آخر كتاب. وكان بيتنا مليء حد الانفجار بثروة لا تقدر بثمن.

صار بيتنا عرضة للسرقة والمداهمة، فمن المتوقع اقتحامه في أي لحظة ومن المتوقع قتلنا.

من يدري!.

“يجب أن نحفر ونطمر ما لدينا”، صاح أبي

“أيضاً الإدعاء بأن حالنا مزر كحال أقربائنا وجيراننا..” أضافت أمي

“من سيصدق!” علق ساخطاً

نرتجف تحت الأغطية، وعلينا إخفاء رائحة الكتب التي تتسرب من فتحات التهوية، صرنا نخشى أن تخترق الكلمات المطبوعة الجدران وتصل الآذان.

في تلك اللحظة.. وجدت نفسي أبحث عن كتاب سينقرض كالديناصورات.. لأقرأه.