والدي سيدي

بعض من سيرة ضابط علوي سوري بعثي

نديم يوسف سعيد (1936-2023)

ياسر نديم سعيد (طبيب سوري مقيم في أمريكا).

العنوان هو أيضاً عنوان فيلم سينمائي إيطالي حضرته في صالة الكندي بدمشق في الثمانينيات، وأذكر لدى خروجي من الصالة أنني قابلت سيدة سورية وهي مطلقة شاعر سوري معروف وكانت صديقة للوالد وأحد أعمامي، أذكر أنها قالت لي “يجب أن يشاهد الفيلم أبوك”، ويبدو أنها كانت تنتقده بسبب شخصية الأب الصارم المستبد التي تشبه إحدى شخصيات الفيلم.

لعل كلمة “سيدي” تتطابق مع شخصية والدي الضابط الذي ملكت حياته الشخصية الصفة العسكرية السلطوية الآمرة بكل مناحيها حتى العائلية منها، فقد اكتشفنا مثلاً نحن أبناؤه السبعة (4 ذكور و3 إناث) عندما كبرنا أنه كان يقسمنا إلى مايشبه الكتائب أو السرايا حيث يكون كل كبير منا مسؤولاً عن عدد من الأصغر سناً منه، مسؤولاً عن دراسته وتتم محاسبته شخصياً عن الأداء المدرسي لأخوته مثلما يحاسب القائد الأصغر رتبة منه عن أفعال جنوده..

كان الاهتمام بالعلم والتحصيل الدراسي هو صفة الوالد الشخصية الثانية بعد الصفة العسكرية..

عندما كان والدي نقيباً في الجيش ولديه عائلة وأطفال درس البكالوريا من جديد وسجل في كلية التجارة وحصل على شهادة البكالوريوس التي كانت معلقة في بيتنا دون أن يكون له فيها أي حاجة أو فائدة مادية في السلك العسكري، وقبل أن يتطوع في الجيش أصلاً درس في معهد للإحصاء تابع للأمم المتحدة مدة عام ربما وتوظف في وظيفة مدنية في وزارة الاقتصاد في دمشق، ولكنه سرعان ما ترك الوظيفة المدنية وتطوع في الجيش الذي كان يحقق له حينها الشخصية السلطوية والترقي الاجتماعي كما يحلم..

كان لا يعترف إلا بشهادة البكالوريا العلمية وينظر بازدراء إلى حملة شهادة البكالوريا الأدبية رغم أنه كان مجتهداً في اللغة العربية والمواد “الأدبية” عموماً فهو يريد التفوق في كل شيء، وحتى عندما كان في دورة أركان في الجيش كان يدرس معنا مثل تلميذ مجتهد وأراد دائماً الحصول على الدرجة الأولى..

طفولة والدي في قرية القطيلبية (جبلة-اللاذقية) كانت حياة فقر حيث كان الابن الأكبر لعائلة فلاحية من العوام كما يسمى عند العلويين تمييزاً عن عائلات الإقطاع (الآغوات) أو عائلات مشايخ الدين، ولكن زوجته الأولى والدتي كانت ابنة مشايخ ورغم خلافه معها وانتقاده لمشايخ العلويين بسبب جهلهم كما يقول وارتزاقهم من العوام (الزكاة تدفع مباشرة لهم دون رقيب أو حسيب على أساس الثقة بأنهم سيوزعونها بالعدل على المحتاجين)، ورغم ذلك تزوج مرة ثانية من ابنة مشايخ أيضاً. كان يعادي الآغوات أيضاً بسبب دورهم السلبي في المجتمع العلوي. بالمناسبة كان ينتقد من لديه الكثير من الأولاد ويقول عن نفسه أنه كان غبياً لأن لديه سبعة أولاد.

لم يشجع والدي أحداً من أبنائه الذكور على تعلم الدين العلوي (الإناث العلويات لا يتم تعليمهن الدين)، وكان يسخر منا عندما نحصل على درجة كاملة مثلاً في التربية الإسلامية في المدارس.

كان والدي يعتبر نفسه ملحداً ولكنه كان يعبد العلم وكان مادياً في تفكيره الفلسفي ولكنها المادية الميكانيكية وليست المادية الجدلية كما كان يظن هو نفسه.

