نقد وتطوير فكر عصر التنوير

التعدديّة ترتقي بحقوق الانسان إلى مستوى أعلى

ناهد بدوية (كاتبة مهندسة سورية مقيمة في فرنسا)

“قال لي أحد نشطاء الثورة السورية في بداياتها: نريد أن نبني سورية على أساس آخر طبعة للديمقراطية وحقوق الإنسان”

 حصلت الكثير من الشرور بحق الانسان والمواطن وحقوقه بعد الطبعة الأولى لإعلان حقوق الإنسان لذلك كان لابد من تطويره وتعديله باستمرار على ضوء التجربة التاريخية.

شكلت الطبعة الأولى لإعلان حقوق الانسان حدثا تاريخيا مفصليا أطلقته الجمعية التأسيسية الوطنية الفرنسية في 26 آب/أغسطس 1789 والذي يعتبر وثيقة حقوق من وثائق الثورة الفرنسية الأساسية وتُعرَّف فيها الحقوق الفردية والجماعية للأمة. وفقًا للإعلان، يُعتبر القانون تجسيدًا لإرادة المواطنين، وتكمن وظيفته في ضمان مساواة الحقوق ومنع أي تحقير “للهيئة الاجتماعية”. وقد وفر الإعلان وسائل وآليات مشابهة لتلك المذكورة في الدستور الأمريكي وميثاق الحقوق الأمريكي اللذين تمت صياغتهما في نفس السنة، يتناول الإعلان، مثل الدستور الأمريكي، حاجة ضمان الأمان، ويحدد مبادئًا عامة للضرائب، ويُشدد خاصة على المساواة في الضرائب. يبرز الإعلان حق المواطنين في الشفافية، مما يلزم السلطة بالكشف عن كيفية استخدام الأموال العامة. وبشكل مهم، يُمنع تنفيذ القانون الجنائي بأثر رجعي، ويضع مبادئ أخرى مثل اعتبار الإنسان بريئًا حتى تُثبت إدانته، ويُؤكد على المساواة وحرية التعبير وحرية الصحافة وحرية العقيدة. كما يقر الإعلان حق الملكية مع الحفاظ على المصلحة العامة: بما أن حق الامتلاك من الحقوق المقدسة التي لا تُنقض فلا يجوز نزع الملكية من أحد إلا إذا اقتضت المصلحة العمومية ذلك اقتضاءً صريحاً وفي هذه الحالة يُعطي الذي تُنزع منه ملكيته تعويضاً كافياً.

شكلت فلسفة التنوير الأساس الفلسفي والفكري لهذا الإعلان من نظريات العقد الاجتماعي والحقوق الطبيعية وأهمها الحرية، لمفكري عصر التنوير أمثال جان جاك روسو، جون لوك، فولتير، مونتيسكيو وهوبز، داخل مُناخ تنويري بالنضال ضد النزعة الفردية المطلقة في الحكم وضد التعسف والاستبداد. وكانت هذه القيم هي أساس الدخول في عصر الحداثة.

أن عصر التنوير (القرنين السابع عشر والثامن عشر) يرتبط غالبًا بالتقدم والعقلانية وتعزيز حقوق الفرد، إلا أنه كان يحمل أيضًا عناصر معقدة وتناقضية، بما في ذلك تعزيز بعض الأفكار التمييزية. رغم أن الإعلان حدّد حقوق البشر دون استثناء (وليس حقوق المواطنين الفرنسيين أو الامريكيين فقط) إلا أن المشكلة الأساسية تجلت بتأثره بالذات الفاعلة التي أنتجت فكر عصر التنوير، الرجل الأبيض الأوروبي المسيحي، لذلك بقيت تلك الذات بالصورة الخلفية عند الفرنسيين والانكليز وبقية الدول الأوروبية التي أسست أنظمتها الديمقراطية انطلاقا من هذا الفكر الذي كان أهم ثورة فكرية سياسية حقوقية في حينها. وأضحت هذه الذات المؤسسة المعيار القياسي الذي يقف خلف تعريف الإنسان لذلك يمكن أن يفهم من قبل الكثيرين بأن هذا التعريف لا ينطبق على السود والصفر والأعراق والأديان الأخرى والمرأة، الأوربيون هم ورثة الديمقراطية الاغريقية التي كانت لا تشمل العبيد والمرأة وهذا كان أساس الشرور التي ارتكبتها الدول ذاتها التي تم صياغة دساتيرها انطلاقا من ميثاق حقوق الانسان ففي أمريكا مثلا لم يلغى التمييز العنصري ضد السود إلا في الستينات من القرن العشرين.

