فرج بيرقدار: فسحة شعرية في سجن تدمر

رغم اجتهادي اللغوي في شبابي الباكر، إلا أني لم أعرف شيئاً عن “المنفى” ومعانيه ودلالاته قبل قراءتي لشيء من سيرة أبي ذر الغفاري، الذي نغَّص على معاوية بن أبي سفيان شؤون سياسته في دمشق، وما اكتنفها من فحش الثراء والفقر والمفاسد، الأمر الذي جعل معاوية يضيق ذرعاً به، فشكاه إلى الخليفة عثمان بن عفان الذي أرسل في طلب أبي ذر، ثم يحكى أن عثمان ضاق به ذرعاً أيضاً، فنفاه من المدينة إلى منطقة نائيةٍ شرقاً تدعى الرَبَذة.
لا أريد أن أصدِّق أو أكذِّب ما قرأت، وإن كنت بصورة عامة لا أثق بكتب التاريخ القديمة، ولا حتى بكتب التاريخ التي تتحدث عما أنا وأبناء جيلي شهود عليه. ولكن إن كان عثمان هو من نفى أبا ذر إلى الربذة، فإن الربذة منفى إجباري، وإن كان أبو ذر هو من نفى نفسه إليها فإنها منفى اختياري أو مهجر وفق اللغة المعاصرة.
وبحكم ميلي التلقائي لرؤية واقتناص الأضداد والنقائض والمفارقات حضَرَتْ فكرة المنفى/ السجن في قناعاتي على نحو مبكِّر، ولعلي كثفتها عندما كنت في بودابست عام ١٩٧٥ بالقول:
ليس بيني وبين نفسي دليلٌ = والمنافي شبيهةٌ بالسجونِ
لاحقاً، عندما صارت الحال “أقفالٌ تنهرها أقفال”، أعني مع اختبار تجربة السجن، صرنا نتمنى لو حكموا علينا بالنفي.
أيام الانتداب/الاحتلال الفرنسي لسوريا، جرت العادة على نفي الثوار والمتمردين إلى جزيرة أرواد التي تبعد ثلاثة كيلومترات عن ساحل مدينة طرطوس. نعم كان في تاريخ سوريا المعاصرة شيء اسمه النفي، وشيء اسمه سحب أو إسقاط الجنسية، ولكن نظام الطاغية حافظ الأسد حرم السوريين من نعمة النفي إلى الخارج أو إلى البعيد، وقدَّم لهم بدلاً منها منافيَ داخلية، بل في داخل الداخل، منافيَ في الأعماق، في الطبقات السفلى تحت الأرض وتحت سيطرته وإشرافه، منافيَ لها أسماء تتنافى مع حقيقتها وطبيعتها، من مثل “نقاط توقيف” أو “فروع أمنية” أو “مراكز تحقيق”، كما حرَم الأسدُ السوريين من كون الجنسية حقاً، فجعلها واجباً، ما يعني أنه حتى لو تنازل السوري عن جنسيته السورية، كما تنازلت أنا عنها ما دام الأسد حاكماً، فإن ذلك لن يعفيه من لجوء السلطات لتطبيق أحكامها بحقه في وصفه سوري الجنسية، وكذلك الأمر فيما لو انتسب المرء لحزب البعث، ثم قرر الانسحاب، فلن يشطبوا قيده من عضوية الحزب، وذلك لكي لا يتجرأ على الانتساب إلى حزب آخر، فيعرِّض نفسه لعقوبة الإعدام التي فرضها نظام الأسد على كل بعثي تثبت عليه الازدواجية الحزبية.
السجن والمنفى كنقيضين في الواقع والمعنى، أو كطِباق في اللغة، أصبحا متطابقين في بلدان الاستبداد.
النفي لغةً هو الإنكار أو الجحود أو التكذيب، وهو السلب عكس الإيجاب، وهو من جهة أخرى يعني الاقتلاع والطرد والإقامة في مكان غريب، ليس هو المكان الذي ألفه المرء أو اعتاد السباحة فيه.
بهذا المعنى فإن المنفى سباحةٌ في مكان غامض وبلا ضفاف، سباحةٌ في المجهول المعلَّق في الآفاق.