كان والدي قومياً بعثياً يسارياً في فكره السياسي دون التزام أيدلوجي حزبي محدد، فلم يكن يعادي الناصرية أو بعث صلاح جديد أو بعث حافظ الأسد أو رفعت الأسد، بل عمل مع الجميع، ولم يكن يؤمن بالمعارضة السياسية في أي عهد، لأنه كان شديد الإيمان بالفكر التآمري على المستوى العالمي والمحلي، بل كان يعتبر كل المعارضات عملاً استباقياً من أعمال المخابرات نفسها، كي تكشف في كل عهد الموالين وغير الموالين..

سكن والدي بالإيجار دوماً في مدينة دمشق مبكراً جداً، تنقلنا من الشيخ محي الدين إلى كيوان ثم المزة حيث ما زال بيتنا قائماً، رغم رحيل والدتي ووالدي، بيت العائلة الذي قضينا فيه جميعاً معظم طفولتنا وشبابنا. كان والدي مقصد أخوته جميعاً (6 ذكور وأنثى واحدة.. سبعة أيضاً..) في الخدمة الإلزامية أو الدراسة الجامعية أو العمل.. كما كان بيتنا مقصد الأقرباء الأقربين والأبعدين لكل من له حاجة في العاصمة.

عيّن والدي في الحركة التصحيحية مديراً لمدرسة الإعداد الحزبي، حين كانت المكان الذي احتجز فيه مدة أيام قيادات بعثية معارضة للحركة التصحيحية وألقيت على مسامعهم محاضرات تشرح الأوضاع الجديدة وتطالبهم بالتعاون مع العهد الجديد، وبالفعل أصبح عدد منهم فيما بعد من رجالات العهد الجديد.

ولكن أهم منصب استلمه الوالد كان رئيس فرع المخابرات العسكرية في المنطقة الجنوبية (السويداء ودرعا) إبان الحركة التصحيحية أيضاً، وقد سكنا مدينة السويداء سنتين تقريباً، وأذكر حينها أن مجموعة من أقربائنا في القرية زارتنا وكان بعض أولادهم يرسبون في البكالوريا سنوات عدة وطلبوا من والدي المساعدة في تطويعهم في الجيش، ولما كان والدي في المخابرات فقد تطوعوا جميعاً بالمخابرات، وما إن جاءت الثمانينيات حتى كانوا رقباء ومن ثم مساعدين فاعلين في جبلة ودمشق وحلب، وقد استلم اثنان منهم قيادة مفرزة الأمن العسكري في جبلة، ومن كان منهم في حلب، تسبب مع زملائه في اغتيال الطليعة المقاتلة لخال والدي العسكري المتقاعد الكبير بالعمر ولديه محل اسكافي في أحد أسواق حلب، وكان بعض عناصر المخابرات يتوقفون عند محله أحياناً لشرب الشاي، فأصبح هدفاً للاغتيال. كان خال والدي هذا قد ساعده في شبابه حين رفض جدي لأبي إكمال دراسته وطلب منه العمل مبكراً لمساعدة العائلة أو التطوع كصف ضابط فتعهد خاله بإعالته وأخذه معه إلى بيته في حلب حتى حصل على البكالوريا.

ولكن أشهر الأقرباء من صف الضباط في المخابرات العسكرية قتل بطريقة مختلفة حيث اشتهر باقتحاماته الجريئة لمقرات بعض شبيحة بيت الأسد في القرداحة نفسها، وهم الذين يعملون في التهريب وغيره من الأعمال غير القانونية، حين كان الأسد الأب أو الابن نفسهما يحاولان أحياناً ضبط سلوكهم، فنصب له بعض شبيحة بيت الأسد عدة كمائن وأصيب عدة مرات بأعيرة نارية وحاول النظام علاجه في سوريا وفي ألمانيا ولكنه توفي في النهاية إثر مضاعفات جراحه.

 كان رئيس الوالد المباشر في المخابرات اللواء حكمت الشهابي (الذي كان مشرفاً على إدارة الأمن العسكري، قبل أن يصبح رئيساً لهيئة الأركان)، وكان علي دوبا حينها رئيس فرع مخابرات أيضاً، وكان يحاول أحياناً تجاوز حكمت الشهابي بعلاقته مع أبي، ولكن أبي كان يرفض دائماً هذا التجاوز، وعندما استلم علي دوبا المخابرات من حكمت الشهابي نقل والدي من المنطقة الجنوبية إلى دمشق، حيث عمل رئيساً للضابطة الفدائية أقل من سنة، ثم نقل إلى سلاح الصواريخ الجديد حينها، وعُيِّن نائب قائد لواء صواريخ في حمص حوالي السنة، ثم نقل ليصبح رئيس التوجيه السياسي في الدفاع الجوي وكان مقره في المليحة بريف دمشق، وكان ذلك بمثابة تجميد لمستقبله العسكري، حيث كان معروفاً بـ “لسانه الطويل” وانتقاداته الدائمة العلنية للقيادات العسكرية والسياسية باستثناء حافظ ورفعت الأسد طبعاً.

