سجون ومخيّمات وعشّاق لاجئون

-على وقع الذكريات وتفسير الرؤى-

(إلى علي الشّهابي)

وحيد نادر

شاعرٌ ومترجم وأستاذ جامعيّ من أصل سوريّ يعيش في ألمانيا. حاصل على جائزة الشّعر في الجامعات السوريّة عام 1978، وعلى جائزة معهد غوته للترجمة الاحترافيّة/ معرض كتاب لايبزغ عام 2012. وهو عضو اتحاد الكتّاب الألمان ورابطة الكتّاب السوريين، يكتب باللّغتين: العربيّة والألمانيّة، وله أربعة دواوين شعرية والكثير من الترجمات المتنوعة.

1

كنتُ طالباً، وكان بيتي في حمص بيتَكَ، ملجأ يختبئ خلف نفسه وتحيط به أسوارٌ من عيون العشق، والأسوار لها مفاتيح خضر تختبئ في النعناع، والنعناع لا يضيع، منْ أضاعه تسلّق أيادي اللبلاب أو قفز فوق أحجار الهوى المرصوفة كالأبجديّة أمام الحديقة، وكنتَ عاشقاً يا علي، وكان الجدار ينشقّ أمام عصا الشوق في يدك. 

كنتُ، إن جئتُ إلى دمشق، ألجأ إليك في فلسطين، حيث يسكن المخيّم.

“فرع فلسطين أقرب إلينا من حبل الوريد”، قلتَ لي، لمن لا يعرف أوردة الدم الأسود في دمشق.

ما اشتقتُ مرّة إلى فلسطين إلاّ زرتُك، جلستُ إليك وأنت تسكبُ الشّاي ساخناً كذكرى اللجوء، أحمر في كؤوس من صنع حوش بلاس. أستمعتُ إلى صوتك وهو يحرّر السماوات من أوهامها والناس من قيود الذهب والياسمين، قلتَ: “لنشرب قبل أن نبردَ”، قبل أن “تطقّ الكاساتُ الوطنيّة” قلتُ أنا، وتابعتُ: “القرفةُ تغسل الشّاي، تستحمّ في ريح روحها وتنقّي في نفسها النفسَ!”، أجبتَ: “هواء لوبية يشرب ماء البحيرة في سماء طبريّا.”

2

التجأتُ إليكَ، يوم نزحتُ من جبال طرطوس إلى عشوائيّة الشّام في الشام، يوم بات بيتُكَ بيتي وقلنا: “فلسطين سوريّة، مَن يلتجئُ إلى مَنْ؟”

قلتَ: “لنذهب إلى دمّر، صديقنا الطيراويّ يملك بيتاً، يؤجّرك ويسكنُ عندكَ، لأنّ سترته مجيّبةٌ ببطحات العرق، اقتسمها معه واحذرا الحاجّة، زوجته!”  

في دمّر، التي أسميتها الطّيرة، لجأ رفاق إلينا، اختبؤوا بين كثرة الأبواب في ظلال الأزقّة، والأزقّة تفضي إلى الضجيج، والضجيج إلى الجيران وكثرة الأولاد وروائح البرغل وشعارات البعث في مدارس جارة. لذلك لم تجد المخابرات، يوم داهمتْ تلك الظلال، سوى شغب الظلمة في وحشة الزنقة، فضرب جبنُ رجالها سيّدة البيت وأغمي على جمالها وخاف الأولاد أن يستيقظوا عند خشوع الصمت في بكاء أمّهم.

مازلتُ أشتاق إلى اللجوء في المخيّم، لكنّ المخيّمات تركت أماكنها يا علي، هاجرت لجأت إلى الدّمار وغابت، فرغم البعد عن سوريّة، معي اليوم أكثر من نصفها، نحن لاجئون يا علي، ليس في دمشق، فدمشق أصبحت كلّ مكان خارجها: قيعان البحار وبطون الأسماك والسفن الغارقة.

