مجلة أوراق تحاور النحات والفنان التشكيلي عمر إبراهيم

ابن مجل شمس المقيم في بايون فرنسا

حواره: محمد زعل السلوم (كاتب ومترجم ومدير تحرير أوراق).

– شكل التمازج اللوني بين الأبيض والأسود أصدق حالة تعبير عن أزمتنا في سوريا وعن تعاطفي مع الثورة وما شهدناه من مجازر ودمار…

– اللوحة مستمرة والكتابة مستمر وطوحي تحرير الإنسان داخلياً.

– جسدّتُ الغرنيكا السورية بجدارية الوحوش كما جسدّت المرأة السورية بجبل قاسيون لتكون المرأة الجبل …

عمر إبراهيم فنان تشكيلي سوري وكاتب مقيم في فرنسا، تخرج من كلية الفنون الجميلة في دمشق – قسم النحت عام 2002، يعمل ويقيم حالياً في باريس. له معارض فردية ومشاركات جماعية داخل سوريا وخارجها، إضافةً إلى ورشات عمل في عدة جامعاتٍ أوروبية، وعدة أعمال معروضة في العاصمة الفرنسية. وقد رغب أن يمنحنا رأيه المهم حول الفن وثورة السوريين، قبل بدء الحوار عن حياته وأعماله.

الفن وثورة السوريين

قد يبدو للوهلة الأولى أن تناول عنوان كبير من نوع الفن والثورة أمر شديد التعقيد ويحتوي على تعميم عقيم حول إمكانية الإحاطة بهذا القدر من المعنى المتسع بما يحمله من إسقاطات عميقة ومجالات واسعة للبحث وتعميق الفهم حولهما كمفاهيم فضفاضة، ولكن أكثر ما قد أكون معنياً به اليوم هو توضيح تلك العلاقة العفوية والجدلية التي تمت خلال ما يقارب ١٢ عام ما بين الثورة السورية خلال مسيرتها ومراحلها المتداخلة بدءاً من كونها انتفاضة للشعب السوري للإصلاح مروراً بالثورة ولاحقاً التسليح ومن ثم الأزمة والحرب وصولاً لفوضى ما بعد الحرب، التي لا نزال نعيش تردداتها وتأثيرها علينا حتى اليوم، والتي أفرزت العديد من النتائج كان أهمها هنا هو موجات الفنانين السوريين سواءً الذين بقوا في سورية أو الذين غادروها وتأثرت أعمالهم الفنية بشكل مباشر أو غير مباشر بأحداث الثورة السورية سواءً الذين اصطفوا منهم في موقف معارض للنظام وسياساته أو من كان موالياً لبقاء النظام السوري أو من وقف على الحياد.

هذه العلاقة الخاصة والعفوية بين الفن وما تم إنتاجه خلال سنوات الأحداث من جهة وأحداث الحراك الشعبي الثوري من جهة أخرى هي أشد ما أثار اهتمامي خلال ما يقارب العقد الماضي من الزمن.

فقد وجد الكثير من الفنانين التشكيلين السوريين أنفسهم أمام واقع مؤثر في أعماق الوجداني الجمالي للفنانين أقل ما يمكن وصفه به هو أنه صعب، محير وغير قابل للاستيعاب والهضم السهل المباشر فكرياً كان أم إبداعياً. فبدأت أعمالهم بقصد أو من غير قصد بالتأثر بهذا الحراك الشعبي وما تبعه من الوحشية المدمرة على المدن والقرى السورية والتعبير عنه بزخم إلى حد بات الشغل الشاغل للكثيرين من المشتغلين في هذا المجال التعبير عن شدة وطأة المشهد بصرياً ونفسياً بعد أن بات مشاهدة فيديوهات القصف والاعتقال والتعذيب وعمليات التصفية أمراً يومياً يعيشه السوريون ويتناولونه بصرياً ووجدانياً بشكل غير واع لآثاره على الذات البشرية أو خلق مسافة أمان منه كمثل الكثير من أشياء تفاصيل حياتهم اليومية غير القابلة للكثير من التحليل والفهم.

