القارئ هو المهم.. في الفضاء الميتافيزيقي للأدب

بقلم: بلير أوستن

ترجمة: حسين جرود (شاعر وصحفي ومترجم سوري، من أعماله: المجموعة الناقصة – جنود البحر).

غالباً ما يمحو العمل الأدبي الخيالي الغرفة التي كان من المفترض فتحها ويفتح غرفة أخرى مختلفة تماماً. هذا شيء مثمر بذاته. لم يُنجز أي شيء إطلاقاً في القارئ في تلك اللحظة. لا يوجد توظيف للأدب إذن؛ يوجد سلوك، استخراج وقتٍ موازٍ (فضاء ميتافيزيقي) من جزء معين من اليوم. تحدث الكثير من قراءتنا في هذا الفضاء.

أنوي في هذا المقال قول شيء واضح تماماً على سبيل التذكير: القارئ هو «المكان» الوحيد المهم، وكل واحد منا قارئ مختلف في أوقات مختلفة من حياته، وحتى في أوقات مختلفة من اليوم أو الأسبوع. من ثم، نحن قراء مختلفون حسب الجيل والعصر. نظراً إلى الجودة المؤقتة للقراءة، وباستخدام الطرائق التي نقرأ بها فعلياً، برهانًا على ذلك. لا توجد طريقة صحيحة للقراءة. لا يوجد سوى أنواع القراءة.

أنا أمين مكتبة سجن سابق، وقد حُرمت من حريتي لفترات طويلة في ظل ظروف أخرى. تأخذ قراءة الأدب الخيالي شكلاً مختلفاً عندما لا يمكنك مغادرة المكان الذي تكون فيه. ولذا تبدو الأسئلة المتعلقة بالطريقة الصحيحة لقراءة الأدب الخيالي والواجب الأخلاقي للقارئ في مجتمع مدني غريبة. كل القراءة تجري في الفضاء الميتافيزيقي أولاً، ويوجد الكثير من أنواع القراءة مثل الأشخاص الذين يمكنهم القراءة.

من ثم، إنها فوضى القراءة التي أود الحديث عنها هنا، ومن ثم حدودها وغرابتها المتأصِّلة، لكل واحد منا، داخل المجتمع وخارجه.

من طريق «أنماط القراءة» أتحدَّث عما يدور في العقل (الحالة الذهنية، وحالة الوجود) في أثناء القراءة، وتُقدَّم هنا دون حكم أو تعليق. توجد قراءة مثل «رحلة خيالية»، وقراءة غافلة، وقراءة بعقل منقسم، وقراءة نوستالجية، وقراءة سياحية، وقراءة مهنية احترافية، وقراءة من قبل بروفيسور، وقراءة دون تذكُّر لما قرأته، وقراءة لتدريب العقل ليكون قادراً على القراءة مرة أخرى، وقراءة قهرية، وقراءة تحليلية، وقراءة انتقادية، وقراءة استفهامية، وقراءة لصنع التغيير، وقراءة تأويلية، وقراءة أحلام اليقظة، وقراءة فاحصة، وقراءة للحصول على المعلومات، وقراءة غاضبة وساخطة، ومئات أخرى. ولا يمنع التبديل في اللحظة التالية إلى نوع آخر من القراءة. يحدث الكثير في الوقت نفسه.

غالباً ما تؤدي الظروف التي نقرأ فيها إلى نوع معين من القراءة. توجد قراءة في حالة سكر أو انتشاء. القراءة في مترو الأنفاق أو الحافلة. القراءة في غرفة مليئة بالأشخاص الذين يتحدثون، والقراءة في أثناء تشغيل يوتيوب. قراءة الأدب الخيالي في العمل بينما تتراكم الأعمال فوق رأسك، والقراءة بينما يحدث العنف في كل مكان، والقراءة وحيداً في الظلام. أنا لا أتحدث عن أسباب قراءتنا ولا عن اختياراتنا للقراءة بل عما يحدث فيما كنا نسميه «العقل» ونسميه الآن «الدماغ». هذا المكان -إن وجد- بعد التصوير المقطعي والتصوير بالرنين المغناطيسي والتصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني، فإن قراءتنا -مثل حياتنا- فوضوية.