وبهذا المعنى فإن السجن أيضاً سباحةٌ في المجهول المشدود إلى القيعان أو الأنفاق.
أجَلْ.. كلاهما، في معناهما العميق، سباحة في تيارات محيط غريب متوجِّس ومتربِّص، محيط مسكون بالقهر واللعنات والكوابيس.
وإذا كان المنفى صورة للغياب، فإن السجن صورة للتغييب الذي هو غياب أشدّ. هكذا هما في القرار الأخير صورتان للغياب لا يبزُّهما إلا الموت في وصفه الغياب الأقصى.
* * *
كان المنفى يعني هجرات طويلة عبر السفن، ورسائل يحملها المعارف وأبناء البلد ما بين المهاجرين وأهلهم. كان غربة قاسية في المكان واللغة والظروف، وكان كما قرأنا عنه في الكتب المدرسية التي تتحدث عن حنين العربي للعربي، حتى إذا التقيا في المنافي، أو رنَّت في أذن أحد منهم كلمة عربية، تهلَّلت أسارير السماء، وفتح الكون ذراعيه للعناق، وعزفت الدنيا على أوتار خطوط الأفق أجمل ألحانها.
لقاء غريبين في المنفى كان يستحضر على الدوام قصيدة امرئ القيس التي يقول فيها
(أجارتنا إنّا غريبان ههنا… وكلّ غريب للغريب نسيبُ)
أما الآن فالناس كلهم أو معظمهم غرباء، وتواصلهم في ما بينهم افتراضي داخل البلد كما هو خارجه، هذا ناهيكم عن أن العرب المهجَّرين حديثاً من بلدانهم تحت وطأة القمع والاستبداد والتهديد بالسجن والتعذيب والقصف والموت، قد بلغوا عشرات الملايين، وهم منتشرون في شتى الأصقاع والأمصار.
العربي الذي كان يهفو ويحن إلى أخيه العربي في المنافي، صار في الغالب يؤثر الابتعاد عن كل ما يذكِّره بماضيه، فقد فتك الاستبداد بالكثير من العلاقات بين الأزواج، والإخوة والأخوات، والأقارب والأصدقاء، كما فتك بالكثير من الثقة والألفة والمشاعر الوطنية والقيم والانتماءات والجماليات، بل إن الاستبداد جعل المنافي حلماً بالمقارنة مع ما هو مطروح من بدائل تترجح ما بين الدفاع عن الطاغية والموت في سبيله أو الدفاع عنه والتشبيح تحت حمايته، وبين التعرض للاعتقال أو الخطف والفدية أو التغييب أو الموت البطيء تحت التعذيب.
تلتبس أمور كثيرة في عصرنا، فتتجلى بنقائضها أو بذاتها على عكس ما هي عليه. السجن والمنفى من بين تلك الالتباسات.
وسوريا في ظل حكم الأسد لا هي سوريا ولا هي سوريالية، وإن كان يتوحد فيها النقيضان، السجن والمنفى.
يمكننا قول الكثير عن سوريا السجون المتضافرة، وقول الكثير أيضاً عن سوريا المنافي المتنافرة.
لم يبق من المنفى بالمعنى القديم المتعارف عليه سوى الذكريات والدلالات المجازية. كان المنفى انقطاعاً عن عالمك، عن مياه الرحم الدافئة والآمنة، وقد كسرت وسائل التواصل الحديثة غربة المنفى بالصوت والصورة والبث المباشر. لقد صار المنفى وطناً ثانياً أو بديلاً لدى كثيرين، في حين أنه من الصعوبة بمكان أن يأخذ السجن صورة الوطن الثاني أو البديل. السجون السورية في ظل استبداد الأسد هي المنافي الحقيقية بكل ما تعنيه وتتضمنه الكلمة من معنى.
والكتابة في مناخات السجن او المنفى إنما هي محاولة لتخطيهما. ولعل الشعر هو المنسرَب الأهم للخروج من السجن/المنفى.