تلك المشاهد البصرية المحملة بالكثير من الألم والتي اتصفت بالثقل على البصر والوعي الواقعي والفني للفنان قادت الفنانين التشكيليين السوريين إلى تغيير الكثير من ثيمات العمل القديمة (موضوعات العمل) التي قد عملوا عليها خلال سنوات سابقة وخصوها بالبحث والدراسة والممارسة الفنية فكرياً وثقافياً ليبدؤوا بتجسيد أعمال فنية تمثل هول المأساة السورية وعمق المصاب وهنا نرى كيف طغت بصرياً سكاكين الحرب والبنادق والهياكل العظمية وغيرها الكثير من عناصر بناء التكوينات الفنية رسماً ونحتاً وأعمال تركيبية وسينمائية وغيرها الكثير كذلك دلالات الألوان التي بدأت بتقلد معان جديدة قد تكون غير مألوفة سابقاً كالألوان الباردة أحياناً للتعبير عن نفور وبرود الواقع من جهة أو الحارة للتعبير عن قوة وصعوبة المشاهد اليومية الدموية المتابعة عبر وسائل الإعلام ووسائل التوصل الاجتماعي والرماديات واللا لون كالأبيض والأسود، الأمر الذي ظهر جلياً في أعمال فنانين كثر كان مثالاً عليه من نوع الفنان عمران يونس في رسم براميل الموت وثيمة الموت المتكررة في أعمالها وعنف هذا الموضوع بالأخص في تجربة الفحم التي عمل عليها طويلاً محاولاً تعميق بحثه. كذلك الفنان عبدالكريم مجدل بيك الذي بات يستخدم أقمشة الخيام والألبسة المتبقية بعد التفجيرات ليلقيها فوق فراغ العمل ويحيكها مع بعضها دلالة على أماكن التهجير والتفجير والدمار، واستحضاره مجموعة من السكاكين والمسدسات يكررها فوق فضاء العمل. وطبعاً فإن الفنانين يونس ومجدل بيك ما هما سوى مثالين من أعمال كثيرة لفنانين سوريين شباب عاصروا هذه المأساة وعبروا عنها بطرائقهم. أذكرهما على سبيل المثال وليس الحصر.

كان من أهم ما ظهر على الساحة الفنية التشكيلية السورية خلال هذا العقد أيضاً أنواع فنية جديدة، كان حيز حضورها سابقاً قبل الثورة السورية ضيقاً ولم يكن شديد الانتشار مقارنة بفنون بصرية عرفناها من مثل نوع “فنون الغرافيتي – الرسم على الحائط وقد يكون الرجل البخاخ من أكثر الفنانين خفة للظل في تلك المرحلة التي ظهر فيها مقنعاً يخط جمل مناهضة للنظام السوري ويجري تصويره بتقنية فيلم بسيطة على شاشة الخلوي لينتشر بعدها بقوة في وسائل التواصل الاجتماعي حاملاً رسالته للناس. كذلك رأينا تطور نوع فن الأنستليشن (الفن التركيبي) الذي باتت مواد المخيمات وبقايا أماكن القصف والمواد المهملة عنصراً أساسياً فيه ومادة مقدمة بشكلها الجديد رسالة ومعنى يؤكد على مناهضة الحرب أو التوثيق لمجزرة أو قصف ما في منطقة من مناطق سورية المتضررة. أضف إلى ذلك النشاط الشديد لفن الأنيمشن (فن الكرتون المتحرك) والذي كان وسيلة تعبير مباشرة عن الاستنكار والرفض لممارسات القمعية والوحشية في الساحة السورية أو لتوثيق حدث ما أو لاستنهاض الهمم وحشد الناس للمطالبة بحقوقهم. وقد تكون سلسلة “كرتونة سوداء من دير الزور” من أشد الأمثلة تعبيراً عن ذلك.

كذلك شهدت الساحة التشكيلية السورية ظهور مجموعات كان لها دور هام وأساسي في التغطيات الإعلامية من خلال إصدار مجلات إلكترونية وبوسترات تحض على الثورة من مثل مجموعة “الشعب السوري عارف طريقه” أو مجموعة “عنب بلدي”.