كما أدى تطور الحضارة الأوروبية إلى دخول العالم كله عصر الحداثة الذي اعتمد على الثورة الفكرية التي أنتجها عصر الأنوار، و تزامن عصر التنوير مع ذروة الاستعمار الأوروبي، الذي أدى الى التفاعل مع ثقافات مختلفة إلى تطوير آراء ذات مركزية أوربية، حيث كانت الثقافات الأوروبية في كثير من الأحيان تُرى كأفضل من غيرها. ساهمت هذه المركزية الأوروبية في خلق وتكريس الأفكار العنصرية، حيث كانت الثقافات غير الأوروبية غالبًا ما يتم تشويهها والتقليل من قيمتها.  وهذه المركزية شيء فريد لم يوجد في التاريخ البشري ما يماثله من قبل. لم تماثله سيطرة الإمبراطوريات القديمة بأسرها التي اقتصرت على السيطرة العسكرية، في حين لم تقتصر الحضارة الأوربية على السيطرة العسكرية في عصر الاستعمار وانما امتدت بعده إلى السيطرة الاقتصادية والهيمنة الفكرية والثقافية. و تحول إنتاجها الفكري والثقافي والعلمي إلى تراث إنساني عام، بحيث تصدرت الحضارة الأوروبية مكان النموذج المرتجى وجعلت شعوب الدنيا قاطبة تسعى إلى التشبه به أي أنها أضحت هيمنة بالاختيار. ولكن جذور العنصرية كانت موجودة في فكر عصر التنوير ذاته.

جذور الأفكار العنصرية في فكر عصر التنوير

لم يكن الفلاسفة في عصر التنوير، على الرغم من مساهماتهم في حقوق الإنسان والمساواة، محصنين ضد التحيزات العنصرية. بعض الفلاسفة البارزين عبروا عن آراء كانت، من وجهة نظر مستقبلية، متحيزة عنصريًا. على سبيل المثال يعتبر كانط وهو من أبرز مفكري عصر التنوير في بعض السياقات من المفكرين الذين عبروا عن تحفظات أو آراء تمييزية. ففي كتابه “الأفكار العامة لفلسفة الفهم”، عبّر كانط عن اعتقاده في تفوق ثقافة الشعوب الأوروبية على الشعوب الأخرى أشار إلى أن الشعوب الأوروبية تتمتع بالقدرة على التقدم الثقافي بشكل أكبر من غيرها. مع ذلك، يجب أن يُفهم أن هذه الآراء ليست فقط نتاجًا للمفاهيم العنصرية، وإنما قد تكون أيضًا نتيجة للتحفظات التي كانت موجودة في زمانه بخصوص التفوق الثقافي والتقدم، وكذلك لمستوى تطور الفكر الإنساني في تلك الحقبة ولا يمكننا تحليل آراء كانط في هذا السياق بدون فهم السياق التاريخي والثقافي الذي كان يعيش فيه. فقد تميز ذلك العصر بالتأكيد المتزايد على التحقيق العلمي والتصنيف. ولكن وللأسف، تم استخدام هذه الروح العلمية أيضًا لدعم الأفكار العنصرية. فتطوير نظام تصنيف وتصنيف في علوم الطبيعة كان في بعض الأحيان يمتد إلى محاولات تصنيف وتصنيف السلالات البشرية استنادًا إلى الخصائص الجسدية والثقافية. وقد وضع هذا الأمر أسسًا لنظريات العنصرية الزائفة لاحقًا التي حاولت توفير أساس علمي للتسلسل العنصري. كانت هذه النظريات غالبًا تعتمد على تفسير انتقائي للاختلافات التشريحية والثقافية لتبرير استعباد بعض السلالات البشرية.

