نادية هناوي: الاستبدال بديلا عن التناص

إن ما جعل الحكاء مكونا من مكونات الخطاب القصصي القديم هو المؤلف، الذي له مكانة مركزية هي انعكاس لأحادية الثقافة العربية الإسلامية. وليس أدل على المركزية والأحادية ما كان للنقد العربي من انشغال كبير بقضية السرقات. والأسباب مختلفة منها:
1/ المسار التاريخي الطويل الذي قطعته هذه الثقافة، وما شهدته من تحولات كان فواعلها في العموم أفراد هم شعراء وأدباء وكتاب.
2/ البعد الأخلاقي حتّم على المؤلف أن يؤدي وظيفته الأدبية ملتزما تجاه مجتمعه.
3/ إن الأدب على المستوى التدويني له حاضنة رسمية نخبوية عليا يمثلها خواص المجتمع، فلا ينجز المؤلف عملا، الا وينسبه إلى نفسه متوخيا الأمانة ومقدما ولاءه للحاضنة.
أما الثقافة الأوروبية فليست أحادية، بل هي تعددية، إذ لم تكن إلى حدود عصر النهضة ذات أصول معروفة، أو حاضنة واضحة ومحددة ومن ثم كان متاحا للمؤلف الأوروبي أن يسير على ما انتقل إليه من تراث أدبي إنساني، متبعا إياه حينا أو مجريا عليه بعض التطويرات، أو التحويرات حينا آخر، وكان الحكاء واحدا من تلك الأصول التي أجريت عليها تحويرات.
وقد أمات منظرو السرد الفرنسي المؤلف، ثم فضلوا عليه القارئ، وفي الحالين كان التاريخ مستبعدا والتقاليد مغيبة. ومحصلة الاستبعاد والتغييب تجسدت في (التناص) كنظرية بدت ملائمة للثقافة الأوروبية التي استطاعت – بما عرفت به من تعددية – بلوغ القوة والنضج فكانت تثبت وتمحو في ما تتبعه من أصول وما تعتمده من قواعد، أسستها آداب قديمة.
والفكرة التي يقوم عليها التناص تتمثل في استبعاد أن تكون للأدب جذور أو أصول، ومن ثم لا وجود لمؤلف أحادي كما لا مكان لكينونة أخرى تالية له يمثلها الحكاء، بل ثمة قارئ له وحده أن يدلل على ما في العمل من تناص هو حسب جينيت (نصية فوقية) لمؤلف آخر أو عدة مؤلفين. وأطلق على هذه التعددية التأليفية اسم (المؤلف المزدوج) وما على القارئ فعله هو تتبع إشارات النص كي يدرك العلاقة المؤلفية (ما بين المؤلفين) ويعرف من ثم النص المهدوم وما فيه من معارضة الحضور المزدوج لكل من المعارِض والمعارَض. وفي كل هذه الحالات يدرك القارئ ازدواج المقام التأليفي إدراكا واضحا مبدئيا، عبر خمسة اشتغالات تمثلها (المتعاليات النصية) وفصّل جينيت القول فيها في كتابه «أطراس».
وإذا كان التناص من ابتداع منظري علم السرد الكلاسيكي، فإن منظري علم السرد ما بعد الكلاسيكي أفادوا من التناص في بناء نظرية (الاستبدال Metalepsis) وتوسيع التعددية المنهجية من جانب، وتفريع علوم سردية جديدة من جانب آخر. وليس خافيا تباري منظري السرد ما بعد الكلاسيكي مع منظري السرد الكلاسيكي، حتى لا نكاد نجد مفهوما أو اصطلاحا أو نظرية أو تعريفا أو موسوعة أو مشروعا، دشنه الكلاسيكيون إلا وقام ما بعد الكلاسيكيين بتقويضه أو استبداله بآخر. لكن المفارقة أن مبتغاهما واحد وهو، تأكيد تفوق العقل الغربي عبر بتر الجذور وإلغاء الأصول. ولعل من البراعة أن يجد المنظرون ما بعد الكلاسيكيين في مفهوم واحد من مفاهيم جينيت وهو (الاستبدال) ما يحقق بغيتهم في المعارضة والتعريض حتى وضعوا فيه نظرية لوحده. وما جعلهم يتوصلون إلى وضع هذه النظرية هو جينيت نفسه، الذي كان كثير التحير إزاء مفهومه من ناحية موقع المؤلف من السارد والقارئ، وإشكالية علاقته بهما. ومن دلائل تحير جينيت أنه تردد في تعريف الاستبدال، فتارة وصفه باللبس وتارة أخرى عده خرقا.