في الجانب الآخر، نرى كيف أثر الفن في الحراك الشعبي السوري والذي بدأ بالظهور والتجلي من خلال استخدام بعض الناشطين الثقافيين أو السياسيين أعمال الفنانين التشكيلية (صور وأعمال مطبوعة عن أعمالهم) حيث تم توظيفها في المظاهرات أو في وسائل التواصل الاجتماعي لضخ وعي شعبي بأهمية الصورة البصرية في الحراك الشعبي وقوتها التأثيرية على الداخل السوري والخارجي الإقليمي والعالمي. ومن خلال هذه الإعمال تم تكريس أهمية هذا الحراك وزاد من الاهتمام الشعبي بقيمة الفنانين في هذه المعركة اليومية الحياتية لدى الجمهور السوري بعد أن كان الفن التشكيلي إلى حد ما لا يعتبر مهنة حقيقية كباقي المهن ويتم التعامل معه كهاوية ونشاط ليس أكثر. الأمر الذي ربما لم يكن الجمهور السوري قد اهتم به أو تعمق سابقاً لأسباب اقتصادية ودينية ومفاهيم اجتماعية حول الفن التشكيلي  ليصبح هذا النوع من الفنون رافداً للحراك الشعبي وداعماً له. وقد كان لبعض الأفراد – غير المختصين –  نشاط مميز ضمن هذا التحرك الثوري الفني مثل ما شهدناه من “لوحات كفرنبل” والتي تم عرضها على وسائل التواصل الاجتماعي ليتم نقل بعضها لاحقاً وعرضه في بعض المدن الأوربية وقد لاقت هذه البوسترات/اللافتات تعاطفاً كبيراً في الشارع السوري وفي الخارج.

من الواضح أن الحراك الشعبي السوري رفد الفن التشكيلي السوري بزخم شديد من فيض المشاعر والأحاسيس والأفكار. ونحن هنا لسنا بصدد التدليل ودراسة مدى قيمة هذه الأعمال الفنية، الأمر الذي قد نتعامل معه في بحث آخر كذلك سيقوم الوقت بدوره بفرز للقيمة التعبير والجمالية والثقافية والإنسانية لهذه الأعمال التي أتى قسم منها كرد فعل مباشر على قسوة المشهد السوري خلال هذه السنوات الاثنتي عشر الماضية.

 رفد الفن التشكيلي السوري في هذا العقد الأخير الشارع السوري بهوية بصرية قوية وحاضرة لم نشهدها خلال العقود الخمسة الماضية من حكم النظام السوري للبلاد أسهمت إلى حد ما بنشر رسالة الشعب السورية في الخارج والداخل والعمل على توثيق لهذه المرحلة المصيرية من تاريخ البلاد.

أما أهم ملامح هذه المرحلة والتي نشهدها اليوم على الصعيد الفني كذلك على الصعيد السياسي هو وصول أعداد كبيرة من الفنانين التشكيليين السوريين إلى بلاد كثيرة حول العالم واستمرار عدد لا يستهان به بتطوير بحثه وتجربته الفنية ليكون صوت من لا صوت في الداخل السوري وليكون ربما الأقدر بحكم مساحة وجوده في مساحة حرية أوسع في البلاد المضيفة على نقل رسالة إنسانية وحضارية واضحة بعد أن تلقى العالم سورية في وسائل الإعلام الدولية على أنها بقعة نزاع مسلح بين قوى لا تقل تطرفاً عن بعضها بعضاً. فإذا بشريحة الفنانين السوريين تنقل ملمحاً آخر من ملامح تلك البلاد المنهكة. لطالما ارتاحت أفئدة السوريين لوجوده رغم كل الصعوبات. فهل سينجح الفنانون السوريين بالوصول إلى شرائح أوسع في مجتمعاتهم الجديدة وتطوير بحثهم وعملهم الفني أمام الصعوبات التي تواجههم في التأقلم والتكييف داخل المجتمعات المضيفة لهم. وهل سيكون لهم أثر واضح في هذه المجتمعات خصوصاً أننا شهدنا في العقود القليلة الماضية أسماء سورية برزت في الساحة التشكيلية العالمية والإقليمية من أمثال مروان قصاب باشي وفاتح المدرس وصفوان داحول وغيرهم؟

أسأل هذا برسم الزمن للإجابة عليها للدلالة ربما على مدى صلابة المنتج التشكيلي السوري خارج عوامل الحظ والقدر.

