بعد ساعة واحدة

حسن رحيم (قاص عراقي، أصدر عملين: ثم نبدأ بالصراخ – مجموعة قصصية، ومملكة السعادة – حكايات في أدب الطفل.)

أوراق متناثرة تحملُ عبق الماضي، صوت القنابل شوَّه منظر الأرض، أكمِلُ مسيري بعد أن دمس الظلام، واضعاً يدَيَّ في جيوبي، مطأطئَ الرأس خشيةَ أن يراني أحد، لم تعقْني العتمة عن التقدُّم، أخذْتُ بالسير إلى بيت صديق لي كان معي على ساتر المعركة لأحمل لهم راتبه الذي تسلَّمه قبل المعركة بأسبوع، لم أحتجْ إلى من يدلُّني على مكانه، فصراخ من فجعوا على فقده كفيل بذلك، وصلت إلى زقاق، اقتربت من الباب لأرى نفسي قبل خمسة عشر عاماً واقفًا تحت النافذة ألقي لها أبيات إيليا أبو ماضي:

أَيُّ شَيءٍ في العيدِ أُهدي إِلَيكِ

يا مَلاكي وَكُلُّ شَيءٍ لَدَيكِ

أَسِوارًا أَم دُملجًا مِن نُضارٍ…

أردت إكمال البيت الثاني لكني لم أستطع، فقد انهال عليَّ ثلاثة رجال بالضَّرب والسُّباب، لم أستطعْ أن أُخفي شهقتي عندما أمسك بي أحدهم من ذقني قائلاً: “صاير رجال”، وركلني على خصيتيَّ، تركوني طريحاً أتأوَّه من ألمي، أراقب دموعها وشهقتها وهي تنظر إليَّ مُسجّى، قاطعني صوت الباب الذي أتَّكئ عليه وهو يُفتح، خشيتُ أن تراني، أخذْتُ أركض بسرعة كمن يطلقون نحوَه الرصاص، لم يوقفْني الحائط أو أسقط على الأرض من التعب، ولكني فطنْتُ إلى صوت صراخ وعويل امرأة كبيرة تركض باتجاهي، خلفها يركض عدد من الرجال والنساء، وقفَتْ لاهثةً في منتصف الشارع، شعرْتُ وكأنها ستحدثني بعيونها المحمرة من الدموع وصوتها المرتجف تصرخ عالياً “بالله عليكم أين ولدي.. ولدي.. ولدي”، لم أتحمَّل كثيراً، وددْتُ لو أستطيع احتضانها، ولكن صوتاً ما من البعيد جداً أعادني إلى تلك الغرفة، لم أعد أستطيع تحريك نفسي، نظرت إلى الساعة وجدتها الواحدة بعد منتصف الليل، زوجتي تسند رأسها على الحائط وتبكي لِمَ؟! أختي تجلس منطوية كأنّها فقدت شيئاً ما، أمي تضع صورتي في حجرها حين تقرأ القرآن، هل حصل مكروه؟

– ماذا أخبرهم الطبيب يا ترى؟! بالله عليكم أجيبوا؟ أمّي كعادتها لا ترد على أحد وهي تقرأ القرآن، تقول: “إنه لا يجوز أن نقطع كلام الله لنكلِّم بعضنا”. حرَّرتُ نفسي بصعوبة، بخطوات متثاقلة اقتربت منها، جثوتُ على ركبتي، وضعتُ يدي على كتفها:

– لِمَ كل هذا البكاء؟ قابلتْ سؤالي ببكاء أشدّ.

التفتُ بحيرة…

– سناء حبيبتي، ما الذي جعل أمَّك بهذه الحال، ماذا يجري هنا؟!

شبح النُّعاس أحاط بها بعد شعورها المرير بالوَحدة، ملأتْ الحسرة صدري، لا أدري لماذا لا يجيبون؟!

أردت أن أصرخ بوجهها لأنها تركتْني وذهبتْ دون أن تتكلم، خرجْتُ من المنزل والحزن يتخلَّل جوارحي، شاهدْتُ جاري الذي كان بمثابة أبي، كم أكنُّ الحب لهذا الرجل الذي ربَّاني في بيته، ولكن هو الآخر لم يسأل عما بي؟!

بعد أن أحاط بي التعب وجدْتُ نفسي أمام بيت صديقي الذي فتح الباب مسرعاً إلى سيارته، لم يعر وجودي أي اهتمام، شعرْتُ كأنني جُرحْتُ طولاً وعرضاً، لماذا لا يسمعني أحد؟ لماذا لا يريدون إفهامي ما يحصل؟

صرخْتُ بأعلى صوتي… ولكن ليس هناك من يسمع صراخي. بعد أن شعرْتُ بالتعب، أسندْتُ ظهري إلى الحائط، حسراتي مليئة بالأسى، الناس تمرُّ دون أن تكترث لوجودي، حتّى البقَّال صديقي الذي كان ينتظر إجازتي بفارغ الصبر ليجلس معي لم يرمقْني ولو بنظرة، رغم مكانه المكشوف أمامي، شعوري بالنكران أخذ يزداد أكثر، أحدِّق في السماء بعيون تملؤها الدموع، أتَّجه نحو الجسر، ألقي نظرة في النهر، أتأمله بهدوء، أطبق أجفاني والدموع تنساب بحرقة وتحفر أخاديدها على وجهي الشاحب، صوت اخترق سمعي، رددت الجدران صداه “لقد أفاق المريض”.