***

يوماً ما، في وقت متأخر من الصباح، كنت أسحب عربة بين الوحدات السكنية في أحد السجون الشهيرة -وهو مرفق من المستوى الرابع في السهول- حيث عملت. انتهى وقت التنفُّس، وكانت الساحة فارغة: مساحة شاسعة من مثلثات العشب الأخضر تقطعها ممرات خرسانية رمادية. صدر صوت طقطقة في اللاسلكي: «التحكُّم.. غرفة المرجل». «تحكُّم.. انطلق». «موظف واحد من غرفة المرجل إلى كوخ الصيانة». «10-4. التحكُّم واضح، خمسة عشر – ثلاثون – خمسة».

كنت أسير أمام حوضَي زهور، ممزوجة بأزهار المخملية. وقد مررت تواً بغرفة التحكم في طريقي إلى وحدة الصدى لجمع الكتب عندما قال صوت مرح، «مرحباً! اعذرني!».

استدرتُ، وكان الفناء فارغاً تماماً. كان باب وحدة دلتا الصغير على بعد مئتي متر، عبر ذلك الفناء الشاسع، المحاط بجدران مكوَّنة من المباني نفسها التي فُتحتْ جميعها نحو الداخل. «هنا في الأعلى!»، قال الصوت. كان يقف فوق السطح مباشرةً ضابط يحمل بندقية AR-15. إنه الرقيب المتمركز في البرج الثاني، في تخشيبة حراسة على السطح تطلُّ على الفناء. «هل يمكنني إعادة كتابي؟»، قال. كان صوته ناصعاً، صوت شاب يرى العالم بالمقلوب. حصل على غلاف ورقي من السوق الشعبي. قلت: «بالتأكيد»، وطرح الكتاب بلطف. سقط في البداية كحجر، ثم انتشرتْ صفحاته، وهبط بضربة على العشب. «شكراً!»، قال، وضعتُه في عربتي، وواصلتُ السير إلى وحدة الصدى.

لكني دهشت. لم أكن أتصوَّر الضابط في البرج الثاني يقرأ، ولكن هذا منطقي. لم يكن لديه ما يفعله في نوبات العمل باستثناء انتظار أمر الحركة والردِّ على عمليات التفتيش على اللاسلكي كل ساعة، والإبلاغ عن الطائرات، وما إلى ذلك. في حالة الملل تلك، نظراً إلى وظيفته مع البندقية، يجب أن يكون هذا نوعاً من الرفاهية. عند حدوث عنف في أثناء الحركة الخاضعة للرقابة، يسير الرجال في خطوط خضراء، وجرى تكليفه بإطلاق طلقة تحذيرية واحدة في حوض الزهور، ثم إطلاق النار، وسط الحشد، على أي شخص لم يسقط على بطنه.

طوال اليوم، دون أن يفعل شيئاً، ثم عمليات اختبار اللاسلكي والحركة عندما يتعيَّن عليه أن يكون يقظاً، ثم لا شيء. وكان يقرأ هناك في ظلال مرآته، متتبعاً الكلمات بذهن تشغله حركة الراديو، وعقل في ثلاثة أماكن أو أكثر في الوقت نفسه: تخشيبة البرج الثاني، والفضاء الميتافيزيقي لمكالمات الراديو، وفضاء الرواية ذاتها. ربما كان يخاطر بوظيفته، ولكنه على الأرجح، حصل على إذن لقراءة إنديميون دان سيمونز في أثناء انتظار إطلاق النار على شخص ما.

***

يكتب هنري جيمس -الذي لم يكن يفتقر قط إلى الاستعارات الفنية، ما يتطلب إيضاحه اقتباساً كاملاً- عن نافذة في مقدمة «بورتريه سيدة»:

«بيت الرواية باختصار لا يملك نافذة واحدة بل مليون نافذة؛ عدد من النوافذ الممكنة التي لا يمكن حسابها، بالأحرى؛ كل واحدة منها قد اختُرقت، أو لا تزال قابلة للاختراق، في جبهتها الواسعة، بسبب الحاجة إلى الرؤية الفردية ووجود الإرادة الفردية. هذه الفتحات، ذات الشكل والحجم المتباينين​​، تتدلى، معاً، على المشهد البشري الذي ربما توقعنا لديها تشابهاً أكثر مما نجده. إنها مجرد نوافذ في أحسن الأحوال، مجرد ثقوب في جدار ميت، منفصلة، تطفو عالياً؛ إنها ليست أبواباً مفصلية تفتح مباشرة على الحياة. لكن لديها هذه العلامة المميزة، إذ تقع في كل منها شخصية بعينَين، أو على الأقل بزجاج ميداني، ما يشكل، مراراً وتكراراً، أداة فريدة للمراقبة، تضمن للشخص الذي يستخدمها انطباعاً متميزاً عن غيره. يشاهد هو وجيرانه العرض نفسه، لكن أحدهم يرى الكثير حيث يرى الآخر القليل، ويرى أحدهم اللون الأسود بينما يرى الآخر الأبيض، ويرى الآخر الكبر حيث يرى الآخر الضآلة، ويرى الآخر الجلافة حيث يرى الآخر الرقي… لكنها، فرادى أو مجتمعة، لا شيء دون الحضور المعلن للمراقب. بعبارة أخرى، وعي الفنان».