أوراق تحاور التشكيلي عمر إبراهيم:

  • لاحظنا في اللوحات الأخيرة المنشورة لكم وكأنها تتجلى بألوان العلم الفلسطيني، فما تعليقكم، وما هو آخر مشاريعكم؟

عمر ابراهيم: اللوحات الأخيرة عبرت عن هم إنساني وجداني قبل الهم السياسي. بطبيعتي، أنا دائماً منحاز للضعفاء، ولكن لوحاتي الأخيرة أخذت تعبر عن هاجس آخر وهو الانحياز والتركيز على الفضاء الداخلي للكائن الإنساني بشكل خاص والموجودات في هذا العالم بشكل عام وذلك ضمن مراجعتي لذاتي والوعي بها، هذا الهاجس كان قد بدأ منذ شهر، وقبل ذلك كنت قد عملت على عدة مشاريع أخرى خلال السنوات الإحدى والعشرين الماضية ومنها وجوه من الذاكرة السورية لسنتين وقبلها مشروع للتعبير الفني المعاصر من خلال الخط العربي واستمر البحث أيضاً لعامين وقد تناول مشروع الخط العربي بصفة تجريدية معاصرة بعيدة عن تقاليد الخط العربي الصارمة والدقيقة كذلك كان مشروع وحوش والذي تجلى بهاجس معين بعد وصولي إلى فرنسا لمعالجة عدوي الداخلي وبالنسبة لمشروعي الأخير والحالي ربما كان الفضاء الداخلي يتقاطع بشكل غير مباشر مع الحالة الفلسطينية كحالة إنسانية نمر بها ونسمع أخبارها ولو أن وعيي أصلاً لم يكن متمحوراً تماماً على القضية الفلسطينية ولكن ربما أثارت اهتمامك طبيعة الألوان المستخدمة بالأحبار الصينية كونك متلقياً، والمعروف أن المتلقي شريك إبداعي للفنان من حيث القدرة على قراءة العمل الفني وصياغة تجلياته وفهمه وأحاسيسه الخاصة للعمل.

  • لماذا كانت ألوان المرحلة التي اشتغلت فيها بتأثير من قيام الثورة السورية يطغى عليها اللونين الأبيض والأسود وكيف تحولت اللوحة إلى عمل ملون بالدرجة الأولى في المراحل اللاحقة لدى عمر إبراهيم؟

عمر إبراهيم: كانت الثورة السورية وفيما بعد التي ستتحول بدورها إلى أزمة ومن ثم إلى حرب أياً كانت التسميات التي نطلقها على كل مرحلة. هي المحرضة لمرحلة مشروع الحصان والضبع التي ستتوقف فيها الألوان عن الظهور ضمن عملي وأقتصر المشهد البصري فيها على الأبيض والأسود لإحساسي أني بهذين اللونين سأكون أقدر على تمثيل ما أريد بأصدق ما يمكن. لم أكن يومها قادراً فعلاً على استخدام الألوان أمام المشاهد اليومية الفظيعة التي كنا نشاهدها في وسائل التواصل الاجتماعي أو وسائل الإعلام. الأبيض والأسود اختصروا حالة المجازر والقصف والدمار والتهجير حينها، استمرت هذه المرحلة وأقصد مرحلة اللون بالأبيض والأسود في أوجها خصوصاً بين أعوام 2011-2014. لاحقاً سأقوم بإضافة بعض أنماط اللون المونوكرومي «الحيادي» مثل الأزرق للتعبير عن الضوء وحالة الحلم بالحرية والخلاص أو الأورانج للتعبير عن لون الدماء ربما كنوع من الرغبة بخلق الأمل أمام فعل الحياة والموت اليومية المكثفة التي شهدناها حينها أو لتجنب المباشرة من رسم اللون الأحمر كلون للدماء والاستعاضة عنه باللون البرتقالي الذي يحمل شيئاً من السلام، بعد عام 2014 وعندما وصلت إلى فرنسا كانت حدة المشاهد اليومية التي عايشناها في سورية قد خفت قليلاً، وبدأت الألوان تدخل أكثر إلى لوحاتي وبدأت بعض المواضيع والثيمات الجديدة بالدخول إلى أعمالي من مثل موضوعة جنرالات الحرب وقضية اللاجئين حول العالم. وإذا تحدثت عن خط زمني واضح أستطيع أن أعتبر أن ألواني قد تحولت وتغيرت المجموعات اللونية التي أعمل عليها ما قبل عام ٢٠١١ ومن ثم بين 2011-2014 والألوان الإضافية بين 2014-2022. أما لماذا عدت إلى الألوان اليوم في مشروعي الأخير فبسبب حاجتي في هذه المرحلة داخلياً إلى العودة إلى الزخم اللوني الذي كنت أرسم بها ما قبل عام ٢٠١١، ربما كان السبب أنه بعد الثورة بدأت التوجه للبحث عن حلول يومية وتشكيلية للتعامل مع الوضع الإنساني القائم في منطقة الشرق الأوسط الذي يحمل الكثير من الأزمات وحاجتنا الماسة اليوم إلى خلق فن قادر على تجسيد محبتنا للحياة وتمسكنا بها على الرغم من كل المآسي التي تمر بها المنطقة، ربما أستطيع القول إني وصلت لمصالحة من نوع ما مع نفسي وواقعي في هذه المرحلة من حياتي ليعود زخم الألوان للتخلي ضمن فضاء العمل الفني.