من الحوادث المهمة عندما كان رئيس فرع مخابرات عسكرية أنه اعتقل مرة امرأة، كانت تدير بيت دعارة في درعا يتردد عليه الضباط، خوفاً من احتمال تورطها مع الموساد مثلاً، ولكنها كانت “مدعومة” تخلّص نفسها دائماً منه، حتى جاءه أمر من حكمت الشهابي نفسه بتركها وشأنها. وبعد مدة من الزمن وبعد تركه المخابرات، قرأ اسمها من جملة أسماء المتورطين باغتيال محمد عمران في لبنان.

شغل والدي وقته في التوجيه السياسي بإصدار مجلة “بالمرصاد” مجلة الدفاع الجوي العسكرية بطبعات أوفست حديثة ملونة، وساعده وزير الإعلام أحمد اسكندر أحمد وغيره (كان يتم تهريب الورق من لبنان مثلاً عن طريق الجيش السوري طبعاً بعلاقات شخصية مع ضباط أيضاً)، حيث تم بيعها في المكتبات العامة، وساعدته المرحومة سهام ترجمان وكانت صديقة العائلة في توفير الأرشيف الضروري لإصدار أي مجلة، وقد توفر له مجموعة من الكتاب الضباط المتطوعين ومن الذين يخدمون الخدمة الإلزامية من خلفيات ثقافية وسياسية وفنية وأدبية، وكان ذلك وقت ما سمي بـ “أحداث الثمانينيات”، وأذكر أن ضابطاً كتب مقالاً حينها عن البعث الريفي والمديني (العسكر والمدنيون، اليسار واليمين) فرد عليه حافظ الجمالي بمقال في جريدة الثورة ربما أو جريدة البعث وتتابع هذا السجال مقالاً بمقال حتى جاء أمر من وزير الدفاع مصطفى طلاس بوقف نشر مثل هذه المقالات. ربما كانت هذه الحادثة آخر عهد في الصحافة العسكرية “المستقلة” نسبياً.

في ذلك الوقت المحموم نشر كتاب “الإخوان المسلمون: نشأة مشبوهة وتاريخ أسود” وورد فيه اسم والدي، هكذا: “العقيد نديم”، كضابط مستهدف للاغتيال من قبل الطليعة المقاتلة حين داهمت المخابرات “وكراً”، وصادرت وثائق نشر منها في الكتاب المذكور خريطة لمسار سيارة الوالد من بيته في المزة لمحل خياطة في برزة، حيث كان يأخذ مقاسات جسمه لتفصيل بدلة مدنية، وكانت النية اغتياله في ذلك المسار، ولكن مداهمة الوكر أجهضت العملية، وقد كانت المفاجأة صادمة لوالدي حين أدرك أنه مر وقت طويل بين المداهمة وتاريخ نشر الكتاب، ولم يتم تحذيره حينها، وحين جاء إلى بيتنا مجموعة من الضباط الكبار المعروفين لتهنئة والدي بالسلامة، سبّ علي دوبا أمامهم (بالمونة طبعاً كما كانت حساباته الخاطئة) وتساءل: هل يريدني أن أموت؟. ويبدو لاحقاً أن هذه الحادثة كانت سبب انتهاء عمله في السلك العسكري، فقد اتصل به يوماً بعد زمن قصير مدير مكتب محمد الخولي وطلب منه شرب فنجان القهوة الشهير عند “المعلم”، وأذكر أنه كان يومها قلقاً ولكنه تحمم ولبس أفضل بدلة عنده وذهب للموعد، وأظنه كان واثقاً أنه مهما كان الأمر فلن يتم توقيفه، ولكن الخولي حوّله من مكتبه مباشرة إلى التحقيق، حيث تم تعذيبه والتحقيق معه بتهمة الانتماء لتنظيم 23 شباط، وكان قد تم قبيل ذلك اعتقال مجموعة من الضباط ممن يعرفهم ويعمل معهم في الجيش بنفس التهمة، ثم أحيل إلى سجن المزة وخرج منه بعد أقل من سنة وقد تم تسريحه من الجيش وفصله من حزب البعث.

