السيدة أمل

لجين فهد حمزة (قاصة وطبيبة سورية، من أعمالها المنشورة: صقيع 2015 – موشور 2021.)

– من التالي؟

هَتَفْتُ. وقد عقدْتُ العزم أن تكون هذه آخر حالة أستقبلها اليوم، ضغطت زر الحفظ في ملف برنامج “إكسل”، جذبتُ الملف الورقي، وفي الصف التالي في الخانة الأولى كتبت الرقم، اثنان وثلاثون، داهمني شعور ضاغط في جبيني، فركت ما بين حاجبي بقوة، وزفرت.

– يعطيك العافية يا ابنتي.

رفعت رأسي، كانت عجوز هرمة تقف عند الباب، طلبت منها الدخول، خيل إليّ أنني أستطيع سماع حفيف ثوبها الداكن، وأن قدميها لزجتان، كلما خطت على الأرض تركت تحتها أثراً دبقاً.

– هاتِ ما عندك.

وبقيتُ أنظر في الورقة، مثبتة القلم عند الخانة الثانية، الاسم.

لم تقل شيئاً، رفعتُ عينيّ إليها، كانت تحدق بي، أومأتُ برأسي “أسمعُكِ”.

– خالد، ابني.. هل تجدون الضائعين؟

سألتني بغتة، ارتبكت، “هل نجد الضائعين حقاً؟”، سألتُ نفسي.

– هذه مهمتنا، ندوِّن المواصفات و.. نبحث، أخبريني عن خالد.

تجنبتُ النظر إليها، ورنوتُ إلى الساعة في هاتفي المحمول.

– خالد ضائع، منذ سنتين، خرج من البيت في الثانية ظهراً، ولم يعد.

– اسمه الكامل من فضلك.

– خالد العمار، من أم البيادر، كان في التاسعة عشرة، لم يتمّها.. بقي له شهر وعشرة أيام حتى يتمّها.

وتنهدَتْ.

– طيب، أريد أوصافه كاملة، وإذا كنت تذكرين ماذا كان يرتدي؟

– كان نحيلاً، أسمر، وعيناه واسعتان، عسليتان. حاجباه كثيفان، وله لحية خفيفة. كان يرتدي كنزة عليها شعار فريقه الرياضي المفضل، وبنطلون جينز داكن، أذكر أنه كان يرتدي.. نعم ساعة يد مدورة، وسواراً جلدياً بنياً.

كانت عيناها غارقتين في بحر بعيد، راقبت لونهما، لم يكن أخضر، ولا أسود، كان لوناً غريباً، كثيراً ما صادفته في عملي الجديد، حتى أنني أطلقت عليه اسماً، إنه لون الحزن.

استرقتُ نظرة إلى صورة ابني الموضوعة في إطار على زاوية المكتب.

– هل تعرفين إن كان على خلاف مع شخص ما؟ أو إن كانت له أي نشاطات سياسية؟

– كان شديد الكتمان، لكنني لم ألحظ تغيراً في سلوكه ذلك اليوم، استيقظ كعادته، استحم سريعاً، وأخبرني أنه خارج إلى العمل، طلب مني أن أصنع له “الكِشك” على الغداء، ورحل.

ارتعش صوتها، وتدفق احمرار إلى عينيها.

– ولم يذق الكِشك.

شعرت بقطرة ماء تتراقص على حافة جفني، ذكرت نفسي بأن البكاء في هذه المواقف محظور، ثم تساءلت.. من حظره؟!

– ما زال فراشه ممدداً على أرضية الغرفة.

توقفْتُ عن تدوين المعلومات، كنت أتابع تقلصات وجنتيها، وارتعاش شفتيها المشققتين، تبين لي أنها لم تجاوز الخمسين، وأن الأخاديد التي حفرت وجهها ليست دليلاً على مرور الزمن، بل على استيطان القهر.