  • هل تحدثنا قليلاً عن لوحاتك “فضاء داخلي” لهذه المرحلة وما هي الألوان وكيفية عملك على اللوحة؟

عمر إبراهيم: باتت الأولوية اليوم لفضاء العمل، للفراغ الكبير الذي يمثل أمامي وكيفية التعامل معه. لم أعد أشعر بالحاجة إلى عناصر لوحتي القديمة من بيوت وأشجار وجنرالات ووحوش… القيمة الأولى والأخيرة للفراغ بمعناه الصوفي، الواعي، والذي يحمل حقيقة من نكون ككائنات حية. هذا الفراغ الذي أملؤه بالألوان وأعمل على حساسية سطح اللوحة يمثل لي العنصر الأهم في بناء تكوين العمل، ودلالته البصرية. أحب التفكير بأني أعمل على إعطاء المتلقي مساحة للتأمل، للحلم وربما للسفر في أعماقه. مساحة للراحة من أعباء الحياة اليومية. أود أن تنتج أعمالاً تفك تحرر وتضيء ويكون للون والضوء الحضور الأقوى فيها.

  • مشروع الوجوه السورية مثير للاهتمام لأن مجرد ذكر الوجوه السورية أستطيع الاستنتاج أنها تأريخ مهم للحظة معينة وحاسمة من التاريخ السوري، كيف تجلى هذا المشروع لدى عمر إبراهيم وكيف عبر عن الروح السورية وعن أي فترة كانت تلك الوجوه؟

عمر إبراهيم: كان مشروع الوجوه السورية عبارة عن وسيط بصري أساسي لربطي بالقضية السورية التي لا أزال مهتماً بها حتى اليوم، تلك الوجوه المتعبة المنهكة من الحرب التي استهلكتها مثيرة جداً للانتباه وللإعجاب لدي، بذات الوقت فقد وجدت فيها رغم إنهاكها أنها مليئة بما يكفي من الجاذبية والروح وقوة التحدي للاستمرار بالحياة. وجْه أبي على سبيل المثال الذي لم أره منذ تسع سنوات ونلتقي عبر وسائل التواصل الاجتماعي ورغم كل تعبه لازلت أجد فيه روح قوية وإرادة واضحة لخلق أسباب الحياة. لذلك أتى هذا المشروع وهذه التجربة لتجيب عن تساؤل حميم لدي: كيف تقوى هذه الوجوه المتعبة والمنهكة من الوضع السوري الداخلي على حمل مثل هذه القوى ومن أين تأتي بكل هذه القدرة على الاستمرار؟ لذلك ترى على الرغم من قسوة ملامح الوجوه في لوحاتي إلا أنها طافحة بالضوء واللون والحياة على الرغم من كل شيء. إظهار نقائض الأمور في العمل الفني هو ما يؤمن لدي خلق حالة دراما العمل ونقطة تفجر الروح البشرية بالصرخة الأولى للحياة. ومن هذه التساؤلات ستتسع رقعة سوريا لدي لتشمل نفس الأسئلة الوجودية في كل أنحاء العالم وفي كل البلاد التي تتخللها أزمات من فلسطين إلى اليمن وأفغانستان وحتى شوارع باريس التي تشهد الكثير من المتسولين والمتعبين والمنهكين في هذا العالم ولكنهم يحملون على الرغم من ذلك سوءهم الداخلي الخاص بهم.