عندما خرج من السجن بقي سنتين غير متوازن أو في حالة انعدام وزن، ثم حسم أموره بالانتقال إلى اللاذقية ومغادرة دمشق نهائياً، وقد ترافق ذلك لسوء حظه مع تمردنا عليه نحن أولاده وزوجته والدتي أيضاً بشكل جماعي لإيقاف استبداده العائلي نهائياً وتهديده الدائم لنا جيمعاً بالإيذاء الجسدي والمعنوي مثلما كان يفعل حين كنا أطفالاً، ونتعرض لعقوبات جسدية شديدة في مناسبات نادرة ولكنها حاسمة (ربما تعرضت شخصياً لأكبر أذى نفسي منه كوني الذكر الأكبر في العائلة والذي تكون الآمال عليه معقودة دائماً، فإذا تم ضبطه يمكن تأمين ضبط بقية الأولاد أيضاً) للسيطرة على سلوكنا جميعاً على إيقاع رغباته وإرادته في طريقة حياتنا الشخصية في الطفولة والشباب الأول.

تعثر عمله المدني سنوات قليلة ثم توفّق بالحصول على رخصة عمل في مكتبه الخاص جانب القصر العدلي الجديد في اللاذقية، حيث ازدهرت أعماله المختلفة من تعقيب معاملات قضائية والتوسط بين البيع والشراء، واعتمد في ذلك على علاقات واسعة مع قضاة ومحامين، وقد حصل على تثقيف حقوقي جيد كعادته بصورة شخصية وليس عن طريق الجامعة، وعرف أخيراً كيف يحصل على المال دون انتظار الراتب الشهري المقطوع الذي كان يحصل عليه من الجيش.

اعتمد عندما سكن مدينة اللاذقية على وسائل النقل العامة عدة سنوات قبل أن يتمكن من شراء سيارة خاصة (بيك آب زراعي على طريقة الكثير من السوريين حينها)، وكان يتعرض لمواقف صعبة عليه شخصياً وهو المعتاد على سيارات الجيش وسائقي الجيش، وعلى خوف الناس من سطوته، ويبدو أن المجتمع العلوي، الذي خربّه النظام الأسدي مثل غيره من المجتمعات السورية، لم يعرف يوماً معنى عبارة “ارحموا عزيزَ قومٍ ذُلْ”، فقد تطاول عليه حتى من ساعدهم في الماضي، واضطر أحياناً إلى الاستعانة بزعران لحمايته من زعران آخرين.

كان عصامياً طوال حياته ولم يستغل مناصبه لتكوين رأسمال شخصي له، وعندما تقاعد من الجيش اكتشفنا أنه كان قد سحب سلفة مسبقاً من مخصصات التقاعد خصمت من مستحقاته. تقاعد الوالد من مكتبه الخاص أخيراً وأجّره وغادر اللاذقية إلى القرية ليسكن بيته مع زوجته (خالتي) في قرية مجاورة “بحزييت” وهو بيت كبير مؤلف من طابقين مع أرض صغيرة حوله يتسلى بزراعتها. شغل وقته عدة سنين قبل وفاته في إعطاء دروس مجانية لمن يرغب من الطلاب ممن حوله من كل المراحل الابتدائية والاعدادية والثانوية.. كان يدرّس كل المواد تقريباً الأدبية والعلمية.. عانى من لمفوما مزمنة ولكنها كانت مستقرة ولم يحتج علاجاً كيماوياً أو شعاعياً، ولكنها أضعفت مناعته حتى داهمته عدوى الكورونا فقضت على رئتيه ولم يستطع النجاة وتوفي في مستشفى تشرين الجامعي في اللاذقية ودفن في قرية القطيلبية.

