علي سفر: عن المدّاحين (الرواديد) ولطميّاتهم…البروباغندا الدينية في الحرب السورية

شكلت الحرب السورية وتحولاتها، مادة ثرية لباحثين قاربوا تفاصيلها ودرسوا أدوار فاعليها، وكذلك قرأوا طبيعة الأسلحة التي استخدمت فيها، ونظروا في أدوات أساسية أضافها المتصارعون لعدّتهم، في سبيل تعزيز مواقعهم، وجلب قوة بشرية ساهمت في جبهاتهم.

وضمن ما سبق، ركز كثيرون على مشهد الثورة، وقاربوا مسارها ومنعرجاتها، وصولاً إلى التدقيق في كل قطع لوحتها، وعبر هذا المسعى لم يخلُ رف مكتبة الأبحاث من دراسات قليلة نسبياً حاولت مقاربة الوجوه المتعددة للمنتجات الفنية المساهمة في صلب المواجهة الإعلامية التعبوية، خصوصاً ما يستهدف تحشيد الأفراد والجماعات. ويمكن في هذا المجال ملاحظة ندرة الدراسات المدققة في الجوانب الدينية للشعارات والأغاني المطروحة أمام جمهور الثائرين من أجل دفعهم إلى المساهمة في معركة إسقاط النظام.

وفي الوقت نفسه ظلّ مشهد النظام وحلفائه خالياً تقريباً من الأبحاث المشابهة، إذ لم تتوافر كما يجب، حتى الآن، دراسات تنظر في الأدوات التي وضعتها إدارة حرب النظام المعنوية في أيدي وسائله الإعلامية، لا سيما منها الأغاني المحرّضة على المشاركة في القتال. وما ينطبق على النظام ينطبق أيضاً على حليفيه الإيراني والروسي.

عقيدة الجيش الروسي تتبع منظومة احترافية تقليدية، تبنى على ولاء الجنود والضباط للدولة وللنظام الحاكم، لم يشوشها سعي بوتين لأن يضفي على تدخله في سوريا ملامح دينية من نوع ما. لكن، لم تتحول مَشاهد ظهر فيها بعض رجال الدين المسيحيون الأرثوذكس يباركون طائرات “السوخوي”، إلى نمط شائع، ولعل التقليل من هذه الممارسات، يعود -ربما- إلى محاولة مدروسة لدرء إظهار التدخل على أنه فعل ديني، لئلا يربط بحساسية عالية لدى المسلمين تجاه الغرب، مرتبطة بخلفيات صراعهم مع قوات أجنبية غزت بلادهم تحت راية دينية مسيحية في الحروب الصليبية.

وفي الجهة نفسها، أي جبهة القوى الداعمة لنظام بشار الأسد، برزت، وبشكل فاقع، أدوات دعائية استخدمها الإيرانيون في سياق تدخلهم في الصراع السوري المحلي، حيث شكلت قضية الدفاع عن المراقد المقدسة في سوريا، الحجة الأهم بين الحجج التي دفعت بها القيادة الإيرانية على طاولة البيت في كل عائلة شيعية تتمسك بقداسة رموز آل البيت.

فتَحتَ شعار “لن تُسبى زينب مرتين”، جُيشت جموع مليشيات طائفية، ساهمت في القتال ضد الفصائل “التكفيرية”، ولم تلتزم بحدود مهام الحفاظ على المقامات، بل مضت لتصبح جزءاً من أدوات تثبيت سلطة الأسد وإبادة معارضيه، مسلحين كانوا أم مدنيين.

وفي مسار تفكيك أدوات أيديولوجية عملت عليها إيران في تدخلها في سوريا، يأتي كتاب الباحث التركي، آدم يلماز، “المنشدون الدينيون… جيش البروباغندا الإيرانية في الحرب في سوريا”، الصادر حديثاً عن دار (هارماتن) الفرنسية، لينظر في ظاهرة المداحين “الرواديد” الذين رافقوا المليشيات الرئيسية المساهمة في القتال، وتحولوا بدورهم إلى مليشيا قائمة بذاتها، رغم توزع أفرادها على مجموعات انتشرت في كل الأراضي السورية.

ينطلق يلماز في تمهيده لدراسة فعالية هؤلاء، من التاريخ الإسلامي، لا سيما الانقسام الشيعي السني، وبالتحديد من معركة كربلاء حيث قُتل سبط النبي، الحسين بن علي، الإمام الثالث عند الشيعة، مع عدد من أفراد آل البيت، على يد جيش الخليفة الأموي يزيد بن معاوية، وما تبع ذلك الحدث من ممارسات أهانت من نجوا من المذبحة. فشكلت هذه الوقائع ذاكرة مؤلمة لدى شيعة علي بن أبي طالب، جرى إحياء ذكراها سنوياً، ليس من أجل تذكرها بوصفها تجديداً للعقيدة الإيمانية، بل أيضاً من زاوية أهميتها في عملية التلاصق والتعاضد والتضامن بين أتباع المذهب أنفسهم.

