الروائي والشاعر السوري إبراهيم الخليل: القصيدة المشتركة بحث عن الرغبة في الجديد والتجديد

  

  حوار: سفر عيسى *

* وردة النص:

-ماذا تقول الزرازيرللثلج في الشتاء ؟..

ماذا يقول الجمر النائم في فرو الرماد / لأنثى تنام في جبة العاشق ؟

ماذا يقول خرز العشق الأزرق في لون الماء ؟

وأنت صلاة الماء / وأصابعك متهمة بتسريح شعر الريح

وأنا أشرب قهوتي وأنتظر طيور الحمام

فمك وردة السؤال، سيدة الشمال والأسماء، وأنت القصيدة، فبأي لغة أترجم الماء؟!

مقدمة : *إنه الأدب بكل ما يعنيه من تجليات، تموت شعوب وتندثر ممالك، ويبقى حياً تحفظه الصدور جيلاً عن جيل، كما تحافظ عليه نقوش الحجر والطين في المعابد والقصور والأوابد. وكذا الأوراق والجدران، يتحدى الأزمنة والفناء، وكأنه الخلود يرسم صورة لعصره وناسه، ويؤرخ لحياتهم، ويظل المقرب والمحتفى به. والحديث مع كاتب هو حديث عن تجربته في الحياة، التي بدورها تلقي الظلال على نصوصه، بل وتتعالق معها. وهذه التجربة لها صلة مع المكان والزمان، وسيرة الكائن البشري في كل تجلياته.

 واليوم، نحن في زمن استثنائي يحمل تحولات وتطورات ومفاهيم، فرضتها على الجميع حيث الحرب والدمار والموت. فلم يعد كل شيء كما كان، ولن يعود. إنه القادم الجديد .

وحوارنا اليوم في الرقة التي على الفرات، ونجمة الهلال الخصيب، هذه المدينة الولود التي تعدّ من مدن الأفق الجديد في الشمال السوري وخاصة في الفن والأدب والمسرح .

 مقابلتنا اليوم مع الكاتب السوري الكبير الأستاذ الجليل إبراهيم الخليل :

الروائي والقاص والشاعر، وكاتب الأنموذج الأدبي الجديد ( نصوص عابرة للأشكال ) وقد صدرت أول مجموعة منه عن وزارة الثقافة بعنوان (سيناريوهات الجسد ).

   متهمة بالشعر أنثاي ..

   متهم بالعشق أناي ..

س1 – ماذا يعني لك المكان في بلد من الأطراف في الشمال السوري؟

– يعني الرقة، لأن العالم على رأي حمزاتوف ( يبدأ من عتبة بيتي ). وبيتي في الرقة، المفتوح على الناس والشجر والماء والحجر، وتحت كل حجر نقش، أو إله. وفي كل زقاق أو شارع أصوات المقيمين أو العابرين، حيث يثرثر جبل البشري بسيرة الضباع وبنات آوى، والبدو والطير الذي يحوم في ذلك الفيض الأزرق، يغازل خضرة الشجيرات الرعوية، وأجراس العاقول الحمراء في ذلك الزمن الجميل. ومن أجراس القطن الأبيضن ورحلة الرعاة من الجزيرة السورية إلى الشامية، وبالعكس، يدفعون قطعانهم وكلابهم، وأجراسهم تعلن قيامة جديدة، يموت الناس وتبقى أخبارهم وأصواتهم والأسوار والأوابد الأثرية ، تنقل لنا رسائلهم ونحن صامتون مذهولون .

  • والمرأة أين هي في كل ذلك ؟

النسوة بعباءاتهن السود، وأوشام الحناء والشذر الأزرق، تنقشه الغجريات على الوجوه والأكف، وقلوبهن الصغيرة تنقر الصدور، كعصافير تنوي الطيران إلى العالم الواسع .

هو الفرات، وهي الرقة، تمنحهن أسماء أميرات مازال التاريخ يحتفظ بأسمائهن: عشتار وإنانا وشاميرام، والفارعة الشيبانية، وماريا الغسانية .

*

حيث تركت قلبي هناك وطني..