  • لاحظنا على صفحتك على فيسبوك هاجس المنفى والعزلة والوحدة، كيف يرى عمر إبراهيم هذا الهاجس وكيف تأثر به وانعكس على أعماله؟

عمر إبراهيم: أستطيع القول إني أحمل بداخلي اليوم مجموعة من الأسئلة مثل أسئلة المنفى والعزلة واللجوء أو غيرها الكثير. أما الهاجس لدي فهو أمر مرحلي يتعلق بمشروع فني ثقافي وإنساني أعمل عليه بالدرجة الأولى، أو هاجس عام يلازمني بعدما تعرفت على غايتي في الحياة في مرحلة ما من حياتي ألا وهو كيف أستطيع أن أساعد أكبر عدد ممكن من الناس من مكاني الذي أنا فيه.

لا شك أننا عانينا في سورية قبل الثورة هذا النوع من العزلة وعدم الانتماء حين كنا أرقاماً في بلد لم تستطع أن تحمل أبنائها. حين لم نعرف المواطنة واكتساب حقوقنا بشكل شرعي وقانوني. حين كنا نعاني الحاجة والفاقة وكانت مساحة الحياة والوطن محددة بحجم رغيف الخبز لدينا.

لاحقاً ولدى وصولي إلى فرنسا كنا قد حملنا منفانا وغربتنا مسبقاً بداخلنا قبل الوصول. هنا واجهنا غربة الانقطاع عن الجذور، الانقطاع عن مجتمعنا الذي كنا نعتمد عليه ويعتمد علينا في ظل غياب حماية الدولة والقانون للمواطنين. أصبحنا كأطفال لا يملكون لغة للتواصل ولا أهل للجوء إليهم عند الحاجة.

كانت الحاجة ماسة لملء هذا الفراغ المرعب حينها. وقد كان الفن بالنسبة إلي هو قارب النجاة الذي بدأت من خلاله رحلتي في فرنسا. من خلاله أقمت الندوات والمعارض ودرست الفنون في جامعات مرموقة في أوروبا وفرنسا. لكن الشعور بالوحدة ظل ملازماً لي خصوصاً بعد تجربتي الأخيرة مع مرض السرطان العام الفائت. حيث وقبلها تجربة الحجر الصحي في سنوات وباء الكوفيد.

الفرق بين العزلة السورية والفرنسية أن العزلة السورية كانت طوعية بمعنى أنه لا زال لديك خيار أن تكون بين أصدقاء منتقين، أما العزلة الفرنسية فقد كانت من النوع الإجباري والقسري. لقد عانيت طويلاً من العزلة الفرنسية حتى ما قبل عام ونصف وقد أبدو أني أبالغ إذا ما ذكرت أن إصابتي بالسرطان كانت الحل للتصالح بالكامل مع عزلتي ووحدتي، فقد فتحت الباب أمامي لاتخاذ قرار بالطمأنينة والسكينة وقبول كل ما يأتي من الخارج، وخلق سعادتي الداخلية بنفسي أياً كانت الظروف وعدم انتظار أن تصبح الحياة سهلة كي أكون سعيداً ومعززاً بالتفاؤل والأمل، لقد كان السرطان بالنسبة لي مثل وعاء كبير مملوء بالبارود الذي أحضر لإطفاء حرائق صغيرة موجودة في حقل نفط. فالنار الكبيرة التي يحدثها انفجار البارود ستطفأ النيران الصغيرة في حقل النفط، وهذا ما فعله المرض تماماً.