الكلام عن الجانب الآخر من الزجاج صحيح. علينا فقط استبدال كلمة «فنان» بكلمة «قارئ» لنرى أوجه التشابه. ما يمكن قوله عن الكاتب ينطبق أيضاً على القارئ. يدور الزجاج على قرص كبير مثل الباب الدوار، ويجد القراء والكتاب أنفسهم على الجانب نفسه. لا حاجة إلى الانفصال. هذا لأن القراءة شكل من أشكال الترجمة. والترجمة هي الكتابة، ما يسميه والتر بنجامين «نمطاً» للأدب، عمل إبداعي بحد ذاته ومثال لغة خالصة موجودة بحد ذاتها. يتغير العمل الفني، ويتغير مرة أخرى، بعدد المرات التي يواجهه فيها القراء.

القارئ هو الكاتب الحقيقي (لترجمته الفردية للعمل)، والكاتب هو فقط القارئ الأول للكتاب الذي كتبه. صحيح أن الكاتب قارئ خبير، ومن الواضح أنه مألوف -حتى الغثيان- لمنتَجه، قارئ متحيز. كما نحن جميعاً. ومع ذلك، فإن خبرة الكاتب لها حدودها في الصمت المفروض على الكاتب -وعلى جميع قرائه- بمرور الوقت.

عندما عملت في أحد مراكز الحد الأدنى للرجال، أتذكر رجلاً أراد بناء كوخ. من طريق الإعارة بين المكتبات، طلبت كل كتاب متاح عن الأكواخ. «تأطير الأخشاب»، و«تأطير الأخشاب للجميع»، و«الكابينة الخشبية»، و«آلة التكسير الكلاسيكية» وغيرها الكثير. عند الحديث عن الأكواخ، يتحوَّل لون الرجل إلى الأحمر من الغضب، رافعاً إصبعه في الهواء. لم يكن يريد بناء «خردة ريفية». لقد أراد أن يصمم هيكلاً حقيقياً متيناً وإطاراً خشبياً بطريقة حذرة من الماضي.

ما حدث أنه كان متورطاً في القتل غير العمد، وقد قتل أسرة مكونة من أربعة أفراد في أثناء القيادة تحت تأثير الشرب. لا يتذكر شيئاً عن تلك الليلة إطلاقاً. كان هناك فجوة في الذاكرة. كان الأمر كما لو أن تلك الليلة لم تحدث قط. كان الحادث أمراً فعله ولم يختبره. الآن هو في أواخر الستينيات من عمره، شعره أشيب بذيل حصان، وأنفه المشوب بالندوب مع نتوءات عميقة وشقوق لسكِّير سابق، وقد كانت وردية من الصحة. لم يخرج من السجن أبداً، ولذا كان عليه بناء الكوخ بالكامل في ذهنه.

عندما عملتُ في منشأة للنساء، كانت هناك امرأة تطلب نسخاً مصوَّرة من الكتب المتوِّفرة في المكتبة من أجل البطاقات التي كانت تصنعها لطفلها الصغير. كانت تجد كتباً مصوَّرة على الرفوف، وتضع علامة على الصفحات، وتملأ نموذج طلب النسخ، الذي يطلب عادةً الإدلاء ببعض التفاصيل. من النسخ، كانت تقصُّ الطائرات و«حراس القوة»، وتلوِّن بعضها، وتترك بعضها الآخر دون تلوين، ليلوِّنها بنفسه عندما يتلَّقى البطاقة ويتمكنا من التلوين معاً.