وقد استُخدمتْ الوسائل الأكثر تأثيراً في نفوس المشاركين، وهي أشعار أناشيد، تحيي الذكرى لدى المتلقين، وتبنى على تصعيد مشاعرهم الموروثة، وعلى وجه الخصوص الإحساس بالفجيعة والندم على عدم مناصرة أفراد الأسرة “الشهداء” وأيضاً الأطفال والنساء اللواتي تم أسرهم/نّ وسبيهم/نّ!

ومن خلال العودة إلى محطات رئيسة في تاريخ الشيعة والدول والإمارات التي اتبعت مذهبهم، يكشف تدقيق الباحث أنّ نشوء فئة المداحين لم يتبع فقط المحرض الديني، بل إن تكريس الظاهرة ودخولها المجال العام في المجتمعات كان أمراً مرتبطاً بالصراعات السياسية، وبالشأن الاقتصادي أيضاً. وهذا ما يشرحه يلماز في الفصول الأولى للكتاب، حيث يفكك التكوين العام للمداحين في المشهد الإيراني، بعد أن يُظهر اعتماد سلطة المرشد الأعلى عليهم في تثبيت نفوذه داخلياً. وينظر في فئاتهم، ومواردهم الاقتصادية العالية، وتمدّد أدوارهم، حتى تجاوزت حدود الديني التقليدي، فصاروا يشاركون -رغم عدم توافر المقومات- في الإرشاد والتنظير، والتعريض بالسلطات الشرعية، وذلك بالاستناد إلى حظوتهم عند الخامنئي الذي قربهم إليه، ولم يلغ اجتماعه الدوري معهم، حتى في ظل الإغلاق العام، أثناء فترة انتشار وباء الكورونا.

يتوسع آدم يلماز في شرح علاقة جمعت بين الرواديد كظاهرة، وبين حروب وأزمات خاضتها إيران، فيبرز مساهماتهم التحريضية خلال فترة “الدفاع المقدس” أي في الحرب العراقية الإيرانية، كما يُظهر أنهم كانوا فاعلين في قمع التيار الإصلاحي داخلياً، عبر تصويرهم للمعارضين على أنهم عملاء يشبهون أعداء الحسين!

كل ما سبق، فردَهُ الباحث أمام القارئ، ليصنع أرضية لفهم دور رُسم لهؤلاء في الحرب السورية، حيث اشتغلت الآلة الدعائية على إبراز تهديدات غير مثبتة، تحاصر المقامات، لا سيما السيدة زينب والسيدة رقية في دمشق، وجعلها مرادفاً لما تحفظه الذاكرة الشيعية من مصائب حلت بمقدساتها. وهو ما خلق موجة تطوع كبيرة، في سبيل الدفاع عن المراقد المقدسة، عززتها أقوال للخامنئي شرحت للجمهور أهمية الذهاب للقتال في سوريا، عبر وضعها في مراتب فائقة الأهمية للأمن القومي الإيراني، في وعي المداحين، الذين تكفلوا بدورهم بإيصاله إلى عقول الجمهور، فينقل يلماز عن أحد الرواديد ممن قابلهم قوله: “قال مرشدنا إننا إذا لم نذهب إلى سوريا، فسنقاتل العدو في همدان وكرمانشاه”.

تَتَبعُ مساهمات الرواديد مع الفصائل الطائفية، أسس له الباحث عبر نظرة تفصيلية في تاريخ علاقة نظام الأسد الأب مع الخامنئي في مرحلة ما قبل الثورة الإيرانية في العام 1979، لا سيما تقديم سوريا الأسدية الدعم العسكري والسياسي لطهران طيلة حربها مع بغداد، فغطى، في الإطارين التاريخي والديني، الدوافع الأساسية المحركة للسياسي. لكن تأسيسه بحثه على قراءة أنثروبولوجية للطقوس الدينية، يضع الرموز الشيعية في مواضعها المؤثرة، والتي تتماثل مع ما يشبهها في الظواهر الدينية عبر التاريخ. وهو من خلال هذا، يقوم بدارسة فعالية المُنتج الذي يقدمه الرواديد، كتفاصيل مشهدية، وأيضاً كخطاب أيديولوجي، وذلك عبر الانطلاق من شهادات عشرات مداحين الذين التقاهم وسجّل حواراته معهم، لتشكل المقاطع المنشورة منها مادة تستحق أن يتوقف عندها القارئ، طالما أنها تبرز وبشكل جلي كيف تتمكن البروباغندا من التأثير في الأفراد والجماعات، فتدفع بهم إلى مصائر كارثية، من دون إغفال دوافع مصلحية لبعضهم، لا تتعدى الحصول على الجعالات هنا أو هناك.

تجتمع في منهجية عمل آدم يلماز، أدوات مهمة، كالقراءة التاريخية السياسية، والبحث الميداني، وأدوات الدراسة الأنثروبولوجية، بالإضافة إلى استخدامه لغة سلسلة، غير معقدة، في شرح التفاصيل، وبما يسهل وصول المحتوى إلى القارئ، الذي لن يلحظ كثيراً أن ما بين يديه، هو في أصله بحث علمي، أنجزه صاحبه في سبيل الحصول على درجة الماجستير من مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في باريس.

One Reply to “علي سفر: عن المدّاحين (الرواديد) ولطميّاتهم…البروباغندا الدينية في الحرب السورية”

Comments are closed.