وحتى نظريات العقد الاجتماعي التي أسست للفكر السياسي الحديث ، التي ظهرت خلال عصر التنوير مع فلاسفة مثل جون لوك وجان-جاك روسو وغيرهم، والتي لم تكن عنصرية بطبيعتها، لكن يمكن تفسيرها أو استخدامها بطريقة تسهم في توارث أفكار تمييزية. مثل استبعاد مجموعات معينة عند تحديد حدود المواطنة. فقد اقترح بعض المفكرين أفكارًا حول المواطنة والحقوق تستبعد فئات معينة من الناس، مثل العبيد أو السكان الأصليين أو المجموعات الأخرى التي تعتبر أقل شأنا.

وكذلك جرى تطبيق أفكار العقد الاجتماعي بشكل انتقائي أحيانًا، حيث تمنح حقوقًا وحمايات بشكل غير متساوٍ لفئات مختلفة استنادًا إلى معايير عرقية أو ثقافية. لكن عصر التنوير نفسه لم يكن حركة منسجمة تماما، وكان لكل فيلسوف شخصيته المختلفة، وكانت هناك الآراء متفاوتة حول العنصرية والمساواة بين أنصاره ولم يشارك جميع مفكري العقد الاجتماعي في هذه الأفكار، كما دافع العديد منهم أيضًا عن المساواة والحقوق العالمية ودافع الكثير منهم عن المساواة والحقوق العالمية بالإضافة إلى ذلك، فإن الأفكار العنصرية في عصر التنوير وضعت الأسس لأيديولوجيات عنصرية لاحقة، لكننا لا يمكن نعتبرها نظريات عنصرية متطورة بشكل كامل كما أصبحت في القرون التاسع عشر والعشرين.

أفكار عصر التنوير تحت سهام نقد الفن والادب

لعب الفن والأدب في الجزء المبكر من القرن العشرين دورًا مهمًا في نقد وتحليل فلسفة الأنوار من خلال التعبير عن التحفظات والتساؤلات حول المفاهيم الرئيسية للتنوير. مثل التشكيك في التقدم اللامتناه الذي أكد عليه عصر التنوير من خلال التركيز على العقل والتفكير العلمي. وأظهرت الأعمال الفنية والأدبية في هذه الفترة شكوكا حول هذا التفاؤل الزائد. على سبيل المثال، روائيون مثل فيودور دوستويفسكي في رواياته “الجريمة والعقوبة” و “الأخوة كارامازوف” نقلوا مخاوفهم بشأن الفجوة بين الطبقات الاجتماعية والآثار النفسية للتحولات الاجتماعية.

بينما ركز صمويل بيكيت على فشل اللغة وعجز الإنسانية عن التغلب على حالتها، وهي المواضيع التي تم ظهورها لاحقا في أعمالٍ مثل في انتظار غودو. وكتب البير كامو رواية الغريب التي تعتبر من الأعمال الأدبية التي تشكك في القيم التقليدية وتتناول موضوعات العزلة والخوف والمعنى الحقيقي للحياة. تبرز الرواية جوانب من الإنسان تتجاوز التحليل العقلاني المألوف في فكر عصر التنوير.

كما أدى اهتمام العديد من الكتّاب والفنانين بالتنوع الثقافي إلى التشكيك في الافتراضات الأوروبية حول التفوق الثقافي وبدأت الأعمال الأدبية والفنية تبرز التنوع في العالم والقيم المتنوعة للثقافات العالمية، مما أسهم في تزايد الاعتراف بالقيم الفريدة لكل ثقافة. وسلطت بعض الأعمال الفنية في العصر الحديث الضوء على الآثار السلبية للتكنولوجيا والصناعة على الإنسان والبيئة. ونقدت هذه الأعمال الفكرة المركزية في عصر التنوير وهي أن الانسان هو سيد الطبيعة وينبغي ان يخضعها لمصلحته. الذي أدى الى التدهور الكارثي الراهن للبيئة.