عندما تتحدَّث عن ابنها، كان وجهها يتوهَّج ويداها تتعانقان أمامها، وعيناها تنظران فوق رأسك بالطريقة التي يتوقَّف فيها الممثلون في مسرحيات برودواي وينظرون نحو الأضواء قبل الأغنية، كما لو أن الصبي يعيش في السماء. لم أستطع استيعاب شيئين: كانت عواطفها حقيقية، ولكنها كانت تمثِّل أيضاً. يوجد شيء ما غائب عن المشهد، ولم أستطع معرفته.

كانت تكلفة كل نسخة خمسة عشر سنتاً، وتُغطَّى من «كتبها» أو «حساب النزيل». لم يكن لديها أي دعم مالي في السجن، لذلك كان عليها أن تكسب المال من وظيفتها «مدبِّرة منزل»، وتنظيف مناطق الموظفين. كانت تجني 42 سنتاً في اليوم. ستكلِّفها عملية التصوير أكثر من يوم عمل. للتوضيح، عليها تغطية تكلفة المغلف والطوابع والقلم لكتابة الرسالة.

بعد عملية النسخ الثالثة تقريباً، علمت أن المرأة قد وقعت ضحية ابنها. لم يُسمح لها بأي تواصل معه، لا شيء إطلاقاً. كانت النسخ والبطاقات أملاً ووهماً. كانت تضعها في البريد، وتضع غرفة البريد علامة عليها. لن تغادر السجن أبداً. لن يراهم الطفل أبداً. كانت تعرف ذلك، ولم تكن تعرفه في الوقت نفسه.

كان كل من الرجل والمرأة يقرآن القصص الخيالية للبقاء على قيد الحياة في وضع لا يطاق.

يرى يونغ الأمر بنحو مختلف. يصف العمل الفني بأنه فيروس ذو شخصية، «كائن حي يستخدم الإنسان فقط وسيطاً غذائياً» لتحقيق غرضه الخفي. أنا أقول أن القارئ لديه الشخصية، والقراءة نفسها هي الفيروس داخل كل واحد منا. لسدِّ الفجوة بين هذين المفهومين، فإن العمل الفني عبر ترجمة قراءته يكون قوياً وعاجزاً في واقع القارئ: الاثنان في الوقت نفسه.

رغم أن الكلمات تتلعثم بترتيب معين، فإن الكتاب ليس حقيقة ثابتة في عصرنا أو في أي وقت آخر. الكتاب، حتى لو كان مجلداً مليئاً بالغبار في المجال العام، هو عملية مستمرة، وفقاً لأمين المكتبة والمنظر الهندي العظيم إس آر رانجاناثان، في قانونه الخامس لعلوم المكتبات، «المكتبة كائن حي متنامٍ». نشوِّه المحتويات بطرائق مثيرة للاهتمام. نحن نعرف هذا؛ ننسى ذلك كل يوم.

***

مرة في يوم إجازة من العمل في سجن للأولاد المحكوم عليهم كبالغين، كنت أستقل الحافلة الإقليمية بين المدن لزيارة الأصدقاء عندما رأيت رجلاً في الأسفل يقرأ في أثناء القيادة. كان الشتاء قارساً وسيارته الصغيرة مغطَّاة بالصقيع، الذي غطَّى سيارة برتقالية صغيرة في داخلها رجل ضخم جداً. رأيت رجلاً ضخماً، وهو ينجرف في الممر الأيمن، تقدمت ببطء إلى الأمام حتى أتمكن من رؤية السيارة. كان ملفوفاً بالكامل في معطف من الصوف، وقفازات سوداء، وقد سحق قبعته بالسقف، ووشاحه ملفوف بإحكام.

كانت النوافذ مغطاة بالضباب؛ لم تكن لديه مدفأة. لقد أزال ثقباً صغيراً في الجليد، يكفي فقط للتجسس، محاطاً برغوة بيضاء، وركب في حوض مائي مظلم، يقرأ كتاباً. نظارته قاتمة، مثل نظارة روبرت هايدن، ويبدو أنها مصنوعة من طبقات متدرجة من الزجاج الأخضر، في قاعها عين صغيرة منكمشة. كانت يده على لوحة القيادة، تحمل رواية مفتوحة بين الإبهام والخنصر. وانجرف نحو الماضي.