س2- المدن، كمل يقول ابن خلدون بسكانها، فماذا عن الرقة وعن الحركة الأدبية فيها ؟

– الرقة من أقدم وأعرق المدن في العالم لكنها دائماً منذورة للخراب الذي يلاحقها على مر العصور ثم تعاود الانبعاث كالعنقاء وهي من مدن الأفق الجديد وهي ولود ومنجبة أبداً

والرقة بعد الأربعينات لعبت دوراً هاماً في المشهد الثقافي والتشكيلي في حياة المجتمع السوري ففي الأدب مرت الحركة الثقافية بأدوار تصاعدت وتنامت عبر أجيال من المبدعين تركوا بصماتهم واضحة ضمن أجيال لكل منها خصوصيته وتوجهاته ورؤاه السياسية والاجتماعية وشروطه الفنية منها ما هو متأثر بالواقعية الاشتراكية أو الوجودية ومنها ما كان متأثراً بأشكال الحداثة أو كان حريصاً على أساليب التراث في اللغة والبلاغة فزاوج بين المقالة والقصة فيما يسمى بالمقالة القصصية

وعلى الرغم من حداثة القصة والرواية في أدبنا فلقد أخذ هذا مكانة لائقة في منجزنا الأدبي حتى أصبحت الرواية ملحمة القرن الحادي والعشرين مع الأخذ بما أنجز من أعمال أواخر القرن الماضي .

*

   هذه صورتك والتبغ وفنجان القهوة .. 

   وهذا أنا أنتظرك يا امرأة أنثى .. 

   أسميك عشقي وأسميك الرقة ..

س3- لا يمكن الحديث عن الرقة بدون الحديث عن العجيلي ما رأيك في أدبه ؟

– ينتمي العجيلي إلى جيل الرواد المؤسسين وقد ظل منتجاً ونشيطاً في الحقل الأدبي على الرغم من تأكيده الدائم على أنه هاوٍ للأدب لا أكثر وقد كتب كثير من الدارسين ونقاد الأدب عن تجربته الأدبية مادحين أو ذامين ومثال ذلك بو علي ياسين ونبيل سليمان في كتاب ( الأدب والأيديولوجية في سوريا ) والدكتور إبراهيم السعافين في كتابه عن ( الرواية في بلاد الشام )وقد درجوا على ترديد مقولته أن نصه لا يشبه أي نص آخر ولا يمكن أن تشبهه نصوص الآخرين إذ لا يمكن لأي نص في العالم أن يكون بريئاً من التأثر أو التأثير .

والعجيلي متأثر بالتراث والغيبيات بالإضافة إلى إنه قارئ نهم للجاحظ وأفاكيهه وروحه وظلال التوحيدي ومقامات الهمذاني والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني لا تخفى عن القارئ الذكي، هذا قديماً، أما حديثاً فتأثير أدباء عصر النهضة خاصة في مصر واضح، أمثال : المويلحي والزيات وطه حسين والعقاد. والأكثر تأثيراً هو عبد العزيز البشري، في كتابه المختار فوجوه الراحلين تشبه كتابات البشري في العزاء وشخصيات القاع أشبه بالحرافيش والفتوات، وكانت أول قصة نشرها العجيلي ( نومان ) في مجلة الرسالة المصرية .

*

   فرات / مدينة / أنثى ..

   يغار الفيروز من اسمها .. 

كثيراً ما حلمتُ بقصيدة مشتركة

لم أجد من يكتبها معي، ويقاسمني حروفها، ويأخذ حصته من المطر

كنت أقول سأجده / ينتظرني في الشمال

ومثل عصفور صغير/ ينقر النص والكلمات من أكفنا

والسماء قبة من الفيروز

س4- هل تدعو إلى واقعية سحرية في الأدب ؟

-أنا لا أدعو إلى مثل ذلك في الأدب، أو إلى اللامعقول، فهذه ليست بعيدة عن إرثنا في الكتابة واللوحة. والواقع كما في الحكايات الخرافية، وألف ليلة وليلة وملحمة جلجامش إلى الأسد المجنح والثور السماوي وحتى الجمل ككائن موجود شكله سريالي إضافة إلى الجن ومارميران ( الأفعى بوجه امرأة ) ، وهدهد سليمان وخوارق السحرة. إنه عالم سحري صنعه الشرق، جاء من توليد الحكايا واللغة .