– هل تحملين صورة له؟

تناولَتْ من حقيبتها المهترئة قطعة من الورق المقوى.. تأمَّلَتْها ملياً ثم دفعتها إلي. أخبرْتُها بأننا سنبذل جهدنا في البحث عنه.

وهالَني الضوء الذي أشرق في عينيها.

– حقاً؟ ستجدونه لي؟

– سنبحث..

– هل يمكن أن أسجل رقمك حتى أطمئن كل حين؟

“لا يجوز أن أعطي رقمي لأي من المسجلين عندنا لأن علاقتكم مع المنظمة وليست معي شخصياً..”، لم أقل هذا. “إذا كان كل هذا الألم جائزاً في هذا العالم المختلّ، فبعض التعاطف جائز أيضاً”، فكرت في نفسي:

– صفر تسعة… اسمي: أمل.

تعلقت عيناها بعيني، مثلما تتعلق ورقة مصفرّة بالغصن كلما هبت ريح..

وجرّت قدميها الثقيلتين مبتعدة.

رن هاتفي.

– نعم، أنا قادمة، عشر دقائق فقط، يلعب بالتراب؟ لا بأس.. دعيه.

وفي الطريق كنت أفكر بأم خالد.

وصباح اليوم التالي، كنت قد نسيت أمرها.

ولكن، بعد يومين، أو ربما ثلاثة، تلقيت مكالمة هاتفية:

– أنا أم خالد.. هل من جديد؟

“من أم خالد؟.. آه.. تلك المرأة”..

تلك الليلة واتتني في الحلم، كانت تمطر بجنون، والمرأة الغريبة تتوسد الأرض، يلفّها الضباب، وهي مبللة تماماً، وحيدة تماماً، وكابية.

توجهت إلى مكتب أحد زملائي، كان يعمل هنا مدة طويلة.

– هل عثرتم على أحد من قبل؟

– أعتقد.. نعم، بالتأكيد، عثروا على كثيرين..

صمت برهة، ثم أردف..

– اسمعي، مهمتك هنا هي التدوين، وليس العثور.

“مهمتي هي تحويل البشر إلى أرقام مثل السجون، والمستشفيات..”، قلت في نفسي.

اتصلت المرأة من جديد.

خيّبت أملها من جديد.

فتحت مواقع التواصل الاجتماعي، وقصدت الصفحات التي تتحدث عن المفقودين، عدت بذاكرة المواقع والصفحات عامين، بحثت كثيراً، وأخيراً، عثرت على منشور يحمل نفس الصورة التي أعطتني إياها المرأة، ويعلن عن فقدان الشاب خالد العمار في ظروف غامضة، نفس رواية المرأة، لا شيء جديداً ولا دليل بين الكلمات.

سحبت صورة الشاب إلى هاتفي، وتأملتها. شاب على عتبة الرجولة، لم يكن في وجهه شيء مميز، سوى أن عينيه كانتا، لم أجد وصفاً دقيقاً لإحساسي.. عيناه تفكران، لنقل إنه لم يكن ينظر حقاً، كان يبصر.

فتحت صفحة أخبار مدينة أم البيادر، وكتبت منشوراً:

“خالد العمار، من الحي السابع، فقد التواصل معه في الخامس عشر من تموز عام 2014، لم ترد أي معلومات عنه حتى الآن، إذا توفرت لديكم أي معلومة يرجى التواصل معي أو الاتصال على الرقم: ..09”. وأدرجت رقمي الخاص، وصورة الشاب.

وتابعت التعليقات.

“منذ عامين! الله يرحمه يا أختي!”

“عظامه أصبحت مكاحل”

“وأنا أيضاً ابني مفقود منذ سبعة أشهر.. قلبي يحترق”

“أتمنى أن يعود سالماً، لا تقنطوا من رحمة الله”

لا شيء جديداً، لا دليل بين الكلمات. ورسالة من زميلي تقفز فجأة على الشاشة:

“آه منك!”

واتصلت أم خالد..

وخذلتها.