لا أستطيع تخيُّل مدى تعقيد الانتباه الذي كان يمكنه فعله دون أن يموت، ولكنه كان يدير الأمر في ذلك الوقت، ولا يمكنني تخيُّل الجوع، أو الإكراه. لا بد أنه شعر بمعرفة ما سيحدث بعد ذلك على جسر مركبة الشحن، بينما يندفع بسرعة خمسة وستين ميلاً في الساعة في سيارته، متوقعاً حتى اللحظة الأخيرة الوصول إلى العمل.

***

في روايتي «ديوراماس»، تكون ديوراماس بديلاً لأشكال الفضاء الميتافيزيقي التي جرت مناقشتها هنا، إذ تمثل قراءة المشاهد خلف الزجاج لويغينز (المحاضر القديم) فعلاً وجودياً وميتافيزيقياً يمكن أن ترتبط به أية مجموعة من الأفكار، من المحتمل أو غير المحتمل، أن تكون مرتبطة بالعالم أو لا. إنه يبحث عن إجابات ضمن وسيط (ديوراماس ومواقفه)، حيث لا توجد إجابات واضحة.

عقيدتي أن كل شيء ينبع من تجربة القراءة، فعندما نبدأ حديثنا الجماعي عن الأدب، نضطر إلى التجاهل، فهو أمر غير قابل للترجمة في البداية. بعد كل شيء، ماذا نقول بعد أن ركبنا قطار الملاهي، وقبَّلنا شخصاً ما، وتركَنا، وركض جانباً، وهرب؟ إنها بالضبط التجربة التي تستعصي على اللغة. في وسطها فراغ ليس لدينا خيار سوى اعتباره أمراً مفروغاً منه.

نشعر بالقلق يزحف عندما ندخل «فضاء الأدب». نتخيل أنه من الأفضل أن نستدير ونعبر الحجاب ثانيةً ونعود إلى العالم. ولا شك أن هذا أمر حكيم: يوجد الكثير لنقوم به، والكثير الذي ينبغي فعله إذا أردنا النجاة معًا. استجابةً لهذا القلق، نجعل الوقت الذي نقضيه هناك، في الفضاء الميتافيزيقي، يُحسب للوقت الذي لا نقوم فيه بتحسين العالم. نطالب عالم البخار بما نشعر أنه يجب علينا فعله بعد أن ننتهي ونعيد عبور الحجاب. لكن الكثير من حياة الإنسان يقضيها في الفجوات بين العوالم، في الفضاء الميتافيزيقي للفكر، فضاء الفكر، وفضاء العقل، وأنواع الغموض التي لا علاقة لها بمحتويات كتاب تقرأه عن كثب. نقرأ بنقاء، ونية مسبقة، وشعور بالذنب، متناسين الطرائق الحقيقية التي يظهر فيها عدم الانتباه: الخطأ، والملل، والانزلاق. باختصار إنه يوم عادي، في تجربتنا مع القراءة.

***

عند كتابة «ديوراماس»، خلال السنوات الطويلة التي سبقت الانتهاء من المسودة الأولى، تلقيت بعض العلاجات الطبية التي تسببت في فقدان ذاكرتي قصيرة المدى وجزءاً من ذاكرتي طويلة المدى. أتذكَّر أني عدت من المشفى ورأيت كومة من الأوراق وكنت أقلِّبها بإبهامي وأتوقف لقراءة فقرة وليس لدي أية فكرة عما تعنيه أو ما هي مرتبطة به. كنت أعلم أني كاتب، ولكن لم تكن لدي إمكانية الوصول إلى ما مضى. شعرت بوجود شخص آخر (مترجم لم أعرفه من قبل) مثل ظل في الخلفية. لقد كان يحتفظ بهذا النوع من السرِّ الذي يخترق، ولكنه لا يكشف عن نفسه أبداً، ولكنه دائماً يعمل على الوصول إليك.

الشيء الوحيد الذي استطعت تمييزه هو نسخ الكتاب يدوياً. لقد نسخته، ولم أغيِّر شيئاً. بعد ذلك، لم تكن لدي أية فكرة عما بداخله، لذلك نسختُ الكتاب عبر IBM Selectric II، وبعد ذلك بدأت ببعض الومضات الخافتة بالظهور، ولكنها لم تكن كافية لمواصلة العمل. لذلك نسختُ الكتاب بأكمله مرة ثالثة، بوساطة وورد. ورغم أن محتويات الكتاب لا تزال غير متماسكة، فإنه يمكنني على الأقل بدء التحرك نحو مسودة ثانية، مع التركيز على المشاهد القصيرة: النوافذ التي تفتح على «ديوراماس» الوهمية. ولكن حتى يومنا هذا، ورغم أن الكتاب بُنِي بعناية، فإنني ما زلت لا أتذكَّر ما بداخله.