بدأت في القرن العشرين بعض الأعمال الفنية والأدبية في التشكيك في الإيمان الكامل بالعقل والعقلانية. الكتّاب والفنانون بدأوا في استكشاف جوانب الإنسان التي لا يمكن فهمها بالكامل من خلال المنهج العقلاني والعلمي وأظهروا الأبعاد العاطفية والروحية التي تجاوزت إطار تفكير عصر التنوير مثل رواية الخيميائي لباولو كويلو إذ تعتبر هذه الرواية عملًا أدبيًا يستكشف أبعادًا روحية وعاطفية. تدور القصة حول رحلة روحية لشاب يبحث عن معنى الحياة ويستخدم العديد من الرموز الروحية والفلسفية. يعبر الكاتب في هذا العمل عن إيمانه بالروحانية وأهمية البحث عن الهدف الحقيقي للإنسان..

أفكار عصر التنوير تحت سهام نقد الفلسفة والفكر النسوي

انطلق نقد مابعد الحداثة للأصولية الحداثية في النصف الأول من القرن العشرين. دافع ليوتار عن الاختلاف والتعدد في كتابه “الشرط ما بعد الحداثي” يرى ليوتار بأن الاختلاف يحتفي ب”الحكايات الصغرى” بالتعارض مع “الحكايات الكبرى” لدى العقل الغربي الكلاسيكي، والتي تقمع سرديات الأقليات في واقع الأمر. وقد توافقت معه النظرية النقدية ومدرسة فرانكفورت في ذلك، ووجهوا أعنف النقد للعقل الغربي (الأداتي)، وذلك بسبب إلحاحه على السيطرة والتحكم، وكذلك الطريقة التي يدفع بها أوجه الحياة الأخرى المختلفة إلى الهامش. غير أن النظرية النقدية لم تستسلم للفكرة التي ترى أن “الاختلاف” ذاته هو فضيلة، والاقتصار على الحقيقة السياقية ونفي كل ما هو مشترك وكوني وكلي. ووصفوا راديكالية ما بعد الحداثة بأنها يمكن أن تؤدي إلى موقف جاهل ومحافظ بحيث نقبل جميع الخصوصيات ونؤكد شرعيتها مهما كانت في حين أن بعض “الحكايات الصغرى” ينبغي أن تقمع.

فالنظرية النقدية تنتقد دائما تطرفين وتؤكد ضرورة العلاقة بين قطبين، لا يستغني أي منهما عن الآخر، فمثلا تقف الفلسفة الماركسية ضد الاضطهاد الذي تمارسه البورجوازية على الطبقة العاملة والفئات الفقيرة وتحاول أن تفضح الشروط الظالمة التي تعيش فيها عامة الشعب ويصل الماركسيون عادة إلى حد الدفاع عن الثقافة الجماهيرية والإعلاء من قيمتها، في حين يؤكد فلاسفة ما بعد الحداثة أن الثقافة الجماهيرية التي يتمتع بها البشر إنما تضطهدهم. يحاول أصحاب النظريات النقدية تأكيد العلاقة الجدلية بينهما من دون السعي إلى وضع حلول اجتماعية وهمية. وترى النظرية النقدية أن رفض فلاسفة ما بعد الحداثة لفكرة، أن المستقبل يمكن أن يكون مختلفاً، يعطي حجة أيديولوجية للدفاع عن الحاضر وما تتمسك به النظرية النقدية هو إمكانية أن تكون الأشياء مختلفة والإنسان أكثر حرية.

انتقد هربرت ماركوز في كتابه “إيروس والحضارة” فرويد الذي يعتقد أن الكبت الاجتماعي هو خاصية حتمية من خصائص الحضارة، وقام بالجمع بين ماركس وفرويد حين بين بطريقة نظرية محضة أن أفكار فرويد عن تطور الفرد يمكن أن تتوافق مع إمكانية مجتمع بعيد عن الكبت. فإن الواقع متبدل تاريخيا وهو ليس ذلك الشيء الواحد الثابت كما تصوره فرويد، بل يتخذ أشكالا مختلفة في المجتمعات المختلفة. وهذا ما أعطى دفعاً كبيراً للمنظور الحقوقي للبشر ولإمكانية تغيير علاقات السلطة مع تغير المجتمعات وتطورها..