أرسلت بريداً إلكترونياً إلى مكتب المنظمة المركزي، طلبت منهم التحقق من اسم خالد العمار، لم يصلني الرد. فتشت عن رقم المسؤول المباشر عن تدوين أسماء المفقودين الذين تم العثور عليهم، وأجريت اتصالاً معه، طلبت منه أن يقاطع معلوماتي عن خالد مع المعلومات الموجودة لديه.

“ماما أنا جائع”..

– انتظر..

واتصل المسؤول ليخبرني أنه لم يجد أي أثر لخالد في سجلاته.

تملكني غضب مبهم، قمت لأجهز الطعام لطفلي، وجدته نائماً على البلاط ونصف جسده عارٍ.

صباح اليوم التالي خابرتني معلمته في الروضة لتطلب مني المجيء فوراً، لأن طفلي مرض بشكل مفاجئ وتقيأ مرتين. هرعت إلى السيارة. “إنها خطيئتي، لقد غرقت في هموم الناس وأهملت طفلي”..

وإذ بهاتفي يرن..

– نعم؟ يا أختي لم أجد له أثراً! أنا مشغولة الآن.

وأطبقت الخط.

– إنه يغلي.

هتفت المعلمة، خيل إليّ أن يدي ستذوب من حرارة جبينه، وفي الطريق إلى المشفى قرّعت نفسي، مراراً وتكراراً.

تمدد الليل على سقف المدينة، حملت طفلي إلى سريري، احتضنت جسده الصغير بين ذراعي، وتحسست جبينه.. كان بارداً ورطباً.

– ياه كم أخَفْتَني يا بُنَي!

وبغتة، قفز وجه المرأة البائس إلى رأسي، تذكرت مكالمتها، ونبرتي الحادة.. ماذا كانت تقول؟ لا أذكر، لم أسمعها. مسكينة، ربما أرادت أن تخبرني شيئاً هاماً؟ وماذا ستخبرني، سوف تسأل السؤال المعتاد، وتخبرني أنها متعبة ومريضة، ولا تنام إلا لِماماً ولا تأكل إلا نزراً يسيراً، وستنعق مثل البومة. لقد أخطأت عندما أعطيتها رقم هاتفي، وأخطأت عندما أبديت تعاطفي معها، إنها ليست مهمتي، مهمتي التدوين والإحصاء وحسب.

وبعد ربع ساعة كنت أطلب رقمها.

– خالة أم خالد، كنت مشغولة، اعذريني، لا عليك.. يمكنني أن أقدر معاناتك، أنا أبذل قصارى جهدي.

” قصارى جهدي”؟ تساءلت.

وماذا يمكنني أن أفعل أكثر من ذلك؟

استقصيت عن فرق البحث الميداني، عدد أفرادها ومسقط رأسهم. وتوصلت إلى معرفة شيء أسعدني، هناك بين أعضاء إحدى الفرق شاب ينحدر من أم البيادر، توصلت إلى رقم هاتفه.

– معك أمل، من وحدة تدوين المعلومات، أريد أن أبحث في سجلات المستشفيات في أم البيادر، وأيضاً في سجلات السجون، عن شاب يدعى خالد العمار.

– سنبدأ البحث في الغد، سنمشط المدينة وكل القرى المحيطة بها، سنفتش في البيادر وفي البيوت والساحات.

– و.. ماذا لو كان اسمه غير مدرج في السجلات؟

– سأجده، إذا كان في أم البيادر. وإذا كان في السجن، سأجده.

أشعل الرجل في قلبي جذوة.

ومرت الأيام ببطء، الأمل يحدوني، والانتظار يمِضُّني.

وبعد أسبوعين، اتصل الرجل من أم البيادر:

– ما من أثر لخالد العمار، لقد تبخر تماماً.

تبخر تماماً! لم يبق منه سوى ذكرى ترسبت في قلب أمه.

– انظروا إليها، منهكة وشاحبة!

هتف زميلي في العمل ساخراً.