***

بصفتي أمين مكتبة، تلقيتُ تعليماً في قانون المكتبات وحقوق السجين في القراءة، وهي المستندات التي تحرك قرارات وممارسات المكتبات داخل السجن وخارجه في جميع أنحاء البلاد، وتعكس بين المكتبيين إيماناً معيناً بحقوق الإنسان. أنا متمسك بها بإحكام شديد. ومثلما يكون نوع معين من القراءة مهماً بالنسبة لك، فهو مهم بالنسبة لي. حتى لو لم أستطع رؤية الشكل الذي تأخذه قراءتك من الداخل، حتى لو أسأتُ الفهم، حتى لو افتقرتُ إلى الخبرة أو الذكاء أو القدرة على تخيُّل ما تعنيه حقاً لك أنت من الداخل، أو إذا كانت الحقيقة على الصفحة مع دخول الكلمات مختلفة بنحو ملحوظ عن تطلُّعاتك، فأنا أقرُّ باستحالة التقاط ذلك. أعترف بوجوده في كل إنسان.

اعتاد المخرج التجريبي ستان براكاج أن يضغط على جفنيه بأصابعه لإثارة ومضات ضوئية يقوم بتحريكها على فيلم مقاس 16 مم، إطاراً بإطار، 24 إطاراً في الثانية. أربعة وعشرون تكويناً صغيراً، التي تُجرى بالطلاء وأقلام التحديد والخدوش على سطح بحجم الصورة المصغَّرة، للحصول على ثانية واحدة من الفيلم. كانت الأنماط التي وجدها في الظلام فريدة من نوعها في تلك اللحظة بالنسبة إليه. لقد كانت تعبيراً عن نفسه ورؤيته في ذلك المكان والزمان، وكان هذا بالنسبة إليه التمثيل الأكثر صدقاً وحماساً الممكن حشده: شخص واحد، وملاحظته، في مكان واحد، في الوقت نفسه، مع وضد ثقافة «الرؤية»، السائدة في العالم هناك.

بالمثل، فإن مسرح القراء المتحرِّك عقل فريد تماماً لا يمكن التنبؤ به، إذ يتغيَّر ويدخل في حالة الفوضى، ويخرج منها، في فعل القراءة نفسه، ويسقط، ويتجوَّل، ويعود، وينشئ روابط مروِّعة قد تكون -أو لا تكون لها- علاقة إطلاقاً بالنص الموجود في متناول اليد. قد يقودنا إلى بعض الجمال في الحياة بين الأشخاص الآخرين، أو -فعلياً- إلى فكرة مروِّعة عن التدمير وحدَه، أو قد لا يؤدي إلى أي شيء إطلاقاً. هذا ليس سؤالاً أخلاقياً -ما الذي يمكن أن تفعله القراءة لتحسين شخص ما؟ مثلاً- هذا سبب للقراءة ونوع من القراءة، كليهما. هذا صحيح لسبب بسيط هو أننا بشر.

لا، إنها عاصفة العقل استجابة لعاصفة اللغة التي تدور في أرض منبسطة مظلمة، وعدم القدرة على التنبؤ بها، وهذا ما أودُّ لفت الانتباه إليه ليس لأنه جيد أو حتى أفضل من أي شيء آخر، ولكن لأنه -مثل مفاجأة ترجمة ستان براكاج عن الرؤية في مكان وزمان واحد- أقرب إلى الواقع، إلى طريقة لرؤية المكان الذي نقرأ فيه. يبدو لي هذا أكثر من اقتراح أو طلب للقراءة بطرائق معينة خشية أن نفقد ديمقراطيتنا، ونفقد قدرتنا على التركيز، بعد أن انجرفت الثقافة إلى القتل، واليأس، وعدم الانتباه، والعمى، في فوضى غرفة واحدة تفقد عقلها.

تختلف الطريقة التي يقرأ بها شخص ما، على أعمق مستوى إنساني، عن طريقة قراءة شخص آخر. وهذا شيء يثير الرهبة بدلاً من الاحتفاء به نشيداً للفردانية: إنه هذا فقط، كما هي القراءة بكل بساطة، لهذه اللحظة القصيرة من ثقافة الطباعة.