* * *
المفارقة كانت تنهض بين ضرورة كتابة جديدة معنىً ومبنىً، وبين ظروف سجن تدمر التي تستجرّك للتعبير عنها كما لو أنك واحد من شعراء الماضي الذين تحدثوا عن الصحراء وما تحيطهم به من قيظ ورمال وسراب وغزو وماشية وواحات. في الحقيقة كنا نحس بالصحراء حولنا، ولكننا لا نعاين منها سوى الحر والرمل والعجاج.
كتبتُ أحياناً كما لو أني شاعر من صعاليك العرب، وأحياناً كما لو أني شاعر يتأبّى على الموروث بكافة حضوراته وتمظهراته، وذلك على الرغم من أن السجن/ المنفى يحرِّض الذكريات والحنين إلى ما نألف.
في أول قصيدة لي في السجن استحضرتُ مالك بن الريب في رثائه لنفسه. تحدثت معه بلغتي، وتركت له أن يتحدث بلغته.
(خلتُني وَهْناً صديقي مالك بن الريب/ حيّاني وأعطاني الأمانْ
لم أكن حيّاً ولا ميْتاً فأفسحتُ له/ آهِ كم أخجلني ضِيْق المكان
قلتُ هل وسَّعتَ لي شطراً بمرثاتك يا مالكُ/ فالموت جبانْ
وأنا حزنٌ إلى حزنٍ/ وبي ما يوحش الموتَ مع الموتى فقالْ:
تذكَّرتُ من يبكي عليكَ فقيل لي = سوانا كثيرٌ والسحابُ قليلُ
كأنكَ والرايـات أفـقٌ مخضَّبٌ = تميل إليـــه الشمسُ وَهْوَ يميلُ
أما والتي ناغتك نهراً وأنجماً = ونسراً مهيضاهُ رؤىً وطلولُ
لأنتَ جميع الناس همَّاً، وهِمَّةً = وكل محالٍ ما عداكَ يحولُ
فإمَّا لواكَ الدهــرُ حينـاً فإنهُ = عناقُ خيول يُرتجى وصهيــلُ).
واستحضرت المتنبي، بل إني دخلت معه في رهان إمكانية تجاوز بيته الشهير:
أمّا الأحِبّةُ فالبَيْداءُ دونَهُمُ = فَلَيتَ دونَكَ بِيداً دونَهَا بِيدُ
بدا لي أن معناه ومعاناته أقل بكثير مما نحن فيه، فقلتُ:
بِيْدٌ إلى بيْدٍ تشيِّعها = بِيْدٌ إذا كشفتْ فعن بِيْدِ
لكأنّها حِيَلٌ بغير يَدٍ = ويدٌ تحاول دون تأييدِ
هكذا كانت حالنا نفياً مضفوراً ومكلَّلاً بالشوك والعوسج.
وحتى معاناة قيس بن الملوح وحبيبته ليلى لا تقارن بمعاناتنا، فأهل ليلى زوجوها لغيره فجُنَّ وهام على وجهه، ولكنه كان يستطيع زيارتها. أمّا حبيباتنا فقد خضعن للتعذيب والتنكيل، حالهنَّ في هذا كحالنا، وقد ابتلعتهن السجون قبلنا أو معنا أو بعدنا، ولا سبيل للوصول إليهن. في الحقيقة لم يكن من سبيل للوصول إلى أي أحد في العالم الخارجي، فقد كنّا محرومين من الزيارات والراديو والأوراق والأقلام وغير ذلك من البداهات الغامضة التي تصبح شديدة الغموض في سجن تدمر.
كنت أُجري هذه المقارنة على مسمع بعض الرفاق، فطلب مني أحدهم أن أكتب بعض أبيات العتابا في هذا الشأن، وكان بيننا من يمتلكون أصواتاً جبلية ويتقنون غناء العتابا، فكتبت لهم بضعة أبيات، كان منها:
زَرًعْنا صَبْرْ عالصبر وْرَحَلْنا = تركنا هموم ما شالا رحلنا
لو انّو قيس يعرف شو رحلْنا = لصاح مصابكم أكبر مصاب
المفارقات والمقارنات بين حالنا وأي حالٍ آخر في الكون تتناسل بدون توقّف وبلا نهاية.