أما زلت نزيلَ فروع فلسطين، أما زالت أحلامك تطال تفّاح الجولان؟

3

كنتُ أشعر يوم اعتقالك، أنّ فلسطين اختفت، فأذهب إلى المخيم، ولا أجده. 

تخبرني: “ما أكثر الرفاق في المهاجع، وما أقلّ مدرّسي اللّغة الإنكليزيّة هناك، إنّهم يحتاجونني!”، وحين تبتسم الجوكوندا خلفك فوق حزن الحائط، لا نرى آذانه.

تقول: “ينقلونني، ينقلون ما بقي من المدرّس فيّ إلى صيدنايا أحياناً، فورشات اللّغة هناك أكبر وأكثر عدداً.”

كم كان بودّي أن أسألك عن حاجة السّجن للّغات وعن التحقيق: فهل يجري التحقيق باللّغة التي يختارها النزيل؟

“لا يملكون من اللغات سوى الكرسي النازيّ، وكراسي التعذيب تتكلّم ألسنة الطغاة جميعاً.”، ابتسمتَ، فانطفأتْ لفافةُ التبغ في يدك.

4

أتذكّرُ يومَ زرتَ قريتي، يوم جلسنا مع الأصدقاء فوق غيم الشّرفة، حيث فاحت غرفتي بالضوء بعد أن طلاها جمالا اليرموك، ربيع ويانس، بالأبيض. رويتُ لك كيف جاءت أمّي، وأرشدتْهما إلى بقعٍ لون بهتت ووجب إعادة دهنها ثانية وثالثة: “لكنّ (جمال وجمال) لم يفهما أوامر أمّي الفينيقيّة. فهرع ثالثهما، وكان جمالاً صالحاً للترجمة. ففي ووجهه أوغاريت وبيديه يحرّك (إيل) يترجم إيحاءات الأسئلة والتفاتات التعجّب، ثمّ يفلتُ الجدران ضاجّةً بالضّحك.”

حين سألتَني عن قمم الجبال التي تحرس القرية، غنّى صوتي: “هذا جبل الشفشاف، وذاك ضهر الشيخ علي، وتلك البيضة بيضاء لا تشبه إلاّ نفسها، وهذا الذي خلفنا جبلٌ بستان، وهنا يسارنا النبي متّى وينابيع صدر لا تحصى. أمّا الوادي فنبع من حمرة القلب يحرسه جرف النسور وخلفه وادٍ، على جانبيه يشخر الماء وفي بطنه يتلاطم السمك، ومياهه قريبة من جذور شجر الجوز، له طعمٌ قالت عنه جدّتي: جنّة، مزّ لا حامض ولا مرّ، تغبّ وتغبّ، يشبع الكوثر من شفتيك ولا تشبع!”

قصصتُ عليكَ قصص المزارات الموزّعة على رؤوس التلال: “لم تكن قلاع لصوص التهريب والنهب قد سكنتها يومئذٍ، كانت قمماً من بخّور، لا يخيف جمالُها الآلهة، لكنّا نخافُها.”

كان ليلاً، وكنّا نراقب الشّهب تسقط وتغيب في عمق الوديان. وحين طلع القمر، رحتُ أُفرش أمامك سطوحَ البيوت التي تسكنها عشيقاتي: “هذا بيت سنبلة وذاك بيت لوزيّة وهناك بيت رمّانة وفي عبّ الوادي بيت لوبية.”

غاب نصف النجوم لحظة طلوع القمر، فرحنا ننصتُ إلى ضفادع النهر، نلغو هسيساً يهبّ مع جنيّات النسم في عرائش العنب، فينعش صدورها وصدورنا حين يرمي لنا عناقيد كالنهود، سكّر وسَكَر.

مشينا مع القمر إلى “ضهر الشيخ علي”، دخلنا إلى مقام وليّ الربّ، ارتجفنا إلاّ أنت، قلتَ: “ظلام قبور، حكّوا راحات أيديكم بخدود الظلمة المكفهرّة وأشعلوا البخّور!”