جاءت محاولات هابرماس في العمل على هذا التوازن أيضا وذلك عبر حماية العقل من التشكك المطلق وحمايته من الأداتية الصرف، إذ تلعب السياقات عند هابرماس دوراً كبيراً فيما نعده معرفة في أي لحظة محددة، لأن هذه السياقات تنطوي على اللغة، والممارسة الاجتماعية، والافتراضات الأخلاقية التي نعيش من خلالها. لكن هذا لا يعني أننا لن نحتاج إلى الكليات لفهم العالم. وقد بين في كتابه “المعرفة والمصالح البشرية” أن هناك أنماطاً من المعرفة. فالمعرفة ليست شيئاً واحداً بل أشياء متعددة، منها “مصلحته المعرفية” فالمصلحة البشرية في السيطرة، التي تقوم على حاجتنا إلى البقاء المادي، أدت إلى ظهور العلوم الطبيعية. كما إن لدى البشر حاجة إلى البقاء الجمعي وهذه المصلحة العملية تعبر عنها أفكار العلوم الإنسانية بإلحاحها على منجزات المجتمع القائمة على اللغة، وبين الذاتية: ممارستنا الاجتماعية، وقناعاتنا الأخلاقية، ومنتجاتنا الثقافية، وهناك مصلحة ثالثة في التحرر، هي مصلحة مستمدة من الحاجة البشرية إلى استقلالية الذات في عالم يقيدنا بصورة غير شرعية. وهذه المصلحة تنتج معرفة تشترك بشيء ما مع كلا المعرفتين الأخريين وتؤدي إلى قيام فروع نقدية معينة، خاصة التحليل النفسي والنظرية النقدية

 استفاد الجانب الحقوقي العالمي من فكرة هابر ماس في تعددية المعرفة، فالمعرفة تنتج عن تعددية حاجات الإنسان، أي من الحاجة إلى السيطرة والبقاء الجمعي والتحرر. كما عمل هابرماس على العقلانية التواصلية وراح يبين كثافة المعرفة الاجتماعية، وتعقيدها، بحيث لا نستسلم لفكرة أن المعارف الاجتماعية تتعلق بالسياق وحده وترتد إليه، أو أنها تتعلق بالسيطرة وحدها وتقتصر عليها. أي، بعبارة أخرى، لا ينبغي أن نرفض “الحكايات الصغرى” لمصلحة الكوني والمجرد، بل ينبغي تعزيز العلاقة بين الاثنين. لا نقع في الواقعية المفرطة التي تفضي إلى عالم خال من المعنى إذا ما اكتفينا بتصور بودريار و”الحكايات الصغرى”، ونذهب إلى عالم أكثر حيوية تستطيع أن تنيره النظرية النقدية وتساعدنا على الفهم المتبصر لما يمكن للمستقبل أن يكون عليه. وأن المستقبل يمكن أن يكون مختلفاً بالعمل النقدي الجاد وبتأكيد حاجة البشرية إلى كل مكوناتها كي تتوازن وتزدهر.

تلتقي النظرية النقدية النسوية مع فكرة هابر ماس في تعددية المعرفة، ولكنها تؤكد أن تعددية المعرفة لا تنتج من تعددية حاجات الإنسان، أي من الحاجة إلى السيطرة والبقاء الجمعي والتحرر فحسب بل تنتج أيضا من تعددية الذات العارفة. وقد قدم الفكر النسوي الحديث الدعم الأساسي لفكرة التعدد والتنوع والاختلاف ورفض طغيان المركزية والمعيار الواحد من خلال النقد العميق لمفهوم المساواة المتضمن ضرورة التشابه مع المسيطر حتى يتم الاعتراف بالحقوق المتساوية، أو حتى من أجل الاعتراف بحق الوجود والكينونة. وقد بين الفكر النسوي في أن المساواة مع الرجال مقولة مزيّفة، تتضمن قياساً وفق معيار ذكوري، حيث أن فكرة المساواة دائما كانت تتطلب معياراً أو نموذجاً مما يؤدي إلى طغيان النموذج وقمعه للمختلف. فالمساواة الحقيقية تعتمد على التساوي في حرية الاختيارات في الحياة والعمل والحب.