حين نتف الجنرال مظهر فارس شاربي الأيسر بيده، تذكرتُ مأساة حلق شاربَي محمود المليجي في فيلم الأرض. وجع محمود المليجي كان معنوياً متعلقاً بصدمة ظهوره أمام الملأ بدون شاربيه اللذين يختصران رجولته. مفهوم الرجولة بالنسبة لي مختلف، لذلك كنت أتمنى لو أراحني الجنرال من آلام نتف شاربي مكتفياً بحلاقته كما حدث مع بطل فيلم الأرض.
لا تنتهي الوقائع التي تؤكد أن سوريا، في عهد الأسد الأب وابنه الوريث، من أسوأ ما عرفه عالمنا من السجون والمنافي.
في المنفى لجأ كثيرون إلى اللغة حتى شكَّل أدب المهجر ظاهرة قائمة بذاتها، وفي السجن لجأ كثيرون إلى اللغة حتى شكَّل أدب السجون ظاهرة قائمة بذاتها أيضاً.
السجن والمنفى هما أقصى ما يمكن أن يحيلنا إلى اللغة، أو يحيلها إلينا، بوصفها بيتاً أو موطناً بديلاً.
كان عليّ أن أزجّي الوقت والأحلام والذكريات والألم والأفكار والتأملات والحنين باللغة، بل بخلاصتها أو روحها المتمثِّلة بالشعر.
وكان عليّ أن أقوم بتصفية حساب مع الماضي والحاضر والمستقبل، مع العقل والمنطق والإبداع والسلطات المتمثلة بالدين والمجتمع والسياسة.
هي لعبة جميلة وموجعة ومدهشة في الكثير من ازدلافاتها الواعية والغريزية.
بعضنا أتقن لغة العصافير. لا أعني الزقزقة، بل التفاهم مع العصفور إلى الحد الذي يجعله يحضِر لك سيجارة من علبة سجائر جارك.
بعضنا راقب حركة النمل وأطواره ومهاراته حتى صار خبيراً بالنمل أكثر من النمل نفسه.
أمّا أنا فقد ذهبت بالشعر ومعه كل مذهب. كنت ألقيه وأكتبه وأغنيه وأحوِّله إلى حكايات وأفلام، وكنت أتدرب على ارتجاله وأقيم دورات لتعليم أوزانه وكشف بعض أسراره.
مرّةً كنت أعطي درساً في العروض عن بحر “المتدارك”، وكنت لا أنتقل من بحر إلى آخر إلا حين ينجح الجميع في تأليف بيت أو أكثر على ذاك البحر. كنت أطلب من المشاركين في الدرس أن لا يشغلوا ذهنهم في أي شيء سوى الوزن، وحين يكتبون بيتاً أو أكثر لن أحاسبهم على النحو والقواعد والمعنى بل على الوزن. قال أحدهم: كأنك تريدنا أن نكتب شعراً سيريالياً. تدخّل آخرون وتحول الدرس إلى حديث عن السيريالية في الأدب والفن، لنخلص إلى نتيجة مفادها أن السيريالية هي أن نكتب أو نرسم، بطريقة شبه آلية كما لو أننا مسرنمون، ما يخطر في بالنا من تداعيات لا رابط منطقياً في ما بينها، ثم ألَّفتُ بالتشارك معهم، كلمةً كلمة، البيتين التاليين:
خنزيرُ الملح بأكمامي = ودمٌ خشبيٌّ في المرآةْ
أنا وحدي نمشي قدامي = حرفاً كحصاةٍ أو كقطاةْ
وفي مرة كنت أعطي درساً في العروض عن بحر “المتقارَب”. هبّتْ حينها عاصفة رملية سدَّت الأفق برمل أو عجاج مكفهرّ، فطلبتُ أن يكتب كلٌّ من المشاركين في دورة العروض بيتاً يصف به واقع الحال. قال أحدهم: هاتِ بيتاً من عندك أولاً ونحن ننسج على منواله. فقلت:
أناختْ ظلمةً وطغتْ رمالا = كأن الله أحجمَ واستقالا
وهكذا تتالت الأبيات وهي تصف المشهد أو تتناوله من جوانب متعددة، ذهنية وتصويرية ونفسية ودلالية.