وحقيقة هذا التردد تأتي من وجود نص واقعي بُني على نص غير واقعي، أو حكاية مضمنة في حكاية أو قصة تستوحي قصة سابقة فيكون للمؤلف أن يتدخل في قصته وقد تتدخل شخصية من الشخصيات بعمل المؤلف فتكون خارج الحد القصصي المخصص لها. ورأى أن أكثر ما يزعج في الاستبدال هو بالضبط الفرضية غير المقبولة التي مفادها (إن خارج القصة ربما هو قصصي، وأن السارد والمسرود له أي أنا وأنت، ربما ينتمون أيضا إلى حكاية ما). وكان لهذا التحير والتردد الجينيتي، أن حفّز ما بعد الكلاسيكيين على استغلال نقطة الضعف هذه فنفذوا منها واستطاعوا بناء مشروع نظري جديد عماده الاستبدال ومعماره مستويات سردية غير التي حددها جينيت، من ناحيتين:
الأولى/ وظيفة المؤلف (استبدال المؤلف بالسارد/ استبدال السارد بالمؤلف/ استبدال السارد بالشخصية/ استبدال السارد والشخصية بالمؤلف).
الثانية/ موقع المؤلف (كأن يكون دالا على نفسه أو مختفيا أو راغبا في الظهور على مسرح القصة). وخلال عقدين وأكثر من الزمن، توسع مشروع الاستبدال، ومما ساعد في ذلك:
ـ المؤلف وموقعه من السارد أثناء عملية مداخلة النصوص ودمجها.
ـ ما من ضابط مفاهيمي يفي بشرح فاعلية الاستبدال.
ـ تزايد التجريب فيه على مستوى الأدب والسينما والميديا والموسيقى والتشكيل.
ـ أن ليس في الأدب ما هو قطعي ونهائي، لأنه في حالة صيرورة وتجدد دائمة، يوجزها قول جينيت: (ومن الحكايات ما يحيي شهرزاد ومنها ما يميت).
وفي عام 1997 كتب ديفيد هيرمان مقالا بعنوان (نحو وصف اصطلاحي لسرد الاستبدال) فيه عرف الاستبدال بأنه انتهاك المستويات المعتادة في البناء السردي عبر تشابك الأصوات diegeticالتلاعب بالحدود الأنطولوجية للنصوص. مما نجده في روايات إيتالو كالفينو وخوليو كورتازار وكلود سيمون وآلان روب غرييه. ونقل هيرمان عن شلوميث ريمون كينان أنها أشارت عام 1983 إلى التحولات غير المتوقعة في انتهاك خصوصية المستويات السردية من أجل التشكيك في الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال أو للإيحاء بأنه لا وجود لواقع منفصل عن السرد أو إعادة التفكير في ما هو واقعي فقد يكون مجرد لا شيء. وطبق هيرمان تعريف الاستبدال على رواية «عند مخاضة الطيرين»Swim-Two-Birds» لفلان أوبراين، وأكد أن الاستبدال يحصل عندما يتم خرق التوقعات المعيارية للبنية النموذجية للكون السردي.
وشخَّصت مونيكا فلودرنك في دراستها (تناوب الاستبدال والنمط الاستبدالي) 2003 اضطراب التنظير الجينيتي الكلاسيكي للاستبدال، وأرجعته إلى الرومانسية الإنكليزية ورواية القرن التاسع عشر. وانتهت إلى أن الاستبدال يقوم على الفهم المحاكي للسرد وعلى التمييز الدقيق بين القصة والخطاب. وكان من نتائج توسيع مفهوم الاستبدال أن تنوعت فروضه ومؤدياته التي تعدت النص الأدبي إلى مجالات تجاور الأدب، أو تبتعد عنه، وظهر علمان جديدان هما، علم السرد الوسائطي media narratology وعلم السرد العابر للوسائط transmedial narratology، فضلا عن تطوير علوم أخرى مثل علم السرد غير الطبيعي وعلم السرد المعرفي وكثر الباحثون المعنيون بالاستبدال نظرا وتطبيقا، وازدادت الفرق البحثية المشتغلة على تطويره.
ولم يعد الاستبدال كما عرفه جينيت خاصا بداخل القصة وخارجها وإنما هو اشتغال يصف حركة النصوص ضمن عوالم واقعية وافتراضية، تشمل الذكاء الاصطناعي والرسوم المتحركة إلى السينما والمسرح والقصص المصورة الشعبية، وأفلام الخيال العلمي والميديا. ووسع ويرنر وولف دراسة الاستبدال، وأصدر عام 2016 كتابه (استيراد مفاهيم علم السرد: مقالات مختارة في الوسائطية) وفيه عدّ الاستبدال ظاهرة معدلة بالعبر وسائطية على صعيد media الإعلام وشدد على الأهمية المتزايدة للتعدد الاختصاصي كشرط في دراسة الوسائطية، وناقش الاستبدال، بوصفه تجاوزا، يولِّد تناقضا ما بين مستويات السرد المنطقية وعوالمها الوجودية. وركّز على طبيعة المفهوم المائعة والعابرة للحدود والتحويلية التي بها يتجاوز السرد إلى مجالات تقع خارجه، ما يولد ظاهرة التلابس الذي به تتأكد فاعلية الاستبدال.

*القدس العربي