العنصرية تشل حقوق الانسان

مازالت شرور العنصرية تنتهك حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية وسيتطلب التغلب على آثارها المدمرة جهوداً واعية مدروسة ومستمرة. لذلك ينبغي إعادة النظر في أشكال النضال ضد العنصرية حيث تكمن العنصرية الخفية في طغيان نموذج ومعيار في تعريف الإنسان. فلم يكن هذا التعريف يشمل النسل الإنساني كله. عبر أحد مديري المدارس الداخلية التي كانت تقبل الهنود في صفوفها في العام 1887 أي في المراحل الأخيرة من الغزو الأوروبي للعالم الجديد: “إن هدفنا هو “قتل الهندي…. وإنقاذ الإنسان.

ان تطور دراسات ما بعد الاستعمار منذ أواخر السبعينات ساهم في تحليل وتفكيك وإدانة هذه الجذور المعرفية للعنصرية، وقد لفت إدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق”، إلى الطريقة التي انتهجها الخطاب الأدبي الغربي في وصف الشرق أو اختلاقه، إذ نظر هذا الخطاب إلى الشعوب والثقافات غير الأوروبية بصفتها “الآخر” بالنسبة إلى الغرب، لا بصفتها جزءاً من الثقافة الكونية، تلك التي يمثلها الغرب وحده. وهكذا فقد كان: “السكان الأصليين” هم جماعات أقلية محددة على نحو جائر بوساطة “تحديقة الرجل الكولونيالي” .. التي حولتهم إلى قوالب جامدة لا تنتمي الى الجنس البشري (وحشي، همجي)…”. لقد رفضت الحضارة الاستعمارية منحهما هوية مستقلة عنها. فكان الرجل الأبيض هو النموذج الذي تنشأ على أساسه تعريفات الآخر. وهكذا جاءت هوية الهندي الأحمر والإفريقي والآسيوي حسب إنشاء الرجل الأبيض والافتراضات الغربية التي تتلخص أسبابها بالتسيّد والإصرار على عدم رؤية وسماع بقية شعوب.

وساهمت الأحداث الرئيسية للقرن العشرين، مثل الحروب وظهور الفاشية والنازية والهولوكوست كمحفزات لتطوير وسائل حقوق الإنسان الدولية. والتي أدت إلى إنشاء الأمم المتحدة واعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في عام 1948 والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمحكمة الجنائية الدولية، واعتقال أوغستو بينوشيه ومحاكمة سلوبودان ميلوسيفيتش، والتكنولوجيا والإنترنت، وتأثير المنظمات غير الحكومية مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش صحفيون بلا حدود وأطباء بلا حدود …..الخ وكذلك ساهمت شجاعة وتصميم أعداد لا حصر لها من الأفراد من الرجال والنساء والكتاب والفنانين في تطور حقوق الإنسان الدولية.

إذن تطورت في العصور الحديثة مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان لتتضمن تعددية واحترام الاختلاف والتنوع. وأصبحت الديمقراطيات الحديثة تقدم مساحة أوسع للمشاركة السياسية والتعبير عن الآراء المختلفة. وبفضل تقدم التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبح من الممكن تبادل الأفكار والآراء بسهولة أكبر.

على الرغم من هذه التطورات الإيجابية، هناك تحديات مستمرة تواجه تحقيق التعددية واحترام الاختلاف والتنوع في الديمقراطيات الحديثة. تشمل هذه التحديات التطرف والتمييز والعنصرية وعدم احترام حقوق الإنسان في الكثير من الأماكن. وفي عدم تطوير المؤسسات الحقوقية الدولية. ولكن التطور المستمر للفكر الديمقراطي والتفكير التنويري يشير إلى أنه يمكن التغلب على هذه التحديات من خلال تعزيز الوعي بأهمية تعددية المجتمع واحترام الاختلاف والعالم متعدد الثقافات.

إن تجاوز العنصرية الخفية والمعلنة الحالية. سوف يساهم في استكمال الثورة الديمقراطية العالمية وتجديد شبابها وتجديد إعلانها لحقوق الانسان، وسوف ترفعها الى درجة أعلى من درجات سلم الديمقراطية الطويل.