أحمد الظاهر: تجوال في لوحة “إيلياء” لريمه العجاجي

 في لقاء تلفزيوني من سبعينات القرن الماضي تحدث الشاعر الرسام حسين حمزة أنه وفي معرض فني أقيم للوحاته في أمريكا، قال أحد زوار المعرض وهو ناقد أمريكي: أجزم أن وراء هذه اللوحات شاعر! دون أن يعرف أن الفنان حسين حمزة يكتب الشعر.

وفي ثنائية اللون والكلمة يؤكد الشاعر سيمونديس الإغريقي أن الرسم شعر صامت! فالعلاقة بين الشعر والرسم تكاملية تفاعلية، والرسام كما الشاعر المتهم بالاستيحاء من الجن، يستلهم نبوءاته أيضاً، وهو يحشد رؤاه البصرية تماشياً مع ما يقتضيه هاجس الكشف..

في هذا العمل التشكيلي للفنانة والأديبة ريمه العجاجي، تتمثل تلك المقولات بين الشعر واللون، فالفنانة أديبة تملك لغة شعرية في نصوصها السردية التي قرأتها.

وفي أول انطباع لي وأنا اتهجأ اللوحة، يخطر لي تلك السفن التي كانت تنقل الغرناطيين إلى سواحل المغرب العربي، بعد سقوط غرناطة، آخر معاقل العرب في الأندلس، نازحون لا يحملون سوى هزيمة وانكسار ومفاتيح بيوت تركوها في يد القشتاليين. ولأن تكرار التاريخ وارد فلا مناص من تذكر قوافل النازحين من فلسطين عام ١٩٤٨ وفي أيديهم ذات المفاتيح، وفي خلد كل منهم حلم، بأن أجراس العودة ستقرع يوماً.

 تبحث الفنانة في الأداة الرمزية الأكثر بروزاً في الشعر والفن، من خلال تكوين المرأة ذاتها بصفتها وطن مفقود، أو مدينة ضائعة بينما تتفاعل الخلفية الشرقية (نقوش نباتية) مع باقي التكوين البصري، في إحالة لعين المتلقي إلى مُلكٍ ضائع ترك حضارته العمرانية المميزة خلف البحار بزخارفها وأبهتها الجمالية (اشبيلية، غرناطة، قرطبة) أو حضارته الشرقية (القدس، الأقصى، بيت لحم.. حيفا… يافا…. الخ) كدالة على الفقد والملك الضائع وفق متخيلها المتاح في ثقافتها الشرقية، فاللون الأخضر الطاغي على مساحة اللوحة، ليس إلا الجنة الخضراء، والبيوت التي شهدت الطفولة (الفردوس المفقود) والرمز الأبدي للبيت /المفتاح/ فلا انزياح هنا عن المألوف بما في الذاكرة الشعبية ومتخيلها عن اللون الأخضر. 

 تحضر الشعرية في اللوحة، في هاجس ازدواجية التجربة السردية واللونية، وتبدو ريمه شغوفة بالتعبير وازاحته عن واقعيته وإحالته إلى ترميزات لونية، يفرضها الحس الأدبي بشاعريته، واللوحة بصفتها شعراً صامتاً، تمثله الخطوط المنحنية اللينة والطرية في تكوين الجسد الأنثوي ودلالته الشعرية. مفارقة عجيبة بين مأساة وطن مسروق تحنو عليه بعذوبة الأخضر، وألم الرحيل، وعراء الروح في المنفى، في تماه حسي مع أساليب المدرسة التعبيرية ودلالة الألوان الباردة، ما يوحي بإرهاصات قد تحدث بكل ما فيها من مآسي وأوجاع، فاللوحة تشير إلى أناس غير مرئيين ترسمهم الذاكرة، ويلفهم الحزن والصمت وهم يقاسون قيود الزمكان بالذل والانكسار، فهم حطام مضاف لحطام المدن المتروكة لا يدل على هويتهم في المنفى  سوى مفاتيح يلوحون بها في وجه العدم.

وبين نبوءة السرد وهاجس الفنان تتوهج مصابيح المدن المنسية، بانكسارات وانعكاسات الأخضر المعتم إلى الأخضر المتوهج، وحينها تعبر مواكب الفجيعة في الروح بضربات لونية تشبه رايات المواكب النائحة، بينما التكوين الرئيسي في العمل أنثى ضائعة في عمق الغربة وفراغ أخضر يشرق على جسد ضامر مهمل يشبه مدينة محتلة تتكئ على تاريخ من الخيبات والانكسارات واللاجدوى والعبث، وقد لا يغيب تفاؤل هنا، وآمل هناك.

عمل جميل ويستحق الإشادة، أرى فيه ملامح اسلوب يخص ريمه العجاجي وحدها وهي تتلمس في تجربتها الفنية بصمتها التي لا تُشكل على عين ولا تخطئها باصرة.

قياس: 100×80 

الخامة: إكرليك على كانفاس