لاحقاً قال أحدهم: لولا الشعر لأنهكتنا العاصفة، وقد صدق من قال أن الشعر ترويض جميل للعواصف. سألته عن صاحب هذا القول “الشعر ترويض جميل للعواصف”، فقال: أنا القائل، وهل تراني أشكو من شيء يحول بيني وبين أن أكون أنا القائل أو الكفء لأقول؟!
* * *
مَنْ يستوطن اللغة يصبح من أبنائها، ثم يحظى بأهم ميزاتها، بامتيازاتها في الحقيقة، أعني الحرية.
ولأن الإقامة في اللغة تشكِّل، على نحو أو آخر، خلاصاً من الإقامة في السجن، يغدو كل حديث مهماً مهما بدا سطحياً. الذكريات والثرثرات وأحاديث الرضا والسخط والتاريخ والأساطير، كلها ضرورية لحماية اللغة التي نقيم فيها، ضرورية لترميم وتجديد مكان الإقامة، وضرورية أخيراً لتوسيع حدود الكون بالمنطوقات.
لكن يبقى الشعر أجمل ما يمكن أن تطير بأجنحته إلى الحرية بغاباتها ومحيطاتها، بجمالياتها وفداحاتها، وبكل ما تنطوي عليه من بروق ومواسم وظلال.
قبل الاعتقال كنت أجور على لغتي من خلال أنواع الرقابات الداخلية المتعددة التي تنذرك بين جملة وأخرى ومعنى وآخر بأنك تلامس خطاً أحمر أو تقترب منه، ما يعني أنك مهدَّد بالتكفير اجتماعياً أو بالاستدعاء والمساءلة والتحقيق والانتقام سياسيا.
في السجن تتراجع الرقابات وتنطوي على ذاتها، لتصبح الكلمة سيدة نفسها التي لا تجدي معها أساليب التهديد والترويض.
طلبني مرة مدير السجن ليحذرني من مغبَّة ما أكتب. كان يشير إلى كتاباتي التي صادروها عندما فتّشوا مهجهنا. قلتُ: إنما هي آرائي وأفكاري وأنا مقتنع بها، فإذا لم تعجبك فإن في وسعك اعتقالي. كأنه انتبه فجأة إلى بداهة هذه الصفعة، حيث لم يعد أحد قادر على تهديدي بالاعتقال.
بعضنا صار كاتباً أو مترجماً أو رسّاماً أو موسيقياً، أعني حقَّقَ ذاته بصورة أكثر جِدّة، وأكثر جمالاً، وأكثر حرية، وبما يضيف من جمال المعاني إلى الحياة بعامة وإلى شخصية المعني بخاصة.
إذا كان السجن في أحد وجوهه محاولة حثيثة لإلغاء معنى السجين، فإن خلق أي معنى، ولا سيما بلغة جمالية، هو نوع من الرد العميق في مواجهة ما يُراد للسجن أن يقوم به حيال المعنى.
* * *
كان المنفى فكرة نظريةً بالنسبة لي، أو وجهاً مقابلاً للسجن يطابقه أحياناً ويناقضه أحياناً ويباطنه أو ينطوي عليه في غالب الأحيان.
ولكن منذ دعوتي كضيف على مدينة ستوكهولم عام 2005، وبخاصة بعد توقيع “إعلان بيروت/دمشق- دمشق/بيروت”، في حزيران 2006، صار المنفى بالنسبة لي واقعاً اختيارياً وإجبارياً في آن معاً، وبدأت صورته تتراجع أمام أي مقارنة مع سجون الأسد.
وسائل الاتصال الآن تكسر وحشة المنفى أو تبددها، في حين أن وحشة السجون بقيت على حالها، بل إنها ازدادت وحشة ووحشية وتنكيلاً بعد 2011، حين فضحت التظاهرات المليونية أو نصف المليونية حقيقة أن غالبية الشعب السوري ضد الأسد.
لا أدري منذ متى تملّكني الشعور بأنني ولدت منفياً، أعني سجيناً. قريتي منفية عن المدينة، ومدينتي منفية عن سوريا، وسوريا منفية عن العالم. والمنفى سجن يبدأ من طفولة محاطة بأسوار الفقر، ومدرسة يتدرّب فيها الأطفال على تحمّل صنوف التعذيب كما لو أنهم في دورة تدريبية على التعذيب لاحقاً لدى أجهزة المخابرات. حتى الجامعة صار لها أسوار وحرس جامعي ومفرزة مخابرات وتدريب عسكري ومعسكرات إجبارية.