  • ذكرت أنك تقوم بالتدريس في جامعة إقليم الباسك العليا للفنون الجميلة في مدينتي بياريتز وبايون، والسؤال هنا: ما الذي يقدمه فنان تشكيلي سوري لطالب فن تشكيلي جامعي في فرنسا؟

عمر إبراهيم: قمت في السابق وفي جامعة دمشق حتى عام 2002 عام تخرجي بدراسة الفن الغربي بأكمله لاحقاً وبعد تخرجي وسفري إلى اليابان سأكمل دراسة فنون الشرق الأقصى وذلك عام 2006، للمفارقة درست الفنون العالمية في الشرق والغرب عدا فنون منطقتنا، وعندما بدأت بتدريس الفنون في فرنسا ازداد شغفي واهتمامي بدراسة فنون الشرق الأوسط. ما أجده مثيراً للاهتمام هو ارتباط الفنون بمنطقتنا بقضايا سياسة واجتماعية وإنسانية عامة. أما ما لمسته وعايشته في أوروبا فقد كان هناك توجه للترفيه في الفنون أكثر من تعميق قضايا يومية معاشة. هذا الأمر الذي أعطاني أفضلية في إشراك طلابي بقضايا حياتية يومية ومعاصرة وبطريقة ثقافية راقية لكن مع التأكيد على فضل القيمة الإنسانية، فقمت بتعريف طلابي على العديد من الفنانين من الكثير من أنحاء العالم من مثل الفنانين الإيرانية الأميركية شيرين نشأت، فاتح المدرس ويوسف عبدلكي من سوريا، سامي محمد من الكويت، وغيرهم الكثير من الفنانين من جنوب أمريكا والشرق الأقصى. هذا الأمر أثار دهشة طلابي وفتح لديهم الباب على خبرات وتجارب فنية وإنسانية عميقة. وتحويل وعيهم من التعامل مع الفن وأدواته كغرض إلى التعامل مع الفن كأسلوب حياة ورؤية للواقع والذات.

  • تحدثت عن تدريسك لطلابك فنون من أمريكا اللاتينية ولدينا في أوراق من ترجم شعر الشعوب الأصلية في تلك البلاد وخاصة الزنوج والعبودية وكان هناك البحر، فالبحر في القصيدة الثورية للزنوج في الأمريكيتين كان يعني الاستعباد فيما كان لدى اللاجئين السوريين الطريق إلى الحرية رغم غرق الكثيرين ولكن طريق الحرية بالحالتين له ثمن، كيف وجدت رحلتك العالمية وانتقالك بين عالمين: الشرق الأوسط والغرب؟

عمر إبراهيم: تذكرني حادثة مرت بي عام 2016 وبينما كنت أقوم برحلة في قارب الكاياك وهو قارب شخصي لواحد أو اثنين للإبحار في المياه السريعة وأذكر جيداً إني لطالما كنت سباحاً جيداً في منتخب مدينتي الجنوبية السويداء مع العلم أن أصلي من مجدل شمس في الجولان السوري. خلال تلك الرحلة وبعد أن دخلت ماء النهر ببضعة أمتار، هاجمت عقلي ذكرى صديقة لي من درعا غرقت في المتوسط في رحلة للنجاة، حينها شعرت أن الماء من حولي على وشك أن يغرقني وأصبت بنوبة هلع مفاجأة. أخبرت حينها صديقتي الفرنسية بضرورة عودتنا إلى الشاطئ. وبعد بضع دقائق انتهت نوبة الهلع وعدت إلى التجديف متحدياً نفسي من جديد في مياه النهر لأربع ساعات كاملة.

أحاول دائماً الشفاء من ذاكرتي وحنيني وتجاربي الشخصية التي مررت بها. وأعمل دائماً على إعادة تركيزي على وعي وتحدي عقلي لرؤية الوجه الحقيقي للموضوع وليس التجارب التي مررت بها. أحاول العيش اليوم خلف جدار تجاربي الشخصية. وقد صرت في حالة صلح كامل مع البحر. أنظر إليه اليوم كفضاء شاسع يعكس فضائي الداخلي من مبدأ «وتحسب أنك جرم صغير.. وأنت الكون قد انطوى فيك» أذهب لشاطئ الأطلنطي في مدينة بياريتز والذي يبعد عني حوالي نصف الساعة بالدراجة الهوائية. أمتلئ بصوته المهدئ، وأنظر لرحابة اتساعه فقد بات أخيراً لكل أحبتنا الذين غرقوا فيه وطناً يخلدون فيه للراحة. فينا تستمر رحلتنا لبلوغهم هكذا أحب أن أفكر.