كانت شخصيته شخصية Loner يرغب الآخرون في الاقتراب منه ولكنه يصد الجميع، ولم يكن يتعامل بالعواطف والمشاعر (أذكر عندما كنا أطفالاً نحضر فيلماً ميلودرامياً مصرياً في التلفزيون السوري أن أمي كانت تخرجنا سريعاً من صالون البيت بهدوء لندخل غرف النوم عندما تلاحظ أن عيني أبي اغرورقت بالدموع وهو يحاول إخفاء ذلك عن الجميع)، وتقول والدتي أنه لم يحمل في حضنه أحداً من أولاده منها ولم يكن يعرف كيف يدلّل الأطفال، وكان دائم التفكير والانشغال بعمله العسكري (والقضايا العامة)، العمل العسكري الذي أحبه حتى أنه حصل لدى تقاعده على مخصصات مالية عن إجازاته السنوية المستحقة التي لم “يستمتع” بها، (كان قانون الجيش مختلفاً عن قانون العمل الموحد سيء الصيت الذي صدر لاحقاً ووحد قوانين مختلفة للجيش والموظفين المدنيين والعمال في قانون واحد جمع سلبياتها كلها وتخلص من إيجابياتها كلها).

كانت شخصيته آسرة للجميع فهو محدّث بارع وصوته عال دائماً، ويستولي على وقت أي جلسة اجتماعية مهما كان الحضور، فقد كان قادراً مثلاً على روي حتى النكات التي يعرفها الجميع مراراً وتكراراً ولكنه يرويها في كل مرة وكأنك تسمعها لأول مرة وتضحك لدى سماعها منه في كل مرة. لم يكن أصدقاؤنا يسمحون لنا بانتقاده فالكل معجب به من بعيد على طريقته. وكانت ثقافته شفاهية (لم يكن يقرأ كثيراً) بل كان يحب مجالسة المثقفين والمفكرين ويأخذ ويحفظ عنهم مباشرة، فقد كان يحفظ مثلاً الشعر (خصوصاً شعر نزار قباني الذي يحبه) عن ظهر قلب ويردده دوماً.

مع تقدم العمر والحياة المدنية وزواجه الثاني، وقد قضى مع زوجته الثانية عمراً أطول مما قضى مع والدتي، تحسنت شخصيته الصارمة قليلاً، وصار تعامله مع الأطفال والشباب الصغار أكثر ليونة وتسامحاً، وصار أقدر نسبياً على التعبير عن عواطفه، كما تغير الكثير من أفكاره الاجتماعية، واعترف بتخلفه الاجتماعي في كثير من الأمور. بالمناسبة كانت المرحومة سهام ترجمان، وهي دمشقية متزوجة من ضابط علوي استشهد فيما بعد في قصف إسرائيلي قبيل حرب تشرين، تنتقد الضباط العلويين الذين كانت تستقبلهم في بيتها مع زوجاتهم.. تنتقدهم حين تسمع نقاشاتهم السياسية الحارة فيما يخص المدينة والريف والسنة والعلويين وتقول لهم بما معناه “إنكم صحيح بتفهموا بالسياسة، ولكنكم متخلفون اجتماعياً، ولا تفهمون المجتمع السني الدمشقي خاصة”.

كان والدي أحياناً كثيرة ينتقد نفسه بطريقة راجعة، ولكنه لم يكن يوماً يتقبل النقد من الآخرين أبداً حتى آخر لحظة في حياته، ينتقد نفسه بأنه لم يفهم التغيرات الاجتماعية والسياسية في حينها.. “لم يفهم اللعبة” كما كان يقول ويعتبر نفسه فاشلاً في الحياة العملية قياساُ لزملائه، ولكنه يقول أنّ ضميره كان مرتاحاً وينام دائماً دون مشاكل مع نفسه.

زرته آخر مرة مع زوجتي وبناتي في بيت بحزييت في صيف 2011 (وكانت آخر زياراتي لسوريا أيضاً حين كنت مقيماً في السعودية)، وكنت أعرف في قرارة نفسي أنها ربما تكون آخر مرة أقابله فيها، ولكنه لم ينتبه لذلك، وبدل أن يستغل المناسبة في التبسط معي ومع عائلتي، امتلك الحديث كعاته لمدة أكثر من ساعة، والحديث موجه لي، وكان الموضوع طبعاً الثورة السورية، وكان يعرف موقفي، ولذلك أراد شرح موقفه وفهمه لما يحدث، وخلاصة موقفه أن الأمور ستنتهي خلال أسبوعين بالحل الأمني المعروف (سمعت لاحقاً هذا التعبير الزمني عن انتهاء “الأزمة” والذي تحول إلى شهرين ثم إلى سنتين من أبناء وبنات ضباط علويين أيضاً).

كان رحمه الله يمثّل في اعتقادي واحداً من فئة الضباط العلويين من أبناء جيله الذين انتهوا إلى السجون أو المنافي أو التهميش والنسيان أو القتل.