أن تكون مطلوباً وتعيش حياتك متخفّياً يعني أنك في حمأة المنفى أو في ربقة السجن. أمّا الخدمة العسكرية الإلزامية فإنها واحدة من أفظع طرق الترويض والإذلال والعبودية، أعني أنها واحدة من أفظع تجلّيات السجن أو المنفى.
يحدثونك عن روعة وعظمة سوريا فتتمنى أن تذهب إليها وأنت تعيش فيها، وكذلك الأمر مع بلاد الرافدين وتونس الخضراء ولبنان يا قطعة سما ومصر أم الدنيا. كلام كبير وأوصاف غرائبية ساحرة لهذه الأوطان المسجونة بأنظمتها والمنفية بشعوبها.
وإذا افترضنا صِحةَ ما تحدِّثُنا به كتب التاريخ عن أمجادنا الغابرة، فذلك يعني أننا منذ قرون بعيدة، نعيش على نقيض تلك الأمجاد وعلى أنقاضها، حيث نسمع ونقرأ ونزدرد، في نهاراتنا وليالينا، شعارات مسحوبة الدم والدسم، وفظاعات تدعونا كلَّ يوم عشرَ صلوات كافرة إلى التمرد والثورة على هذا المنفى أو السجن الممتد من المحيط “الهادر” في الشعارات إلى الخليج “الثائر” في الشعارات أيضاً.
* * *
كلما عبرت في خاطري فكرةُ أو لفظةُ السجن استحضرت معها تلقائياً فكرة أو لفظة المنفى، حتى لكأنهما توأمان يأبيان فكاكاً.
ولهذا سأختم ما أريد في هذا السياق ببعض الأمثلة المتفرقة مما كتبته خلال سجني ومنفاي اللذين ما كان احتمالهما بالنسبة لي ممكناً لولا الشعر:
” لمَّ الأسيرُ كوابيسهُ وهْوَ يُضمرُ منفى
ولمَّ صديقي أساريرهُ من عياداتِ باريسَ وهو يَعدُّ احتمالاتهِ
أتكون الحياة قراراً رخيماً يردُّ الغطاءَ عليه جوابٌ من الموت”؟!
“إلّا أنَّ عينيك سبيلان إلى المنفى
الذي يزحمني الآن بأصناف السجونْ”.
“الحرية وطن، وبلادي منفى، وأنا نقيضي
تلك هي إفادتي مكتوبةً بحليب أمي
وممهورةً بكل ما لديَّ من قيود”.
“كأنَّ خُطايَ خَطاياي
طوبى لمن لم يكن أبداً يا بلادي التي أمطرتْ ما تشاءُ
دماً أخضراً ودموعاً ومغفرةً وهْيَ تضمر سجناً ومنفى”.
“هل بين سجنٍ ومنفى سوى رايةٍ من عَدَمْ”؟
“في المنفى.. أنت الذي يدور حول اللعنة
أما في السجن.. فإن اللعنة هي التي تدور حولك”.
“والذي مثلي يرى الله جميلاً وبعيدا
وعلى سِدرته سبعةُ ألوانٍ تراهْ
إنها لامرأةٍ خالصةِ المعنى
ولا بدَّ لها أن تأخذ المنفى من السجنِ أو السجنَ من المنفى
لعلَّ الله لا ينأى ولا يبقى وحيدا”.
“يأوي العراق إلى العراق فلا يراهُ/ إلى سواهُ فلا يراهُ
كأنه لم يقرأ المنفى ولم يحفظ معلّقة السجون
ولم يغِبْ عن شمسه ما غابْ”!
“فهل وصل الربُّ باديةَ الشام
أم خذلته الجيوش التي كَمَنَتْ خلف أسمائه
واستباحته سبحانَه
أم تبدّل معنى الحكيمِ فآثر شوكاً على الورد
أستغفر الله قنصاً وقصفا/ وسجناً ومنفى”.
مجلة الدراسات الفلسطينية- العدد 136 – خريف 2023