وفي صدد الحديث عن الانعزال بالذات والتصالح معها فقد تعرضت للتوقيف مرتين من ميليشا حزب الله في بيروت مرتين وتذكرت أصدقائي الذين تعرضوا للاعتقال لعامين وخرجوا من السجن وكيف وجدوا لأنفسهم خلال احتجازهم نوعاً من الفضاء الداخلي رغم شعورهم بقرب موتهم في عدة لحظات، وكانوا مصدر للسكينة والطمأنينة لباقي المعتقلين من حولهم.

  • كيف يتعامل عمر إبراهيم مع الآخر في بلاد اللجوء؟ وما هي مشاريعه؟

عمر إبراهيم: قمت بتغيير نظرة الشفقة باللاشعور إلى نظرة الاحترام والنجاح، وعملت في الإغاثة في بيروت وعملت على مساعدة أكبر قدر من الأشخاص، وشاركت بمعارض فردية وجماعية في بيروت وفرنسا وتنقلت في اليابان والسعودية والإمارات وكان الاستقرار في فرنسا، كتبت لجريدة المدن العديد من المقالات وموقع مكاتب دمشق التابع لمنظمة الحرب والسلم التابعة للأمم المتحدة باسم مستعار هو جان بلاند، وصممت موقعاً مؤخراً فيه قسمين قسم مخصص للمقالات وقسم لأعمالي الفنية الأخيرة، كل طموحي اليوم هو أن أستطيع أن أعيش اللحظة الراهنة بكامل امتلاءها. وإعطاء الأولوية لرحلتي الداخلية مرفقة برحلتي الخارجية في الرسم والكتابة.

  • لو قرر عمر إبراهيم الآن أن يسأل ذاته سؤالًا، فما هو؟ وماذا سيكون الجواب؟

عمر إبراهيم: السؤال للذات هو دائرة مفرغة وتخليت عن سؤال ذاتي وخرجت من تلك الدائرة المغلقة وقبلت واقعي كما هو، أستمتع بأبسط تفاصيل حياتي والتي قد لا تعتني شيئاً لأحد. أعمل كلما كنت بحاجة إلى ذلك، وتفرغت لمشروعي الثقافي الذي أود أن أخلق فيه معنى قيمة، نعم عملت في الإغاثة والفن التشكيلي والنحت والكتابة، ولكن ما يرضيني ويرضي ذاتي ربما الآن أكثر أن أعرف أن أحد الأشخاص قد تأثر بتجربتي وأنها تعطيه أملاً للإبداع والحياة مما يرضي شعوري بأني ربما أكون قادراً فعلاً على مساعدة الآخرين.

  •  عمر إبراهيم النحات، أين هو من ذلك؟ وما هي أعماله التي يراها مميزة مع تحولاته ومشاريعه؟

عمر إبراهيم: النحت بالنسبة لي عشق لا ينتهي مثل الرسم والكتابة ولكني أواجه حاجزين الأول هو الحاجز الصحي مثل مرض الديسك والسرطان والحاجز الثاني عدم استقراري بمكان معين فالنحت يحتاج إلى مكان ثابت وليس انتقالاً مستمراً ومع ذلك فأنا مستمر بالنحت ولكن بأحجام صغيرة.

بالنسبة للمشاريع اللافتة كانت لدي مشاركة ببيت للفنون في باريس بجدارية الوحوش قياس ٦×٣ متر، وشاركت سنوياً بمتحف تاريخ المهاجرين في باريس بأعمال جدارية عملاقة عن قضايا اللجوء وكذلك تجسيد المرأة السورية بجبل قاسيون لتكون المرأة الجبل بثباتها وتحديها للواقع وحول سؤالك لِمَ ارتبطت بجبل قاسيون أكثر مما أرتبط بجبل الشيخ وأنا ابن مجدل شمس ربما كان الأمر أن هويتي البصرية مرتبطة بجبل قاسيون، مرتبطة بلحظات السعادة اللطيفة بدمشق مثل أوراق الخريف التي تتهشم تحت أقدامك في التكية السليمانية مثل ألوان السماء وتدرجات ضيائها في السويداء وهي الأشياء التي تربطنا بالبلد بشكل أوثق وهنا في فرنسا لا أشعر حقيقة أني لاجئ وأتوجه للمحيط على الدوام في بياريتز ليغمرني ويمنحني تلك الوفرة الداخلية.