*هل نجد في أعمالك مثل ذلك ؟

في رواية صيارفة الرنين، التي اعتمدت المنحى الصوفي والسحرية، وفي بعض القصص القصيرة مثل البحث عن دير الرسل، والخروج، ويسقط الثلج هذا المساء، ويمكن إضافة رواية حارس الماعز إلى هذا الطقس .

*وماذا عن القصيدة المشتركة ؟

القصيدة بحث عن الرغبة في الجديد والتجديد، عبر إيجاد روابط وصور ولغة، قد تكون صادقة أحياناً، وقد يكون العمل في دمج نصين في نص واحد كما في ديواننا المشترك أنا وإبراهيم الجرادي ( موكب من رذاذ المودة والشبهات ) جاء بعده قصيدة بيروت لمحمود درويش ومعين بسيسو، أو قد يكون تعالق نصين مثلما مع فاديا عيسى قراجة، وفيروز رشك.

*ماذا تسمي ذلك ؟

البحث عن الجديد في الشكل والمضمون. ثم، ما المانع ما دام يسير في نصوص أدبية تعزز الحداثة، ولا تلغي الجنس الأدبي.

*

   أقبّلُ عطر أصابعك / وأصابعك متهمة باقتراف الكتابة    

   شجرة هذا النص / تسقط عصافيرها بين كفيك

   فيهتز طرباً قصب الفرات / فأردد أحبك بكل الإشارات  

   يسقط الثلج على المدن المنسية ومن المنفى يقودني مولاي إلى الضباب /

   حيث الناي والريح في الشمال

س5- ماذا عن ثورة الحرف أول تجمع أدبي في الشمال السوري ؟

– تعتبر ثورة الحرف أواسط الستينات من القرن الماضي، أول تجمع أدبي في الشمال. وقد نقل الأدب بذلك من المركز والداخل، إلى الأطراف، خلافاً للسائد. وقد كان على يد مجموعة من الشباب لمعت فيما بعد أسماؤهم، أمثال عبد الله أبو هيف، وخليل جاسم الحميدي، وإبراهيم الجرادي، وأنا إبراهيم الخليل .

وكانت أول معركة أدبية بين الجماعة، وبين الدكتور عبد السلام العجيلي، الذي أنكر في محاضرة له في بيروت الجنس القصصي على قصة عبد الله أبو هيف ( الرجل الذي نسي عيد الميلاد ) وقد امتدت هذه المعركة من الصحافة السورية إلى لبنان. ساهم فيها من ساهم ، وقد أهمل مؤرخوا الأدب الجماعة، والمعركة، فلم يدونوها .

*

    نجمة الشمال / والشمال كل الجهات   

   ثلاثة أمور تهمني في المرأة العطر والعطر قصيدة المرأة   

   والكتاب تنام حروفها فيه أيقونة

   والرجل ليكتمل العشق

س6- هل تؤمن أن هناك فرقاً بين أدب الرجل وأدب المرأة ؟

– الحديث عن هذه الفروق عبثي، ومضيعة للوقت. وهو أشبه بالحديث عن جنس الملائكة، في القصة المعروفة. فالأدب لا يخضع إلا لجنس الأدب وشروطه، لا لجنس الكاتب، سواء كرجل كان أو امرأة. وإلا ماذا نسمي قصائد نزار قباني على لسان الأناثي، ذكورية أم نسوية؟ والشاعر رجل! وقد حمل راية هذه المعارضة، أديبات شاميات مبكراً، كغادة السمان وكوليت خوري وجورجيت حنوش وليلى بعلبك.

*

   في الليل حين تسقيني، وتردد صلوا عليّ يا سكارى

   أرميك بالورد مولاي

   في الليل حين تنام القرى المنسية / ولا ينام حزن قلبك

   يرميك بفضته القمر أنثاي 

  وفي الرقة الحوراء حين أشرب قهوتي مع الفرات / تحضرين

   فتمحو أصابعك الأسماء أناي

س7-ماذا تقرأ خلال مرحلة الكتابة ؟

– حين أكتب عملاً روائياً اقرأ شعراً ..