– أتعرفين عدد المفقودين حتى الآن؟ لقد بلغ الآلاف.. عشرات الآلاف.. ارجعي إلى السجلات.. بعضهم اختفى منذ أكثر من خمس سنوات، أتعرفين عدد المعثور عليهم؟ هه! ولكن.. لماذا..؟ لماذا هذه المرأة بالذات؟

كنت أتلمّس صورة ابني الموضوعة في إطار، لكأنه وَجَه السؤال لشخص آخر، لم أنبس.

– أنت تلاحقين السراب، ستموتين عطشاً، أنصحك أن تتوقفي عن استقبال المكالمات من هذه المرأة، ارحمي نفسك وارحميها.

وفي المساء، رن هاتفي، راقبت الاسم، اضطربت، اغتظت، تألّمت وفزعت.

– نعم، لقد فعلت كل ما بوسعي، ابنك مفقود تماماً، أرجو أن تتفهمي هذا جيداً، رقمك مسجل عندي، إذا عرفت شيئاً سأتصل أنا بك، هل فهمت؟

لا أعرف كيف صوّبت إلى قلبها الرصاصة الأخيرة!

كيف اعتقدت أن من حقي قطع السبيل؟ وإطفاء الشمعة؟

كيف اعتقدت أن من حقي سلبها حقها الأخير؟

حقها في الأمل.

كيف أطبقت قبضتي على أنفاسها.. وما بَرِحْتُ حتى لَفَظَتْها جميعاً؟

كان ذلك منذ ثلاث سنوات، لكنني أذكره جيداً.

تلك الليلة بكيت كثيراً.

لم يفارق وجهها مخيلتي، أمضيت ليالي طوالاً أتأمل المطر من خلف النافذة، ترتسم في الضباب عيناها، بنفس اللون الحزين والأجفان المتهدلة، سوى أنهما لم تشعا بالأمل كما فعلتا في مكتبي، كانتا مطفأتين.

لازمني شعور بأنني أنا من أطفأهما.

كنت كل ليلة أنتظر هاتفها، وأهيئ نفسي لأقول شيئاً ما، أي شيء أقل قسوة، لكنها لم تتصل أبداً، وكنت كل ليلة أمسك هاتفي أكثر من مرة، أبحث عن رقمها بين الأسماء، وأرتجف.

ماذا سأقول لها؟ ربما أخبرها أنني ما زلت أبحث عنه؟ لا سوف أطمئن عنها وحسب، أو.. سأطلب منها أن تغفر لي، أن تلم طيفها المقهور من تفاصيلي، من على الأريكة وفناجين القهوة وفحم النرجيلة، عن سرير طفلي وكراساته، عن وسادتي التي اعتادت نأيي واعتدت هجرها، ولكن، أخشى أن أحيي فيها الأمل، ربما تمكنت من النسيان.. ربما وجد اليأس أخيراً طريقه إلى قلبها، ما أجمل اليأس.. ما أرحمه!

ولكن، ماذا لو أنها لم تنس؟

وهل ينسى الإنسان قضيباً من النار يستعر بلا انقطاع في جوفه؟

ماذا لو أن الكلام الذي قلته نخر روحها؟ ماذا لو أمضت تلك الليلة في النواح والعويل.. حتى انفجر قلبها، وماتت؟

أتجمّد.. وأرمي الهاتف من يدي.

اليوم، وبعد كل هذه السنين، رن هاتفي في المساء.

– ألو.. سيدة أمل؟

– نعم، من على الخط؟

– أنا جئت إلى المنظمة منذ زمن، سجلت اسم ابني المفقود، خالد العمار.

تدفقت في داخلي عشرات الأسئلة والمشاعر، كان في صوتها تردد، وخوف، وأمل..

– آسفة على الإزعاج، لكني أردت أن أخبرك أن.. ربما أنا أخطأت في المواصفات، لقد قلت إنه كان يرتدي ساعة مدورة، لقد تذكرت أنها لم تكن مدورة تماماً، لقد كانت بيضاوية..