أسى

ناسان إسبر (كاتب وقاص وفنان تشكيلي سوري.)

مع آخر أشجار الخريف التي رمت أوراقها رميت أوراقي، ثماري ناضجة ولا من يجني هذا الحب الذي يذبل داخلي.

عرفتكَ عندما كانت الكوارث خبزنا اليومي، وكان لنظراتك الضائعة طعم حلو بعد جوعنا الطويل، حينما التقينا أول مرة أثناء ذهابي إلى العمل، خطفَت عيناك الساهمتان عينيَّ، ولفتَ انتباهي أن لا شيء يلفتُ انتباهك؛ لم ترَني على مر الأيام في المرات العديدة التي تصادفنا بها، حتى أغضبتني فاصطدمتُ بك عمداً وصرخت في وجهك: هيييه، انتبه.
في الأيام التالية تجاهلتكَ بينما كنتَ ترمقني بعيون مقطبة، وهذه التقطيبة تضاءلت يوماً بعد يوم حتى اضمحلّت وحلّت مكانها نظرات رانية، الألفة التي عذبت فؤادي قد نالت من فؤادك أخيراً أيها الأعشى.

صار للصباحات الناعسة طعم الرحيق عندما نلتقي وتمرّ أمام عينيّ قلباً لقلب، يترك المرور ألم الفقدان وجرعة النشوة معاً، فأقضي باقي نهاري وقد شحنتني حرارة تشد جوارحي حتى انتبهت الزميلات في العمل فهمسن: “أنتِ مشرقة هذه الأيام” و”لخدّيك ألوان الورد” و”أنت تنثرين بهجة حيثما مررتِ”.

أنا مدمنة دون أن أتعاطى، وألفتي بك انقلبت جاذبية، فهل تنوي إنقاذي من السقوط في متاهة الأمل؟ وهل ستتغلب الرغبة والغبطة التي تمرح بين عينيك عندما نلتقي على التردد وتبادر؟

حسناً، وماذا بعد؟ أستقضي أيامك تحدق بي كلما التقينا؟ خطرت ببالي الحكمة التي تقول: “لو إن المرأة انتظرتِ الرجل كي يبادر لانقرض الجنس البشري”.

ولكن.. الآن.. أنا أمر قربك دون أن تراني، عيناك قلقتان، تتفحصان المارة في كل حدب وصوب، أعرف أنك تبحث عني، جعّدتْ حاجبيك تقطيبة عذبة زادت من هيامي بك.

الحكاية وما فيها أن أحد جيراننا أسرّ إلى والدي قائلاً: “ابنتك تفتن الرجال، من الأفضل أن تتحجب حتى نتجنب الغواية والمشاكل”؛ هكذا هو الأمر، تحجبتُ، ومنذ اليوم الأول لمروري من جديد قربك في الصباح الباكر نحو العمل لم ترني، ولم تنتبه إليّ، كنت تبحث عني كما كنتُ في الماضي، لم تكن ترى غيري في الطريق، والآن اختفيتُ من حياتكَ مع أني ما زلت في أعماقها.

مرّ يوم، يومان، ثلاثة أيام وأنا أمر أمامكَ دون أن تراني؛ قررتُ أن أصطدم بك كما فعلتُ سابقاً وأصرخ في وجهك: هيييه، انتبه.

في اليوم الرابع لم تأتِ، قطعتُ الطريق أول مرة، وعدتُ وقطعته مرة ثانية وأنا آمل أن تأتي، وثالثة أخّرتني عن العمل دون أن تأتي، ودون أن تأتي بعدها قط.

مع آخر أشجار الخريف التي رمت أوراقها رميت أوراقي، يقتلني الأسى ويحرق الندم حلقي.. ثماري ناضجة ولا من يجني هذا الحب الذي يذبل في داخلي.