وحين أكتب شعراً، انصرف إلى قراءة القصة القصيرة، وحين أعشق، انصرف إلى قراءات في الأديان والأساطير والتاريخ والسحر .

*

   هي الرقة جمهرة من الأسئلة واللغات

   ومعجم العشاق تنام على الضفة اليسرى/يغازلها القمر

   جميلة أنت في مرايا الليل / فيهطل المطر

س8- ماذا عن التراث اللامادي في الشمال، الذي هو جزء من الذاكرة السورية ؟

– السؤال يحتاج إلى مساحة كبيرة، وكلام يطول وسأوجز في أهم النقاط وأعود إلى الجذور التي ما زالت كامنة فيها.

الماء: وهو أساس الحياة والحضارة ونحن في بلاد موزوبوتاميا كان منه عيد المويوما ( الماء ) ثم الغسل عند صابئة الفرات ثم العماد المسيحي وبعده الوضوء وصلاة الاستسقاء في الإسلام ولا زلنا نردد حين يسقط المطر أم الغيث غيثينا ونعني بذلك الربة عشتار آلهة الخصب حين كان الرب أنثى في تلك المرحلة

النار: ولا زالت مقدسة في عيد النيروز عند الكرد وعند البدو في ثلاثية الكلأ والماء والنار وكان لها سيدة مقدسة هي سيدة الموقد في وثنية المنطقة

داجان ومعبده في الرقة : ولا زلنا نقدس الخبز إلى اليوم وقد زار المعبد سرغون الآكادي وقدم إليه أضحيته وهداياه فأعطاه الساحل السوري وأرز لبنان وسرغون أول مؤسس للمجتمع المدني في التاريخ، حين طرد الكهنة من المعابد، وجاء بقضاة مدنيين .

وهناك نقطة مهمة، وهي طقوس النحابين، ما زالت سائدة بأشكال جديدة. فقد كان النحابون يجتمعون في ذكرى مقتل أدونيس، يجبون ذكوريتهم والصبايا يفرطن بعذريتهن، ثم اكتفوا بعد ذلك بالختان للرجال، وقص الشعر للنساء، ولا زال الأمر سائداً عند الشيعة وعند الآخرين في المآتم.

*

   هكذا تبعثرني أصابعك ثم ترسل عصفها الجميل

   فأتطاير في كل الجهات ورقة في الماء

   وورقة في شعرها الأسود / وورقة تحملها الريح عالياً عالياً ولا تسقط  

   لأن فيها اسمك

س9- في الخاتمة ماذا تريد أن تقول لمن يهمه أمر الكتابة ؟

– هم ونحن، هويات وثقافات مختلطة، وهي الرقة أنثى الماء والطين والقصب. وهذا الماء دم لولادة جديدة، ورحيل أبدي لا يتوقف أمام حواجز ولا يحمل جوازات سفر. فأي هوايات وأي ثقافة كان يحملها جيلنا من فقه الرعاة ، وأعراف العشائر، خلطناها بأطروحات لماركس وأنجلس وسارتر، ومن أغاني ومواويل العتابا والنايل والمقامات، إلى موسيقى الآخر الكردي والأرمني والآشوري، أي جيل كنا؟ نحمل في ذاكرتنا إرث ذاكرة الطين، إلى ماليغر ولوغان السميساطي، وامرؤ القيس وطرفة بن العبد، والخنساء والمتنبي، ودعبل الذي ظل يحمل صليبه على كتفه، حتى وجد من صلبه عليه. وما أكثر المصلوبين والمقتولين من الأنبياء والمتصوفة، من السيد المسيح إلى الحلاج، وصالح بن عبد القدوس، وآخرين .

______________________

نشر في مجلة سيوان  العدد 18 شتاء 2024*

يعاد نشره بالاتفاق مع المحاور، والروائي ابراهيم الخليل

  • سفر عيسى، كاتب سوري