ارتجف العتم وتمايلت أشباح الضوء على قمر القبّة الكرويّة، قلتَ: “أعتقد أنّ الشيخ سعيد بأنوار زيارتنا، فاسمي من اسمه.”

صباح تلك الليلة زارني الشيخ علي، جاءني في المنام وأملى عليّ لقاءنا، فدوّنت ذلك النّور فوق مخمل الرؤيا:

“أسمعُ أصواتنا في بريّة ضهر الزعتر والبلاّن، أصغي إلى تصفيق أغصان الزّيتون لقدومنا وأرى أعشاب الزّوفا تداعب نباتات الزّوبع وتغازل الطيّون. ظلال ملائكةٍ في الغيم تهدّئ من روع نباتات الكيوي في الحرّ وعناقيد العنب توشوشُ لطيور السّماني: اصفراري شوق! أرى القبور تخرج من حوّار الكلس، تسير مع الحقول نائمة تصلّي وتحضننا، ينحني ترابُها فوق أجسادنا، تأخذ أزهار النحل بتلابيبنا، تقعدنا إليها بين شجيرات الرّيحان تحت دوالٍ تتسلّق السّنديان، وأسمع أنهاراً في البعد: “أنا آدم وهذا زرعي، كلوا من بلّوطات ثماره، احصدوا أعشابي، اشربوا المتّة بعرق التين ويانسون الندى!”

هل الجلوس مع قبور الحلم حياة؟

5

في الحلم تكلّمتُ إليكما/علي وعلي، فرشت له/لك ذكرياتي مثل سجاجيد من زنبق وأفصحتُ:

“كنتُ ألتجئ إليكَ يوم تضيق بي البريّة، أجلسُ وتجلس أنثاي معي بين يديك، نشكو إليك اعتمادنا عليك، فأرى حجارتك تبتسم، كأنّها أبيات شعر السماء تشرح صدرينا المجتمعَين على موقد لهاثِهما. لم تبخل علينا بفرح القاف والدال والسين، أيّها القدُس المثلّث كالرّحم، علّمتنا القبل والأنين وأفرحتكَ دموع لقائاتنا تدرج فوق خدودنا كالحجل، ثمّ تسقط فوق تراب جسدك. همستَ لنا: “هديتي في جلبابي الأخضر، خذاها واذهبا الآن!”

تعطيني الصبيّة خصرها، أزنّره بذراعي، ونخرج ماشين صوب الخلف. كان وجهك يفرش الضوء فوق لحيتيّ الطريق الربيعيّتين، وكانت القطع النقديّة تخضرّ في خلعتك، فنغسلها بماء شفاهنا ونفركها بعرق أيدينا، ثمّ نبادلها في حانوت القرية بالسجائر والعلكة.

هو وقع الذكريات وتفسير الرؤى، هي أشباح تراودني الآن يا علي، فلغاتي تغسل قبوري السوريّة، تلفّها بأوغاريت والحرير كي لا أصبح أعجميّاً وأقرأ أحلامي بغير العربيّة.  لماذا لم تحسّنوا لغة خاصة بالسجون لأجيالنا القادمة، لغة لا تفهمها الكاميرات ولا يفسّرها الحرّاس والعسس؟ أين يخرج طلاّب سجنك بعد الدرس وأين تقضون استراحاتكم في الحبس بعد الحبس؟ ما معنى الاستراحة في لغة احتلالات سوريّة؟ متى ستسرّح بلادنا سراحاً جميلاً؟ متى يتقاعد السوريّ في السجن، بعد السجن، قبل السجن؟ ألا تشيب الغربان على النوافذ؟ هل تبصرون العذراء في مسيح غيوم تمرّ/غيوم ستمرّ، وهل غزالات الصبح سوداء في صيدنايا؟